وفاء

توفيقة خضور


سمّره المشهد عدّة دقائق أمام صالة بيع المفروشات التي يمتلكها صديقه، راعته رؤية قطع الأثاث الفاخرة محشورة في زاوية منها خلف جدار متحرك من الخشب، بينما غصّ باقي المكان بالأثاث القديم المتآكل.. شاحنة كبيرة تفرغ محتوياتها في جانب، وأخرى يمتلئ جوفها بأثاث يبدو جديداً.. اقتحمت عيناه أكداس الجلبة والفوضى بحثاً عن صديقه، ألفاه يكلم أحد الزبائن، ويسجّل ما يُمليه عليه، اقترب أكثر، فوقعت عيناه على لوحة مُعلّقة على واجهة المشغل، وقد كُتبت بخط أنيق، وأحرف كبيرة، كأنها تدعو الجميع لقراءتها.. لبّى نداءها، قرأها كلمة كلمة، وابتسامته تتّسع شيئاً فشيئاً حتى أضاءت وجهه عن آخره..

هذه كلماتي أنا، أجل.. هذا ما قلته لصديقي يوم زارني في بيتي قبل أشهر، كانت هذه زيارته الأولى، فقد كنا نلتقي في مقهى شعبي وسط المدينة، جاءني دون موعد، وما أن تثاءب بابي في وجهه، حتى بادرني بصوت العجب:
- أهذا هو بيتك أيها الكاتب العظيم؟

دعوته للجلوس، والقلب يبتسم لحضوره المشتهى:
- أجل يا صديقي، أعجبك؟ أليس كذلك؟

تفحّصت يداه وعيناه الكنبة التي غاص داخلها، وسمع أنينها رغم نحول جسده، وخفّة وزنه.. تلعثم لحظات قبل أن يقول:
- أنت يا صاحبي كاتب مرموق، وتستحق أن تجلس على كنبات مطعمة بالذهب، لا على هذه العظام المقوّسة ذات الوجوه المهترئة الكالحة..

قهقهتُ من أظافر قدميّ حتى غرّتي، ثم بدأت ضحكاتي تخفت حتى تلاشت، وحلّ محلّها الوجوم.. قلت بما يشبه الحزم:
- أرجوك يا صاحبي لا تشتم أصدقائي، فهذه الكنبات التي أثارت نفورك، عاشتني وعشتها، عاصرت ضعفي وقوتي، شربت آهات وجعي وشهقات فرحي، تحمّلت نزقي ونوبات غضبي.. قبلتني عاشقاً مجنوناً يتقافز فوقها ليقطف حليب النجوم، ورضيت بي رجلاً مكسوراً يستلقي فوقها بكل ثقل خيباته، ويذرف على صدرها عصائر آلامه، لهذا يا صاحبي لن أغدر بها، وأتخلى عنها، ولا أتقبّل شتمها.. فهذه الأثلام التي تراها على وجوهها هي تجاعيد روحي، هي آهاتها إذ تتألم لألمي، وعظامها المقوّسة هي انكسار ظهورها حزناً عليّ، فكيف تريدني أن أتخلّى عن تاريخي، عن صورة حياتي في مرآةٍ لا تكذب ولا تحابي..

قلتَ لي ويدك الواجفة تطبطب على كتفي:
- ما رأيك أن أرمّمها لك، أجبر كسورها، أرفو ثقوبها، وأجدّد شبابها؟

صرخ استنكاري:
- وهل ستبقى هي بعدما تفعل بها كل هذا؟ لا يا صاحبي، فالعجوز التي ستُجري لها عمليات الشدّ والشفط، النفخ والقص واللصق لن تبقى هي ذاتها، بل ستكون صورة مشوهة.. ستضيع بين حالتين لا تشبهان بعضهما، فلا هي قادرة على العيش كشابة رغم أنها ستبدو كذلك، ولا هي بقادرة على العيش كعجوز حكيمة خبرت الحياة، عجنتها وخبزتها، فضياع تعابير الحياة وبصماتها عن وجهها سيقضم روحها، سيقرضها بأنياب التيه، ويشوّهها.. لهذا سأبقى وفياً لأثاث بيتي.. ممتناً لكل شعرة شائبة منه، لكل ضرس هرب من قضم الفراغ، لكل سنّ كسره طحن الحصى..

دمعت عيناك، ورأيتك تلثم يد الكنبة التي تجلس عليها، ثم تنهض، تعانقني وتغادر.

وبعد يومين فقط عدت إليّ تحمل مع مساعدك أشياء لم أفهم علّة وجودها في بيتي، وقلت لي:
- أرجوك يا صاحبي امنحني بعض الحرية والوقت لأكافئ أثاثك على وفائه لك..

صرختُ بك بلهجة العتب الجريح:
- ألم تفهم بعد أني ضدّ عمليات التجميل بشتى صنوفها ومسمياتها؟

لثمتَ جبيني المندّى بعرق بارد، وهمست:
- هي مداواة الجراح كيما تتعفن، ليس إلّا يا صاحبي، وأعدك ألّا أخدش ذكرياتك النائمة في أرحامها، وألّا ألامس أوجاعك المحفورة على وجوهها، أعدك أن أتعامل معها بحبّ كما يتعامل الإله مع مخلوقاته (بالرحمة لا بالعدل).. فأنا لن أُسيل دماءها، أو أجرح كبرياءها.. لن أبتر عضواً منها حتى لو كان يستحق البتر..

أهلاً .. أهلاً صديقي الكاتب الكبير.

سحبني ترحيبه الحافل بالغبطة من شرودي، فوجدتُني أشير إلى اللوحة، وأسأله سؤال العارف:
- ما هذه؟

ابتسم بزهو وقال:
- كلماتك هذه غيّرت حياتي، فمنذ افتتحت ورشتي، وعلّقت هذه اللوحة على صدرها، والعمل لم يتوقف لحظة واحدة فيها، يقرؤها العابر من هنا، فيعود بعد ساعات حاملاً أثاث بيته لأصلحه، والجميع يوصيني بما أوصيتني به: لا تخدش ذكرياتي المعلقة على أهداب القماش، وآهاتي الساكنة في نقيّ العظام، فأردّد على مسامعهم ما همستْ به روحي لروحك: (سأعامل أثاث بيوتكم بالرحمة لا بالعدل..).

 ضحكتُ من أعماق أعماقي، وهتفت منتشياً: أنت أيضاً كاتب عظيم يا صديقي.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها