كان أبي مغرماً بالورود، فالورود الحمراء والبيضاء حاضرة بيننا، تتوسطها ياسمينة كبيرة، طغت بجنونها، حتى دخلت غرفنا وصارت منا.. في الصباح يجمع الياسمين المتساقط، يغمره بالماء يوقظ الرائحة وأمي، يقطف الورود ذات العطر الفواح يعد شراب الورد، ومعقود الورد، وكان ماهراً في ذلك، أما الورود الحمراء، والبيضاء، فلا يقطفها، كان يقول: إنها خلقت لغايات، أكثر نبلاً وجمالاً.
تعلمت من أبي أن أستيقظ باكراً، أتفحص الورود التي نامت تحت وطأة المطر، وأصوات السماء، أتناول المقص، وأقصها، ثم أقطف المتفتح منها، أصنع من مرارة الأيام شراباً وحلوى. كان يحزنني حبسها في آنية صغيرة للزينة، وإن كنت أفعل ذلك كبقية الناس، كانت تذرف أوراقها، حزناً حتى تموت. يقول أبي: خلقنا وفي دواخلنا ياسمينة صغيرة، تفوح جمالا وبراءة، نكبر، تتفتح جوريا، أبيض يشوبه بعض الحمرة، تراوغنا الحياة، وتغدر بنا، تورق قلوبنا جوريا ينزف وفي كل يوم ننبض نزفاً جديداً، علينا أن نجمع بين الأضداد، الموت والحياة، الفرح والألم، الحب واللاحب، لتكتمل الحياة، علينا أن نصمد، وأن نوازي بين الأشياء؛ إذْ إننا نعيش في دائرة مغلقة، يحكمها قطبا الحياة والموت؛ تنفرج على حين فجأة يتسلل الموت يأخذنا، لعالم لا ندريه.. نخرج من الدائرة، ونصبح مجرد ذكرى·
في دوائرنا تسكن الحياة بأوجاعها، أفراحها، والكثير من البشر، منهم من يقاسمنا الأيام والساعات وهم الجيران، زملاء العمل، الناس الذين نلتقيهم في كل يوم، قد نحبهم، وقد لا نحبهم، لكنهم موجودون معنا، منهم من تسقط أوراقه من دفاتر أيامنا، فنرحل عنه أو يرحل عنا، ومنهم من يبقى وآخرون أحببناهم ونحبهم يعيشون فينا، وهم واقعنا، تمطرهم دواخلنا، لم نخترهم، لكننا نحبهم، نحيا ونحبهم، نموت ونحبهم، نحزن عليهم، نفرح لهم، فهم منا، ونحن منهم. آخرون تطرب لهم قلوبنا، نوطنهم فينا، ربما رغما عنا، وربما باختيارنا؛ لهم عالمهم الخاص بهم، وواقعهم الذي لا يستطيعون الفرار منه، قد تتماهى ألوان الحياة، والموت لديهم، فيختارون الواقع الذي بظنهم أنه يربطهم بالحياة أكثر منا، يحصدنا الألم ليذر أجسادنا تراباً وتجنح أرواحنا لعالم آخر. أحببت فلسفة أبي، وحديثه حول مكنون الأشياء، كرهت نقيضه الذي كان في أمي، كانت تقطف الجوري الأحمر، تشبك وردة في شعرها أو على ياقة قميصها، وتجلس قبالة أبي، والغريب في الأمر أنه لم يكن ليحتج يوما، أو يغضب منها، يضحك طويلا ويقول: إنها كثرة الحب.
كان أبي وأمي الضدين تماماً، لكننا لم نرهما يوماً متخاصمين، مرض أبي واشتدت عليه الأوجاع، كان ينظر الدم الذي عاث بمنديله وأفسد رونقه، مبتسماً يخاطب أمي: إنها كثرة الحب، يا مريم! ولطالما كان يسأل أخي ليقطف وردتين، واحدة حمراء، وأخرى بيضاء، وبيديه المرتعشتين كان يقدمهما لأمي عربون حب إلا أنه هذه المرة وعلى غير عادته طلب وروداً بيضاء فقط ناولها لأمي قائلاً: يبقى الأبيض بداية كل شيء ونهايته، وغاب.
لم تحتمل أمي البقاء مع تلك الورود في المنزل، وقد كان يجن جنونها لو كنا نحاول أن نقطف واحدة.
صحوت البارحة لأجد وردتين على نافذتي، واحدة حمراء وأخرى بيضاء، لست أدري من جاء بهما ليفاجئني، تراها كثرة الحب كما كان يقول أبي؟ لست أدري! كذلك اليوم صحوت لأجد وردتين اثنتين، خرجت للحديقة أستطلع الأمر وقد بعثت الشمس بدفئها، تنشر الروائح، بعد مساء شديد المطر، وللصدفة العجيبة رأيت رجلا في الحديقة، يتفحص الورود، وينظر ما حوله بعينين أضناهما الحنين، وكأنه عائد بعد طول غياب ولما رآني نظر إلي باستجداء غريب، أتمعن ذاك الوجه هو ليس بالغريب عني، أخذت أدقق في تلك الملامح، يا لهول ما أرى، يكاد يكون أبي، نفس الوجه، الجبهة، العينان المبللتان بالحزن وبلحظة شعرت أنني سأركض إليه وأرتمي في أحضانه، لكن شيئاً ما لست أدريه منعني، وقد تذكرت أن أبي توفّي منذ زمن، أحس الرجل بقلقي وحيرتي، ابتسم قائلا وبصوت هادئ مطمئناً: لا تخافي يا صغيرتي، تراها جنات كانت مثلك إن قلقت أو خافت وكان صدري مأواها واقترب يربت على كتفي، شعرت بطمأنينة غريبة وحنان لم يلامس قلبي منذ زمن بعيد ينظر إلى الطاولة، حيث وضع عليها شراب الورد ومعقود الورد، ثم سألني بصوت هادئ فيه الكثير من الرجاء والحنان: لو تسكبين كأساً من شراب الورد، فالشوق إليه يدعوني لأتشمم روائحه وأتذوقه، أشير بيدي: تفضل اقترب من الطاولة وأخذ يسكب شراب الورد قائلاً: يا الله سلمت يداك يا جنات! ثم تناول ملعقة وأغمض عينيه وهو يتذوق معقود الورد قائلاً: الله، الله.
حركاته وشكله تذهب عقلي، لا أعرف ما سأفعل سوى التحديق مشدوهة، ثم أكمل علي دهشتي وقد أشار إلى الورود الحمراء والبيضاء قائلاً: نزف القلوب لا يقطف يا جنات، تراك نسيت ذلك. سقطت على الكرسي وبلا شعور سألت نفسي من هذا؟! ومن تراه يكون؟ وكأنه يقرأ أفكاري. قال: أعرف هذا البيت بكل تفاصيله الصغيرة والكبيرة، ثم اقترب من الياسمينة يجمع زهرها المتساقط من حولها وقد اشرأبت بعنقها تعانق السماء، أما فروعها فقد تشعبت منها ما يزلف للداخل، وآخر "تعربش" النافذة ليلتقي بالمجنونة، والتي أطلقت صغارها هنا وهناك حتى غدت حديقة تفترش الحائط، قائلاً: الكل على حاله حتى هذه الجورية، جورية جنات، ثم ارتسمت على شفتيه ابتسامة مشيراً للدرج الذي في الصالة قائلاً: ها هي جنات تهبط الدرج بثوبها الأرجواني اللامع، تحتفي السلالم بها وهي تصعد وتهبط وترقص معها، تغار منها درجات العلية فتسقطها وتكسر ساقها، أحملها في الصباح، نهبط للطابق السفلي نمضي نهارنا، وفي المساء أعود بها للطابق العلوي حيث البلكونة تنتظرنا لنناجي النجوم معها، وفي قلب الليل نأوي إلى بعضنا وننام، ها هي جنات اليوم تهبط السلم ولأول مرة بعد مرور شهور قضتها لا تستطيع السير.. تمشي؛ أصغي إليها جيداً، هل تسمعين خطوها وهي تهبط السلم، ضحكاتها وهي تتردد هنا وهناك. يهمس أنا أسمعها ينادي: جنات جنات. أتراجع للخلف وقد تملكني الخوف أسأل نفسي: أي صباح هذا الذي جاء بهذا المجنون؟ يردد: جنات لم تمت لم تمت، ها هي تقف أمامي ويقترب: إن لم تكوني جنات فمن أنتِ إذن؟! ولماذا تشبهينها إلى هذا الحد؟ ينظرني باستغراب ودهشة كبيريْنِ لكنك ما زلت صغيرة وقد رسم الزمن خرائطه على جبهتي، وتسكعت الأسقام في أروقة جسدي تعيث فيه الخراب، يسعل بشدة، ثم رمقني بنظرة أعجز عن وصفها قائلاً: أرى فيك جنات وهذا يعني أنك ابنتي؟! نعم ابنتي، (يهز رأسه وكمن يهذي).
قالوا: ماتت.
قلت وأنا أرتعش: صحيح أن اسمي جوري لكنهم ينادونني جنات وبصوت هادئ فاض بالحنان قال: ورثت هذا المنزل عن أبي وقبل أن تولدي (عيناه تجولان ما حوله) ويكمل؛ كنت الابن الأصغر، وكنت الوحيد بين إخوتي الذي لم يكمل تعليمه، كنت الشغل الشاغل لأمي، ولشدة خوفها علي استطاعت إقناع أبي أن أتزوج في هذا المنزل وأن أسكن معهم، ثم بعد ذلك انتقلت العائلة لبيت آخر وصار منزلي في البداية، غضب أخي الأكبر وقاطعني هو وبقية إخوتي، لكنهم مع مرور الوقت استسلموا لأمر الواقع، وعادت العلاقات بيننا، أنجبنا جنة الصغيرة، وبعد مرور سنة جاءتنا الفرصة للعمل في الخارج.
في ذاك اليوم المشؤوم ودعنا الأهل والأصدقاء وعلى الطريق الصحراوي داهمنا قطاع طرق، أطلقوا النار علينا، ونهبوا كل ما لدينا، لم يكن معنا سوى مبلغ صغير يعيلنا ريثما أبدأ العمل، وبعد مضي عام وربما أكثر، استفقت من غيبوبتي لا أرى أو أعرف أحداً سوى وجه جنات الذي لم يكن ليفارقني، فقدت قرة عيني، وطفلتي الحلوة، قالوا: زوجتي ماتت فور الحادث، أما جنتي الصغيرة فبقيت حية، حية، وبصوت تخنقه الدموع ثم ماتت وكأنه يحادثها: جنات منذ رحيلك لم أدخل الشارع قط لكن أحاديث الناس عنك، وأنهم يرونك في كل يوم، ويسمعون ضحكاتك، حملني لأجيء، يصوب نظره نحوي وعلى وجهه ابتسامة حائرة: لما رأيت النور المتقد في عينيك وقد أضاء الشارع عرفت أنك جنات فجن جنوني كنت أتسلل للحديقة ليلاً، أجلس بين الورود ونتحدث عنك، نقول أشياء وأشياء لا تعرفينها حتى أنت، ثم جاءتني الشجاعة يوماً لأطرق بابكم، ولا أدري ما الذي كنت سأقوله؟ إلا أن أباك وأمك استقبلاني بحفاوة كبيرة وكأنهما يعرفانني منذ زمن بعيد، بت أزوركم كل يوم، تعلقت بك، لكن الحالة التي كانت تنتابني بعد الحادث منعتني من الاستمرار وعدت للمشفى أتابع العلاج، قال الطبيب إنهم لم يتمكنوا من نزع الرصاصة من مؤخرة رأسي؛ لأنها استقرت في مكان ما من رأسي؛ الأمر الذي كان يسبب لي الألم الشديد حتى الغيبوبة، لكن أمك قبل ذلك أسرّت إلي بسرٍّ، يبتسم هل تعرفينه؟ هل أخبرتك عنه؟ أهز رأسي أحدث نفسي: كل ما فيه يقول إنه أبي وبآهات مكتومة قلت في نفسي: آه كم أشتاق إليك يا أبي!
ثم همس بفرح الواثق، روح جنات لم تزل تسكن هذا المنزل، نعم إنها هنا. يغير من نبرة صوته لتصبح أكثر جدية خبرتني أيضاً عن الأشياء الغريبة التي كانت تحدث، ففي صبيحة اليوم الذي سكنتم فيه المنزل تفتحت الورود، وغنى الكروان يهمس وكأنه يخشى أن يسمعه أحد: يقولون إن جنات لم تكبر بعد، يقهقه: هم صادقون في ذلك فالأرواح لا تكبر أبداً، أما الأجساد أنظري حالي عجوز هرم، يقترب الآن جاء دورك لتقولي قولي الحقيقة ولا شيء غير الحقيقة، أرجوك تراك جنات أم أنك ابنتي؟ آه لو تعلمين بحالي؟ أرجوك، أرجوك قولي وغطى وجهه بكفيه يبكي، شعرت بأنّ قلبي ينشطر نصفين، نصف مع أبي ونصف معه، اقتربت وقد زال خوفي حتى زاد شعوراً إنني سأرتمي في حضنه أبكي رغم الحيرة التي تتقلبني، لكنه سبقني وعيناه تمطران حناناً يمسح دمعي قائلاً: لا تبك يا جنة روحي، انتفضت مبتعدة، ضحك من سذاجتي قائلاً: أنت جنتي الصغيرة ولست الكبيرة وإن كنت تشبهينها. شعور غريب ينتابني بين أن أقبل أن يكون أبي أو أن أتمرد على مشاعري حتى وإن كان أبي أو عمي وليكن ما يكون، فأبي الذي أعرفه قد مات، وأخاف أن أدخل في متاهات لن أخرج منها. قلت بنبرة فيها نوع من اللؤم والخبث: أنا لا أعرف جناتك التي تتحدث عنها، ولم أرها، أو علّني سمعت صوتها أبداً، وإن كانوا ينادونني باسمها أو علني أشبهها، لكن الناس يختلقون الأكاذيب ولا شيء غير الأكاذيب ثم يصدقونها. قال بصوت ضعيف وبرجاء المتأمل: منذ زمن وأنا أبحث عنكما، هل تعلمين أنني لشدة حيرتي البارحة قطفت وردتين اثنتين واحدة حمراء وأخرى بيضاء، وهل تعلمين أين تركتهما؟! يصمت ثم يجيب: نائمتين على نافذتك، وكما كنت أفعل لأوقظ جنات، وبحنان غريب ينظرني.. ويصمت عادت الأفكار تنهش بي مرة أخرى: من هذا ومن تراه يكون؟! أبي؟! وأبي الذي كان من تراه يكون؟ كان يحبني بجنون.. وهذا مثله مجنون أيضاً، ولماذا أشبه جنات تلك؟ ومن هي؟ ثم إنني جنات أيضاً، صحيح أن اسم أمي مريم إلا أنهم في بعض الأحيان كانوا ينادونها جنات· يا الله ما هذا اللغز العصي على الحل، ولكن أين كل هذا الغياب؟ لماذا لم نره من قبل، وأمي من تراها تكون؟ جنات؟ مريم؟ أفكاره، تصرفاته، شكله تقول إنه أبي.
أشعر بدوار غريب، أسئلة ممزقة تعتريني لا أعرف لها جواباً، والسؤال يلد سؤالاً جديداً، أصحو من شرودي على صوت الهرة وهي تموء، تدور حولي لأطعمها. وقعت عيناي على الوردتين، تناولتهما وبصوت تفشى فيه الألم: هكذا هي الحياة، ألوح بالوردتين. آهات مكتومة استقرت في حشرجة أنفاسه المتقطعة، رغم بيارق الفرح التي لاحت في عينيه، ثم اقترب يربت على كتفي كما كان يفعل أبي، حدق في وجهي قائلا، وبصوت حنون أضناه التعب:
يا ابنتي.. نهاية الأشياء بداية، لا بُدّ للأبيض أن يتفوق في النهاية؛ لا بد، ثم رمقني بنظرة من المحال أن أنساها، ورحل.
إحساس غريب استيقظ في دواخلي، صدى صوته يتردد في دهاليز روحي، أسمعه وهو يروح ويجيء، أو علّه سكن المنزل هو أيضاً، كما جنات تاركاً وردتين نائمتين على أصيص النافذة واحدة بيضاء، وأخرى حمراء، بزغت بينهما شقوق النور.