أسلاكٌ شائكة؟!

أسماء هاشم

اخْتيارُ ألوان المكياج التي تناسب بشرتي أَمرٌ شاقٌ للغاية. الألوان الفاقعة تظهرني كدمية كريهة والفاتحة تظهر وجهي مسطحاً أكثر مما يبدو. هل وجهي مسطح حقّاً؟! لا داعي للوقوف أمام هذا التساؤل الآن علي أن أستعين بخبرة البائعة التي تكلمني بغير حماس؛ ربما لأنها ترى أن لون بشرتي القاتم يطمس كل الألوان فلا يبن منها إلا لمعة غير محببة مع وجهي المسطح.. آه.. لماذا الإصرار على أن وجهي مسطح؟! لي ملامح عادية وأنف مرتفع ينفي عن وجهي صفة التسطح. ربما لأنهم ينصرفون عني مثل تلك البائعة التي تنصرف لزبونة أخرى رغم أنني أبديت رغبة حقيقية في الشراء ولم أكترث لارتفاع سعر بعض الأنواع. تركتني البائعة أقلب الأقلام بإصرار ودأب أجرب الألوان على ظهر يدي. أبعد يدي قليلاً لاختبار اللون على بشرتي.. فتحت عدة أقلام ورسمت بكل واحد خطاً على ظهر يدي وظللت أفاضل بين الألوان حتى بدا الانزعاج على البائعة وسحبت بضاعتها من تحت يدي. أمام يدي الممدودة بالنقود قدمتها لي ثانية وحذرت من إتلاف بضاعتها وهددت بدفع ثمن ما قد ترى أنني أتلفته.. وعيونها تقول: ذوات البشرة السوداء لا ينبغي أن يستخدمن مثل تلك المساحيق الغالية والتي غالباً لن تفيد كما تقول عيون البائعة. أتجنب نظرات اشمئزازها وأشتري لوناً أحمرَ قاتم لن يكون متنافراً مع لون بشرتي.

تذكرني نظرات البائعة بنظرات رفيقات المدرسة وقرفهن الصباحي وهن ينظرن لشعري القصير الخشن الذي يبدو مثل مظلة تخفي رأسي تماماً.

أجتهد لأجمعه بيدي في ضفيرة واحدة أو ضفيرتين غير أنه كان لا يطاوعني. فيما بعد صارت أول المهام التي علي إنجازها قبل النوم إخضاع خصلات شعري المجعد للانثناء بتأثير بعض المرطبات والكريمات، ثم تقسيمها إلى مجموعات صغيرة كل مجموعة تشكل كعكة صغيرة أشبكها بصرامة وأنتهي إلى مجموعة من الكعكات تعلو وتحيط رأسي على أمل أن تساهم تلك الكعكات المشدودة في تغير مظهره الصباحي، الذي يستفز رفيقات المدرسة، ويمررن لي القول بأن لي وجهاً مسطحاً يختلف عن وجوههن.

لم تفلح كريمات الفرد ولا الزيوت في إخضاعه ليبدو مقبولا فاضطررت لجدله في ضفائر كثيرة، مثل التي كانت تصنعها وسيلة لنساء حوش العبيد هناك. كانت العجوز وسيلة تجلس في درب الحوش المتعرج بين غرف الحوش، تضع الصغيرة بين وركيها وتبرك بكلتا يديها على الرأس تنقي الحشرات وتصب الزيت في الفروق بين الخصلات الخشنة وتمسد الخصلات بأصابعها السوداء اللامعة من أثر الزيت. تزحف ساحبة معها الصغيرة لتتجنب استدارة الشمس التي منحتها وجهاً قاسياً. كثيفة شعور نساء الحوش أحياناً كانت تتوارى الشمس دون أن تكمل فتواصل العمل في الصباح التالي.

ما حاجتي بتلك الذكريات! آه.. علي أن أستعد للمقابلة الشخصية التي حددتها سيدة الإعلان المنشور في الوسيط.

غداً موعد المقابلة الشخصية وعليّ أن أكون جديرة بتلك الوظيفة.

مطلوب مديرة منزل. لا أعرف ما هي اختصاصات مديرة المنزل لكنها قطعاً أفضل من خادمة.

قرأت وفرحت فلم يتضمن الإعلان شروطاً تحجم أحلامي في الفوز بهذا العمل مثل الخبرة أو الحصول على مؤهل معين. فتمنيت الفوز بهذه الوظيفة لأستريح من تكرار الرفض وأنا أتقدم من جهة لأخرى ومن محل لآخر. محلات الملابس وأدوات التجميل تطلب بائعة حسنة المظهر، وغالباً لا يلتفت أحد لحسن مظهري الذي أبالغ فيه سواء بالملابس الأنيقة والنظافة الشخصية وغيرها. هل مظهري حسن حقّاً أم مواصفات الحُسن ترتبط بلون البشرة ونعومة الشعر.

ركلت حجراً صغيراً كاد يسقطني. أمسكت بأكياس مشترياتي وأنا أفكر كيف أكون جديرة بالفوز بالعمل الجديد. ماذا أحتاج؟

ملابس مناسبة، وأنيقة أيضاً.
الجيينز مناسب ويكفي بلوزة بسيطة بألوان فاتحة.
ثم ماذا؟
النظافة الشخصية.

أبالغ فيها بطبعي، أظافري وأسناني ومنذ الصغر أعرف كيف أتخلص من رائحة العرق بالأعشاب المختلفة والوصفات التي تجعل للجسد رائحة طيبة وتكسبه نعومة أيضاً. كنت قد زينت ضفائري الكثيرة بخرزات ملونة تناسب ألوان بلوزتي كانت تهتز مع حركة رأسي، وتضرب عنقي بحوافها الحادة التي لم تفلح الكريمات المرطبة في تخفيف حدتها.. لا بأس اعتدتها مثل اعتيادي نظرات امتعاض الكثيرين ليس أولهم رفيقات المدرسة ولا آخرهم المترددات على محل الكوافير في الشارع الذي أسكنه. عملت فترة به ومثلما فشلت في إقناع صاحبته أن ناعومي كامبل جميلة وأن بوستر لها صالح لدعاية طيبة للمكان، فشلت أيضاً في إقناع زبونات المحل أنني أمتلك مهارة تزجيج الحواجب ورسم الشفاه ونثر البودرة على الخدود بتناسق جميل.

مواقف عديدة بيني وبين زبونات المحل ما بين نفور مستتر وشجار مفتعل انتهى بي الحال لغسل وتجفيف الأرجل بعد عمليات البادييكير. علي أن أنسى هذه التجربة التي انتهت بذكريات قاسية مع زبونات المحل.. علي الآن أن أفكر كيف أقنع السيدة أنني أصلح للعمل الذي ستكلفني به. لا بأس من تقديم شهاداتي التي حصلت عليها من المدرسة المتوسطة والمعهد الفني الذي التحقت به بعد ذلك. وأن أطمئنها لقدرتي على تحمل تبعات العمل وأحدثها عن الأعمال المرهقة والقاسية التي مارستها منذ جئت إلى هنا.

ابتسامة مستكينة ملأت وجهي. صارت هذه الابتسامة تتصدر وجهي كملمح من ملامحه حتى في أشد لحظاتي ضيقاً وغضباً كنت أخطفها من مزاجي السيء وألقي بها على وجهي ربما تصرف نظر الرائي عن بشرتي القاتمة التي فطنت مبكراً أنها سبب نفورهم مني.

- لست مصرية؟

بادرتني السيدة مندهشة! وهي تتطلع لوجهي داكن السمرة وضفائر شعري الكثيرة المزينة بالخرز الملون والتي تهتز مع حركة رأسي. قلت بابتسامتي المرسومة على وجهي الذي صرت أتخيله مسطحاً كوجه إفريقي بائس..

- مصرية من أصول إفريقية.. أقصد سودانية.

مرة واحدة ودون أن أهتز، وجدتني أدفع بحكاية جدي السوداني المزعوم، قلت إنه كان تاجراً للأعشاب الطبية والعطور.. حالفه سوء الحظ فغرق المركب الذي يحمل بضاعته في النيل وضاعت ثروته. واصلت الحكاية بسلاسة مدهشة وقلتُ: إن جدي المزعوم اضطر للبقاء في أسوان يعمل فيها وينتظر أن يجمع تكاليف سفره حتى مرت السنوات، وتزوج من مصرية وكون أسرة ثم أسس عائلة انحدرت منها. كانت السيدة تنصت بشغف جعلني أستثمر الكذبة مرات أخرى وأغير تفاصيلها، فأحكي مرة للجالسة إلى جواري في عربة المترو أن جدي كان تاجراً للجمال وفقدت القافلة طريقها وماتت جماله، ونجا هو من فتك الصحراء بأعجوبة خلفت حكايات أسطورية في كل مرة أضيف لها تفصيلاً جديداً يوماً بعد يوم؛ لأجذب انتباه السامع وأشد خياله ليرسم صورة هروبه من فتك ذئاب الصحراء.. في كل الحكايات اضطر جدي للبقاء في مصر وتزوج منها وأسس عائلة منها انحدرت.

كثيراً ما صارت تتشابه الحكايات في بعض التفاصيل وأحياناً كثيرة تتداخل حكايتان أو أكثر، فأجدني أراجع السيناريوهات التي أرسمها لجدي المزعوم وأسدد الثغرات التي قد تتسرب منها كذبتي فيظل منشغلاً بعالمي الذي أصنعه. حكايات كثيرة في كل مرة أضيف لها تفاصيل جديدة مشوقة لأجذب انتباه السامع، ربما يتقبلني بلوني القاتم وشعري الخشن وضفائري الكثيرة التي تضرب عنقي بحوافها الحادة.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها