مفهوم التدبير الثقافي يتّصلُ بعاملَيِ الصدفة والضرورة.. وكلا العاملين حاضرين حصراً في مألوف القوانين الطبيعية للوجود.. كما أنهما يتصلان بخيار المعرفة والثقافة بوصفهما التعبير الأقصى عن ماهية الوعي في تجلياته المباشرة وغير المباشر.
هُنا؛ نَقفُ على شَذرات كاشفة لمثل هذه المعاني.
المحرر
خَفّف الوَطْء..
الحاجة أم الاختراع، هذه اللافتة التي كانت على السبورة: اكتب في هذا القول، تعلمنا منها ثم علمناها لطلابنا واتخذناها سلوكاً في حياتنا المنزلية بعدما كنا شهدناها في منازل أهلنا وأحيائنا وحتى الحضارات السابقة لنا، وما ذلك إلا لتستمر الحياة وتستدام على خير ما يرام. وعلى قول شاعرنا المعري:
خفّف الوطْء ما أظن أديم الْـ ... أرض إلا من هذه الأجساد
ربّ قبر قد صار لحداً مراراً ... ضاحكٍ من تزاحم الأضداد
وهذا الأمر معروف في الحياة البسيطة التي أفادت من المخلفات، فاتخذتها وقود جلة، وكم أعاد أهلنا تدوير ملابسنا لتشمل العائلة كلها، حتى الأحذية وحقائب المدارس والكتب وأدوات الهندسة وأقلام الحبر السائل، بلا غرابة إن كنا نرى أنفسنا وغيرنا يضعون الملح والسكر والسمن والعسل في أدوات كانت مستخدمة لغير هذا الغرض، بالطبع هذا قبل أن تنتشر دوامة الاستهلاك المنزلي السريع وتتزاحم أكياس النايلون في القمامة ومفروشات الاسفنج تُلقى عبثاً هنا وهناك، بعد أن تجعدت وانكمشت، ونحن نتحسّر على أيام القطن والصوف والسجاد بعد زحف الموكيت والجلود الصناعية والأخشاب، لتغمر البلاط والسيراميك الجميل بالزخرفات والنمنمات، كان فن التصرف ديدن العقلاء الذين تصرفوا عن تدبير لا عن شح وبخل، وحتى لو كان التصرف عن قلة موارد لا بأس، ففي جميع الأحوال نحقق قول رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم: "ما عال من اقتصد"، فلا نأكل هما ولا نحرم من تشغيل عقل للارتقاء والإبقاء، وتتحول هذه الثقافة الاجتماعية إلى مضرب أمثال كقولنا في الكنايات:
◅ الثوب رقعته منه وفيه.
◅ على قد لحافك مد رجليك.
◅ خبي قرشك الأبيض ليومك الأسود.
◅ وكل شيء بده تدبير حتى الميه في البير.
أجل كان التدبير أسلوباً لدرء الجوع والمجاعة، فكان الأهل في الأزمان يطعمون الأطفال مرقاً ويلبسونهم خرقاً.. وهم يفكرون أين تقبع الحكمة وكيف توصلوا إلى أن يوفروا الحطبات الكبار لعمهم شهر آذار أبو الزلازل والأمطار، القضية هنا توفير أولاً وثانياً هي رؤية وبعد نظر، وهذا يوازي من يوفر لعشائه من غدائه ما يضمن له استمرار الحياة، فلا يشمت به أحد.. نحن هنا نتجاوز إعادة التدوير إلى حسن التدبير المنزلي التي تحدثنا عنها في لباس التتابع المتوارث، ولا أنسى قماط إخوتي ولا أبنائي الذي كان يحرص عليه أن يكون في عداد التحويل من جيل لجيل.
إيه يا زمن! تذكرني بالطبيعة المتحولة، فما كان فحماً غدا ألماساً، وما كان بقايا الكائنات غدا مخزوناً نفطياً، وانظري يا نفسي أن كل شيء يؤكل.. فما لم آكله أنا يأكله سواي من بشر أو دواب أو حشرات، ثم نعيد النظر والبصر والتأمل أكثر فأكثر لنرى الماء الذي فينا كم نسبته، والماء الذي في الأرض كم نسبته، والماء الذي في الهواء كم نسبته.. هذه هي هيئة الكون توازن في توازن، البحر يتبخر، تتشكل السحب، تمطر تثلج ذوبان جريان، ثم رسوخ في الأرض أو تبخر أو عودة إلى البحر، أو تصفية وتنقية وترشيح من جديد، ويبقى الماء هو الماء لا يزيده فيضان ولا ينقصه تجفاف، انتقال من إلى وعن على، فما نزل من السحاب امتصته شجرة ثم أكلنا الثمرة، ونقول بعد ذلك: عاد كل شيء إلى الأصل (الحي الماء). لتبدأ الحياة من ماء السماء إلى ماء الجسد إلى ماء الأرض، وتأتي أمثالنا مرّة أخرى لترسم لنا خارطة الحياة من أجل الديمومة في أسلوب العيش وفي المادة، ولا بأس هنا أن أخرج بمفهوم آخر، إنه الصراع للبقاء وليس للفناء.. وإنها سلسلة التعايش فكل مسخر لما خلق له.
قالت لي نفسي: أيها الصديق العميق في البحث والتعليق، هلّا ذكرتنا بما علينا فعله قبل الأزمات والحوادث والكوارث، قلت: يا قرة العين للحفاظ على الحياة نفهم أن الظروف القاهرة يكون أمرها أسهل إذا قمنا بالاقتصاد والتموين، وحساب الاحتمالات إذا سكرت الأسواق والطرقات.. خاصة في المدن التي تفتقر عادة لعقلية ما قبل وما بعد.. ولا ننسى المهرة من الأجداد في الفلاحة كانوا يعرفون أن الحليب له مشتقات، ولكل مشتق استعمال من لبن أو زبدة أو سمن أو جميد أو شنينة أو لبأ.. ولك يا نفسي أن تتخيلي كم كان الوعي في استنباط مؤهلات الحياة من الحليب المستحلب من ماعز أو بقر أو إبل أو غنم.. وهلم جراً، انظري في التين والزيتون ولا تتغافلي في النظر إلى نبات الأرض البرية ولا الطيور ولا الأسماك، كلنا معاً سنكون مسخرين لبعض في الخير والشر وما يقع على طرف سيصيب الطرف الآخر.. إنها المصفوفة المنطقية إن اتسخ البحر هرب السمك أو هلك، وإن تسببنا بالحرائق التهمت النيران الأشجار والثمار وتصاعدت الغازات وقتلت الحيوانات والحشرات المفيدة، وماتت التربة ناهيك يا نفسي عن الحروب التي يقوم بها المجرمون والسفلة بدعم من تجار الحروب وشياطين الإنس اللاهثين وراء مصالحهم على حساب دماء الآخرين دون رحمة، يدمرون - يقتلون - ينهبون - والمصيبة أنهم يتفلسفون بأنهم يريدون إعمار الأرض لا خرابها.. لا يهمهم أرقام الموتى في مقابر جماعية ولا ضحايا الفسفور والكيماوي.. صرخات تنتهي ثم تستمر الفوضى وكأن شيئاً لم يحدث.. تصالحات على حساب من ماتوا ومن هجروا ومن سلبوا نعمة الحياة فلا يبقى خير في حاصد ولا حصيد.. المهم يا نفسي أن نستمر بوعي الحاجات المتجددة مع تطور الحياة وأساليب العيش واكتشاف أن الحلول لا تنفد ما دمنا حريصين على سعادة أنفسنا للبقاء دون استنزاف للطاقات أو ضياعها تحت ركام المدن والقرى المدمرة، وعلى هذا فالتدبير الثقافي هو من أبجديات الحياة الآمنة المستقرة التي تحافظ على التوازن الاقتصادي من خلال الدعم اللوجستي الذي تقوم به الثقافة الشعبية والرسمية للنهوض الحضاري المستدام.