تحيل هذه الكلمة؛ أي الإبداع إلى مسألة هي وثيقة الصلة بالذات الإلهية وحدها؛ فالله البديع هو الصانع الخالق على غير مثل سبق قام بمحاكاته سبحانه لا شريك له في أسمائه وصفاته وما تحمله من معنى. من هذا اليقين نأتي إلى العنصر البشري وشواغل البدايات والحالة العقلية والإدراكية التي كانت سلطة مسيطرة وحاكمة ومحركة لأدائه السلوكي حينها؛ فما يجري حوله في عالمه من عوارض متكررة مستمرة على الأرض صارت أمراً يسترعي الشعور بالخوف ويتطلب رد فعل؛ فمطر ورعد وبرق وزلازل، وظلمة وضياء.. وغيرها دعته إلى أن يؤدي وينجز أفعالاً من شأنها استرضاء ما يظنه قوى غيبية تسعى للنيل منه والقضاء عليه، هذه البدايات الإدراكية للإنسان تمثل الطقس الذي ولدت فيه الأسطورة التي تأخذنا من الفاعل المرجعي الذي أدى لظهورها إلى هيئتها هي بوصفها نتيجة أو لو شئنا القول منجزًا عاكساً لسؤال إجرائي مفاده: كيف كان يفكر الإنسان في مرحلة ما قبل ظهور الدين والعلم ونظرياته1؟
في ضوء ذلك تأتي مسألة التعبير الإنساني بتجليه اللغوي وغير اللغوي ومنطلقات تلك العملية، وهنا نجدنا أمام مسارين أثيرين بديهيين:
الأول: مسار المباشرة في التعبير الذي يطابق بين الأداء الإنساني وما في المرجع الخارجي الذي يمثله العالم وما يجري فيه.
الثاني: مسار المحاكاة التي تتجاوز تلك الحالة الأولى إلى أخرى تزيد المسافة الفاصلة بين الطرفين؛ أي الأداء والمرجع، هنا نجد أنفسنا أمام مفاهيم أثيرة شائعة لها حضور قوي في أصل الفلسفة والحضارة، كمفهوم المحاكاة والمجاز والخيال والغموض والغرائبية، وغيرها من الملفوظات التي تجتمع على حالة من الترداف فيما بينها من حيث المعنى2.
ولا شك في أن الارتباط الصارم بين الإنسان وعالمه وحتمية التفاعل الجامعة بين الطرفين التي تجعل منهما فاعلًا ومفعولًا معاً تشكل إطارًا يمكن الانطلاق منه لتدشين أنساق محددة لمسألة الإنجاز الذي ترسله الذات في بعديها الفردي والجمعي:
◅ ماهية الإدراك
◅ مكونات المرجع الخارجي (العالم)
◅ منطلقات التعبير وهيئاته
◅ العلاقة الجناسية بين الطرفين: الشعور والشعرية
◅ تجليات الأداء التعبير الذاتي
◅ هوية المرجع
إن هذه الأنساق تعد بمثابة أوعية تضع الفكر الإنساني وما يسير في مداره من مفاهيم، كمفهوم الثقافة في قوالب ثابتة تؤطرها محددات تساؤلية عديدة وسائلها: ما وكيف ولماذا؛ الأداة الأولى تحيل إلى الماهية، الثانية تحيل إلى الإجراء أو العملية، الثالثة تحيل إلى العلة.
إن هذه الثنائية (الإنسان والعالم) وما تقتضيه من مكونات لازمة ضرورية لعمل طرفيها، تتمثل في الجهاز الإدراكي لتلك الذات الإنسانية الذي يمكن أن تجليه هذه العناصر الثلاثة مجتمعةً: العقل مناط الفكر، والقلب مناط الشعور، والجوارح التي تعد أدوات تابعة وتقع تحت سلطة العقل والقلب معًا؛ ومن ثم فإن ماهية المصنوع الناجم عن المرجع ممثلاً في العالم وتفاعل الذات الإنسانية في شقيها الفردي والجمعي مع أجزائه يعد بمثابة حضور تتضافر في تشكيله مكونات، تساعد على إضاءته، من بينها مكونات الجهاز الإدراكي لذلك الإنسان.
إن مسألة الحضارة وما يقع تحت ملفوظها من قضايا هي بمثابة ناتج نهائي تسبقه سلسلة ممتدة، فيها:
– الجهاز الإدراكي الذي يتم توظيفه في تفاعل الذات الإنسانية مع مرجعها.
– الإطار الزماني والمكاني الكاشف عن المرجع الخارجي في علاقة الذات به.
– ثنائية الفيزيقي المشاهد الملموس والميتافيزيقي الغيبي الذي لا يتم الوصول إليه بالجوارح المعروفة مثل السمع والبصر المصاحبة لثنائية الذات والمرجع.
– أصول الفكر الإنساني وبداياته ممثلةً في الأسطورة.
– الدين وشرائعه والعلم ونظرياته في مرحلة ما بعد الخرافة والأسطورة.
– التجربة الشعورية الكاشفة عن تناوب طرفي ثنائية الذات والمرجع لموقعي الفاعل المؤثر والمفعول المتأثر.
– التجربة الشعرية الكاشفة عن الأداء الإنساني؛ بوصفه عملية بديهية ناتجة عن الإدراك بعناصره العقل والقلب والجوارح وتفاعلها مع المرجع وما يحصل فيه.
– مسارات التعبير وتشعبها إلى فرعين أثيرين: لغوي وغير لغوي.
– مسارات التعبير وتشعبها إلى فرعين أثيرين: حقيقي ومجازي.
في ضوء ذلك المسار الرحلي يمكن الوقوف على مفردة الحضارة بتبعاتها الدلالية الواسعة الممتدة؛ لنحاول من ورائها الكشف عن مفهوم ملازم لها ذي أهمية؛ ألا وهو مفهوم الهوية الذي يأخذنا بدايةً إلى الخصوصية وإلى الاستقلال والتمايز؛ فالحضور الإنساني على الأرض مسألة يجليها حضوره الفردي الذي يكتسب من خلاله هويته وفرادته مقارنة بغيره المشارك له في الحالة نفسها؛ أي الحضور الفردي وذلك من خلال ما يقدمه من منجزات فعلية عاكسة ومبينة لهيئته ذات الأبعاد الثلاثة: الحسية الظاهرة، النفسية الانفعالية، الاجتماعية الوظيفية، ويصير ناتجًا ومصنوعًا من هذه الهوية الفردية الحضور الإنساني في هيئته الجمعية؛ فالإنسان الأمة أو الجماعة أو الشعب أو الكيان على المستوى الاجتماعي والسياسي المسمى وطنًا أو دولة يكتسب هويته وحضوره المختلف عن غيره بواسطة تجاور هذه الهويات الفرددية وتضافرها وتشابكها معًا؛ لذا يصير المختلف على المستوى الفردي أداة أو وسيلة لتبيان مختلف أعم وأوسع على المستوى الجمعي بالنظر إلى غيره؛ فلكل أمة أو جماعة أو وطن أو دولة خصوصية أو هوية مميزة له، هنا نجد أنفسنا أمام حتمية الاستقراء المتأني لثنائية (التماثل والاختلاف)، بدايةً من المشتركات الجامعة لكل أبناء الجنس البشري على المستوى الفطري وصولاً إلى المشتركات التي تعين عليها وحدة الزمان والمكان واللغة، تليها وحدة الدين والعادات والقيم، وفي ثنايا هذا الإطار تتجلى مقومات الاختلاف على المستوى الفردي التي تجعل للأداء الفعلي الفردي ميزةً واستقلالاً بإزاء غيره؛ ومن ثم فإن بداخل كل تماثل يمكن اكتشاف المختلف وبداخل كل مختلف يمكن الوقوف على ما يجمع ويقرب وفيه اتفاق3.
هنا تصير لمسألة الشعوبية والقبائلية التي تحدث عنها القرآن الكريم وجاهتها "يا أيُّها الناسُ إنَّا خلقناكم من ذكرٍ وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائلَ لتعارفوا"4 إن المعرفة تعد عملية تكمن وراءها العلة المفسرة لمسألة الشعوبية والقبائلية، وفي ثنايا مقتضياتها الدلالية تتجلى مظاهر التقارب بين أبناء الجنس الإنساني فوق الأرض، إن المعرفة طريقة للكشف عن أبعاد كل طرف من طرفي هذه الثنائية الإطارية الأثيرة (الاتفاق والاختلاف)، أو (التماثل والاختلاف)، بواسطة أداء إنساني يمثل حالة فعلية مضارعة لا تتوقف، تقوم على استقراء الأجزاء وإضاءة التفاصيل بدءًا من الفعل على المستوى الفردي، وصولاً إلى الأداء الإنساني على المستوى الجمعي، ومن المحلية الضيقة وصولاً إلى العالمية الإطارية الجامعة5.
في ضوء هذا الطرح نجد أنفسنا أمام كلمات مفتاحية راصدة للحياة وكينونتها: الإنسان، الإدراك، العالم، الزمان، المكان، الهوية، الحضارة، الاتفاق، الاختلاف، الشعوبية والقبائلية، المعرفة.
من هذا كله نخلص إلى أن الثنائية الإطارية الأكبر الحاضنة لذلك كله هي ثنائية (الحياة والمعرفة)، التي تتيح لطرفها الأول أن يكون سببًا، ولطرفها الثاني أن يكون وسيلة وغاية في الوقت نفسه.
هوامش: 1. انظر: د. أحمد يحيى علي، أوراق نقدية، ص: 24، الطبعة الأولى، إصدار الرافد الرقمي، أغسطس 2023م، دائرة الثقافة والإعلام، الشارقة.┇2. انظر: د. أحمد يحيى علي، اللغة والنص والعالم، ص: 88، 89، الطبعة الأولى، 2024م، دار البديل للنشر، عمان/الأردن.┇3. انظر: د. أحمد يحيى علي، أيقونة الهوية في الثقافة العربية، ص: 6، 7، الطبعة الأولى، 2016م، دائرة الثقافة والإعلام، الشارقة.┇4. الحجرات: من الآية: 13.┇5. انظر: ول ديورانت، قصة الحضارة، ترجمة: زكي نجيب محمود، المجلد الأول، ص: 55، 56، 57، طبعة 1988، دار الجيل بيروت.