نازك الملائكة والحداثة المنقوصة في "قضايا الشعر المعاصر"

محمد علي عزب

زَعمُ نازك ريادة حركة شعر التفعيلة

تَناولتْ الشَّاعرة والنَّاقدة العراقيَّة نَازك الملائكة في كتابِها "قضايا الشِّعر المُعاصر" الَّذي صدرت طبعته الأولى عام 1962م الشَّكلَ الفَنيَّ والبِنَاءَ العروضيَّ لقصيدةِ التفعيلة، وأشَارتْ نَازك إلى أنَّ شِعرَ التفعيلة استبدلَ البيتَ الشِّعريَّ المُكوَّنَ مِنْ عَددٍ مُعيَّنٍ من التفعيلات بالسَّطرِ أو الشَّطرِ الشِّعري الَّذي (ليس له طولٌ ثابتٌ وإنما يصحُّ أن يتغير عدد التفعيلات من شطرٍ إلى شطرٍ ويكونُ هذا التغيير وِفق قانونٍ عَروضيٍّ يَتَحكَّمُ فيه)1. وكَما نظّرت لها نازك الملائكة في كتابها "قضايا الشعر المعاصر"، اعتمدت قصيدة التفعيلة في بنائها الموسيقي على تكرار تفعيلةٍ من تَفعيلاتِ ثمانيةِ بُحورٍ عَروضيَّةٍ مِنهَا ستةُ بحورٍ صافيةِ التفعيلة وهي:
الكَامِلُ وشطره: "مُتفاعلن متفاعلن متفاعلن"
الرَّمَلُ وشطره: "فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن"
الهَزج وشطره: "مفاعيلن مفاعيلن مفاعيلن"
الرَّجزُ وشطره: "مستفعلن مستفعلن مستفعلن"
المُتقارب وشطره: "فعولن فعولن فعولن فعولن"
الخَبب وشطره: "فاعلن فاعلن فاعلن فاعلن"
أو "فعلن فعلن فعلن فعلن"2

وذلك بالإضافة إلى بحرين من البحور الممزوجة التفعيلة، التي تتكون من أكثرَ من تفعيلةٍ وهذينِ البحرينِ هُما:
السَّريعُ وشطره: "مستفعلن مستفعلن فاعلن"
الكَامِلُ وشطره: "مفاعلتن مفاعلتن فعولن"3

وأكَّدتْ نازك على (وحدة التفعيلة والمعنى البيسط الواضح لهذا الحكم أنَّ الحرية في تنويع عدد التفعيلات وطول الأشطر تشترط أن تكون التفعيلات في الأشطر متشابهة تمام التشابه)4، وقد نسبت نازك لنفسها ريادة شعر التفعيلة الذي أطلقت عليه "مسمى الشعر الحر" حيثُ قالت: (وكانتْ أوَّلَ قصيدةٍ حُرةِ الوزن تنشرُ قَصيدتي المُعنونة "الكوليرا"، وهي من وزن المتدارك الخبب)5، وفي هامش نفس الصفحة من الكتاب قالت نازك: (نظمتها يوم 27/10 /1947م، وأرسلتُها إلى بيروت فنشرتها مجلة "العروبة" في العدد الصَّادرِ في أولِ كانون الأول عام 1947م)6.

وإنْ كَانتْ نازك اعترفت بالأثر الَّذي تَركتْهُ تَجرِبَةُ الشَّاعِر علي أحمد باكثير في شعر التفعيلة، فإنها نفتْ عن باكثير تَجرِبة صفة الريادة والتأسيس، ووضعتْ عدَّةَ شُروطٍ للريادة، وهي:
1- أن يَكُونَ نَاظِمُ القَصيدةِ واعِيّاً إلى أنَّه قد استحدث بقصيدته أسلوباً وزنيّاً جديداً سيكونُ مُثيراً أشدَّ الإثارةِ حينَ يَظهَرُ للجمهورِ.
2- أن يُقدِّمَ الشَّاعِرُ قصيدته تلك أو "قصائده" مصحوبةً بدعوى إلى الشُّعراءِ يدعوهم فيها إلى استعمال هذا اللونِ في جرأة واثقة، شارحاً الأساسَ العَروضي لما يدعو إليه.
3- أن تستثيرَ دعوتُه صدىً بعيداً لدىَ النُّقادِ والقُراءِ فيضجوا فوراً، سواء أكان ذلك ضجيجَ إعجاب أم استنكار، ويكتبوا مقالاتٍ كبيرةً يُناقشوا فيها هذه الدعوى.
4- أن يستجيبَ الشُّعراءُ للدعوة ويبدأوا فوراً في استعمالِ اللَّونِ الجديد وأن الاستجابة على نطاقٍ واسعٍ يَشملُ الوطنَ العَربيَّ كُلَّهُ7.

وقَدْ نَاقشَ وفنَّدَ د. عبد العزيز المقالح هذه الشُّروط الَّتي وضعتها نازك لتدّعي لنفسها حق الريادة، حيث قال: (تَجرِبَةُ باكثير رائدةٌ بِكُلِّ المَقاييس وتحتَ كُلِّ الشُّروط، وهي لم تكن مقصورةً على قصيدة أو قصيدتين أو حتى على ديوان من الشِّعر يضمُّ بعض القصائد، وإنَّما هي تجربةٌ فنيَّةٌ كبيرةٌ تتمثل في عَملَينِ فنيينِ كَبيرينِ أحدهما مُترجَمٌ وهو "روميو وجولييت" والآخرُ عملٌ إبداعي وهو "إخناتون ونفرتيتى" وهما من حيثُ الحجم وكم الشعر يزيدان عن كل ما قدمه السَّياب ونَازك من قصائد جديدة منذ أن بدأت ريادتهما في سنة 1947م حتى أوائل الخمسينات)8. وبخصوصِ شرط الوعي بالاستحداث وشرح الأساسي العروضي.

في تجربة باكثير يقول د. المقالح (في مقدمة ترجمته لمسرحية "روميو وجولييت" يقول باكثير شارحاً الأساسَ العروضي الذي يدعو إليه: "والنَّظمُ الَّذي تراهُ في هذا الكتاب هو مزيج من النظم المرسلِ المُنطلقِ بالنظمِ الحُر، فهو مرسلٌ من القافيةِ، ومُنطلق لا يتشابهُ بينَ السُّطورِ، فالبيتُ هنا ليس وحدةً إنما الوحدة هي الجملة التامة التي تستغرق بيتين أو ثلاثة، دون أن يقف القارئ إلاّ عند نهايتها، وهو كذلك حُرٌّ -أعني النظم- لعدمِ التزام عددٍ مُعين من التفعيلات في البيت الواحد)9، وهكذا لم تكن نازك رائدة شعر التفعيلة كما زعمت وفنّد زعمها د. المقالح، واستشهد بمقولة أخرى لباكثير عن ريادته لشعر التفعيلة في مقدمة مسرحيته الشعرية "إخناتون ونفرتيتى" التي كتبها باكثير عام 1938م بعد أن ترجم مسرحية "روميو وجوليت" شعراً عام 1936م (تجربة انطلقت في منيل الروضة على ضفاف النيل بالقاهرة، ثم ظهر صداها أول ما ظهر في العراق لدى الشاعرين الكبيرين المجددين بدر شاكر السياب ونازك الملائكة، بعد انطلاقها بعشرة أعوامٍ ثم ما لبث أن شاع هذا الشِّعرُ الجديد في العالم العربي كُلِّه)مقدمة مسرحية اخناتون ونفرتيتي10.

تعميقُ الخلطِ بين الشعر الحر وشعر التفعيلة

في مقدمة ديوانه "هتاف الأودية" الذى كتبه عام 1910م قال أمينُ الريحاني: (شكسبير أطلق الشعر الإنجليزي من قيود القافية، و"واليت وإيتمان" قد أطلقه من قيود العروض كالأوزان الاصطلاحية والأبحر العرفية، على أنَّ لهذا الشِّعرَ الطليق وزناً جديداً مخصوصاً وقد تَجيء القصيدةُ فيه من أبحرٍ عديدةٍ متنوعةٍ)11، وقالَ دريني خشبة في مقالٍ له بمجلة الرسالة: (الشعرُ الحُر هو الشِّعرُ الَّذي لا يتقيدُ بعددِ التفعيلات في البيتِ الواحدِ فقد يكونُ البيت تفعيلةً واحدةً أو تفعلتينِ أو ثمانية أو عشرة، وقد يصلُ إلى اثنتي عشرة... ولا يتقيد الشِّعرُ الحر بالأوزان العروضيَّةِ الرَّسميةِ، فللشَّاعِرِ أنْ يبتكرَ أوزاناً جديدةً إن استطاع، وقد بالغ شعراء الشعر الحر في ذلك حتى لا تلتفت إلاّ الأذن الموسيقية وحدها إلى "غنائهم المكتوب" كما يعبر مؤرخو الآداب الأوربية)12.

ومِمَّا سبقَ يُمكننا القولُ إنَّ أمين الريحاني عندما سمى ديوان "هتاف الأودية" ديوان من الشعر الحر المنثور أحدثَ خَلطاً بينَ الشِّعر الحر والشعر المنثور، مع التأكيد على أن هذا الخلط لم يكن في صُلْب تعريف الريحاني للشعر الحر وأن هذا التعريف في مقدمة ديوان "هتاف الأودية" جاء دقيقاً، وربما كان المقصد لدى الريحاني من دمج الحر بالمنثور في تصنيفه للديوان هو أن كتابةَ هذا النوع من الشعر تأتي متناثرة في شكل سطور شعرية مغايرة لنظام الشطرين، وما يهمنا في ذلك كما أشرت أن تعريف الريحاني للشعر الحر في مقدمة الديوان جاء دقيقاً وغير ملتبس، وجاء بعد ذلك علي أحمد باكثير وسمَّى الشعر التفعيلي "مزيجاً من النظم المرسل المنطلق بالنظم الحر" وقد أحدث بذلك خلطاً بين نوعين من الشعر في تسميته سابقة الذكر، ثم جاءت نازك وتمادت في ذلك وعمقت الخطأ واللبس بين شعر التفعيلة والشعر الحر، في حين أن (الشاعرَ بدر شاكر السَّياب كان يصر على مصطلح "الشعر المنطلق" اتباعاً لباكثير الَّذى يُقِرُّ لَه بالريادة)13، هكذا اختارَ السَّياب من تسمية باكثير ما لا يُحدثُ لبساً بين الشِّعرِ الحُر وبين الشعر التفعيلي، وتعميقُ هذا الخَلطِ والدَّفعِ به لأبعد مدى ونشره كالنَّارِ في الهشيمِ كان على يد نازك الملائكة في كتابها "قضايا الشعر المعاصر".

القَليلُ جِدّاً مِنَ الدِّراسات الَّتي تتناولُ الشِّعريةَ العربيةَ الحديثة والمعاصرة يُفرّق بين مصطلحي "الشعر الحر" و"شعر التفعيلة"، وفي الغالب الأعم يتم ذكر الشعر الحر على أنَّه شعر التفعيلة؟! والفضل في ذلك اللبس لنازك الملائكة فلم يعد لدينا في شعرنا العربي المعاصر الذي يكتب بالفصحى "قصيدة شعر حر" تُشكل إحدى تيارات شعرنا المعاصر! وإن كانت هناك بعض التَّجارِب الفردية الَّتي قامتْ على المزج بين التفعيلات المتقاربة واعتصار موسيقى اللغة، ولكنها لا تخرجُ عن نطاق التجارِب الفردية.

أمَّا قصيدة العامية المصرية والعربية فهي شعر حر بالمعنى المنضبط لمفهوم الشعر الحر في اعتصار موسيقى اللغة والتنغيم والمزج بين تفعيلات البحور المختلفة في القصيدة الواحدة، وقد تناولتُ هذا الموضوع في كتابي "عن تجولات الشعر العامي بين التراث والمعاصرة"، وإن كان هناك بعض شعراء قصيدة التفعيلة في شعر الفصحى خرجوا على وحدة التفعيلة وقاموا بالمزج بين التفعيلات في القصيدة الواحدة وكانَ هذا المزجُ مقنّناً في الغالبِ، فيرى د.عز الدين إسماعيل في كتابه "الشعر العربي المعاصر وظواهره الفنية والمعنوية": أنَّ الانتقال من سطر شعري مؤسس على تفعيلة إلى سطر مؤسس على تفعيلة أخرى إمَّا أن يكونَ (السطر الجديد بدايةً لمقطعٍ شعريٍّ جديدٍ أو أنْ يعبِّرَ السطرُ الجديدُ عن انتقالِ في الموقف الشعري، وإن لم يكنْ هذا ولا ذاك فيحتم أن يكونَ هناكَ علاقة تداخل بين التفعيلة المستخدمة في السطر الشعري الأول والسطر الثاني الَّذي يليه على أن يدخل في اعتبار الشَّاعرِ استغلال هذه العلاقة فنيا)14، (وإن كان هذا المزجُ المقنّنُ غالباً يمثل تجديداً في قصيدة التفعيلة الفصحى بعد جيل الرواد، ومع ذلك ظلت القصيدة المعتمدة على وحدةِ التفعيلة أكثر تواجداً بين الشعراء، أمَّا في قصيدة العامية فإن هذا المزج بين التفعيلات يمثلُ ظاهرةً منتشرةً في قصيدة العامية منذ جيلِ الروادِ، ومثالا لذلك يقول صلاح جاهين في قصيدة "شاي بالحليب"، وهي من قصائده الأولى:
الزباين كُلُّهم ع القهوة شكلي
يبقى بنت عيونها بحر من العسل
 والشعور السود خصل.. م البريق
شعرك خشن زي الحرام الصوف يا بت
والشمس ثلج أصفر شعاعها صاروخ هوا
مجرّد اسم متشخبط على ورقه

في السطر الأول تتكرر تفعيلة "الرمل" فاعلاتن ثلاثَ مراتٍ وفي السطر الثاني تتكرر "فاعلاتن" مرتين وينتهي السطر بتفعيلة "فاعلن"، ونهايةُ السطر بهذه التفعيلة تنقل بحر الوزن إلى تشكيلة أخرى من تشكيلات بحر الرمَل، وترى نازك الملائكة أن تعدد تشكيلات البحر الواحد في القصيدة خطأ عروضي، وفي السطر الثالث تتكرر"فاعلاتن" مرتين، وينتهي السطر بتفعيلة "فعول" وهذا لا يوجد في قصيدة التفعيلة في شعر الفصحى، وفي السطر الرابع والخامس ينتقل الشاعر إلى تفعيلة بحر الرجز "مستفعلن"، وفي السطر الخامس ينتقل إلى تفعيلة "بحر الوافر" "مفاعلتن" التى تكررت ثلاث مرات، في المرة الأولى والثانية تم تسكين الحرف الرابع المتحرك منها لتصبح "مفاعيلن"، انتقال الشاعر بهذا الشكل السلس بين التفعيلات سواء اتفق مع ما يراه د. عزّ الدين اسماعيل أو لم يتفق)15.

وهكذا يتضح أن (قصيدة العامية منذ نشأتِها عند جيل الرواد كانت أكثر مرونة وحرية من قصيدة التفعيلة الفصحى في التعامل مع مسألةِ الأوزان والموسيقى الَّتي تأخذُ مشروعيتها من إحساس الشاعر بها، فهي نابعةٌ من داخل التجرِبةِ الشعرية بشكلٍ يخضع لضرورات التجربة أكثر من خضوعه لضرورات العروض المتعارف عليها في شعر الفصحى)16.

نازك الملائكة.. والتفنن في تصنيع القيود

نازك الملائكة في كتابها قضايا لم تكن مجددة بالمعنى الحقيقي للتجديد فكانت كُلَّما اتجهت خطوة للأمام عادت عشر خطوات للخلف، فقد حجمت شعر التفعيلة وقالت (إنه ظاهرة عروضية قبل كل شيء، ذلك أنه يتناول الشكل الموسيقي للقصيدة وعدد التفعيلات في الشطر، ويُعنى بترتيب الأشطرِ والقوافي وأسلوب التدوير والزحاف والوتد وغير ذلك مما هو قضايا عروضية بحتة)17، هذا هو الهاجس الرئيس لنازك الملائكة العروض ثم العروض ثم العروض، كان من الممكن أن تعبر عن التزام قصيدة التفعيلة بمحددات العروض دون هذه النبرة الحادة.

تنفي نازك عن نفسها وعن تيار الشعر التفعيلى تحطيم الوزن العروضي حيث تقول: (بحيث يقتنع القارئ الموسوس بأن وزن الشعر لم يحطم على أيدينا، وأننا لا نقل حرصاً عليه من أي شاعر قديم مخلص)18. وفي أكثر من موضع من الكتاب تلوم نازك فكرة الحرية في قصيدة التفعيلة حيث تقول: (إنها حرية خطرة. إن الشاعر يلوح معها غير ملزم باتباع طول معين لأشطُرِه، وهو كذلك غير ملزم بأن يحافظ على خطة ثابتة في القافية، فما يكاد يبدأ قصيدته حتى يخلب لبه السهولة التي يتقدم بها فلا قافية تضايقه ولا عدد معين للتفعيلات يقف في سبيله، وإنما هو حر.. حر سكران بالحرية)19؟! وطوال الكتاب تتفنن نازك في صناعة القيود ووضع عراقيل أمام الشعراء، ومن أمثلة ذلك انتقادها لشعراء التفعيلة في كثرة استخدام "الزحاف" في القصيدة الواحدة، والزحاف هو ضرورة عروضية مقبولة في العروض العربي، وهو: "تغيير يلحق بالحرف الثانى الساكن في التفعيلة" حيث تقول نازك الملائكة عن علة "الزحاف" (والعروضيون يعترفون بها ويفسحون لها مجالا في كتبهم وقواعدهم. وهو ما لم يكن يفعله الشاعر القديم قط، وإنما ينزلق إليه الشاعر المعاصر هو أن يكتب أبياتا وأشطراً، تفعيلاتها كلها مصابة بالزحاف، مثلا نموذج من شعر صلاح عبد الصبور قال من الرجز:
وحين يقبل المساء يقفز الطريق والظلام محنة الغريب
وهو كما نلاحظ شطر ذو ست تفعيلات هذا تقطيعه
وحين يق/ بل المسا/ ء يقفز ال/ طريق وظ/ ظلام مح/ نة الغريب
مفاعلن/ مفاعلن/ مفاعلن/ مفاعلن/ مفاعلن/ مفاعلان

ومنه ندرك أن تفعيلات البيت الستة مصابة بالزحاف دون أن يعبأ الشَّاعرُ، وقد أصبح البيت بسب هذا الزحاف الثقيل المتعب ركيك الإيقاع)20، استخدم الشاعر رخصة عروضية متاحة فقام بحذف الحرف الثاني الساكن من تفعيلة "مستفعلن"، ولكن نازك التي كانت ملكية أكثر من الملك تبتكر قيوداً من عندها وتضعها أمام الشعراء، وفي نهاية حديثها عن "الزحاف" تقول: (وقد تفشى الزحاف الَّذي هو في نظرنا مسؤول إلى حد كبير عن شناعة الإيقاع والنثرية، وغيرها مما يشكو الجمهور وجوده في الشعر الحر. والجمهور مع الحق)21، هل هذا كلام مجدّدين؟!

وبالطبع لمن يقول مثل الكلام السابق الذكر عن "الزحاف" أن يتفنن في ابتكار عراقيل أخرى كلما سنحت له الفرصة، فهي ترفض "التدوير" في شعر التفعيلة حيث تقول: (ينبغي لنا أن قرر في هذا القسم من بحثنا أن التدوير يُمتنع امتناعاً تاماً في الشعر الحر)22، و"التدوير" هو: اشتراك شطري البيت في كلمة واحدة، وهو مقبولٌ في العروض العربي للقصيدة العمودية، لكن نازك تمنعه تماماً في قصيدة التفعيلة ومن مبرراتها لذلك (في الشعر الحر الوحدة هي الشطر لذلك لا بد أن يبدأ بكلمة لا بنصف كلمة كما في فقرة جورج غانم التالية من المتقارب:
لا هتف قبل الرحيلِ
ترى يا صغار الرعاة يعودُ

رفيق البعيدْ)23، ثم تقولُ نازك مستخدمة هذا المقطع في التدليل على أنَّ التدوير يقضي على القافية وهو مبرر آخر لرفض التدوير (قد انتهى الشطر الثاني بالقافية "يعود"، وهي تجاوب مع قافية الشطر الثالث "البعيد". على أن مجيء التدوير في الشطر الثانى قد جعل تقطيع الشطر كما يلي:
ترى يا/ صغار ر/ رعاة/ يعود ر
فعولن/ فعولن/ فعولُ/ فعولن

ومعنى ذلك أن قافية "البعيد" أصبحت تقابل كلمة "يعودر" وبذلك ماتت القافية وكان على الشاعر أن يضحى بواحد من اثنين القافية أو التدوير)24، وذلك بالرغم من أن مسألة القافية في شعر التفعيلة متروكة لحرية الشاعر.

ورغم قول نازك بعدم التزام الشاعر بعدد معين من التفعيلات في السطر الشعري تعود

وترفض أن يزيد عدد التفعيلات في السطر الواحد عن خمس تفعيلات حيث تقول: (وجاء المعاصرون وتناولوا الحرية التي أباحها لهم الشعر الحر فخرجوا على قانون الأذن العربية، ونظموا أشطراً ذات خمس تفعيلات، وكان ينبغى، إذ ذاك أن يتوقفوا ويدرسوا المسألة ويقرروا مدى نجاحها ولماذا لم يكتب العرب شعراً خماسي التفعيلات على الإطلاق)25، وتحت عنوان "إساءة الكتابة" قالت نازك: (الأصلُ في الشعر أن يكتب حسب وزنه وتفعيلاته، فيقف الكاتبُ عند نهاية الشطر العروضي)26، وتتمادى في ذلك وتنعي استقلالية كل بيت في معناه عن الآخر في القصيدة العمودية (وكان المألوفُ في الشعر العربي كله أن يكون البيت تاماً في حدود شطريه. وكان ذلك يحفظ للبيت عزلته ويعصم القارئ من الالتباس. أما اليوم فحتى هذا الدليل ضاع من يدي القارئ، كما نرى في أشطر بدر السياب:
أود لو أطلُّ من أَسِرة التِّلالْ
لألْمَحَ القمر
يخوض بين ضفتيك يصنع الظِّلالْ
ويَملأُ السُّهول
بالماء والأسماك والزهَرْ

هذه خمسةُ أشطرٍ تضم كلها عبارة واحدة، أي ثلاثة أبيات منها تشترك في عبارة واحدة)27، أمن المعقول أن تكونَ هناك مجددةٌ وتدعي الريادة، وتطلبُ من الشعراء أن يكونَ كُلُّ سطر شعري تاماً في معناه ومستقلا عن الآخر، لقد كان باكثير أكثرَ حداثةً من ذلك بخصوص ذلك، وتشهد بذلك مقدمة ترجمته لمسرحية "روميو وجوليت"، التي اتخذ منها د. عبد العزيز المقالح رداً على ادعاء نازك بريادة شعر التفعيلة حيث قال باكثير: (فالبيت هنا ليس وحدة إنما الوحدة هي الجملة التامة التي تستغرق بيتين أو ثلاثة، دون أن يقف القارئ إلاَّ عند نهايتها، وهو كذلك حر -أعنى النظم- لعدم التزام عدد معين من التفعيلات في البيت الواحد)28، وبالطبع كان لناقدة مثل نازك الملائكة أن تتفنن في ابتكار القيود أن ترفض ما كان يرفضه عروض القصيدة العمودية، واستخدمه شعراء التفعيلة مثل تعدد تشكيلات البحور في القصيدة الواحدة حيث تقول: (لكل بحر من بحور الشعر تشكيلات مختلفة لا يمكن أن تتجاور في قصيدة واحدة وإنما ينبغي أن تستقل كل قصيدة بتشكيلة ما)29.

وتقول أيضا: (يكادُ يكون الخلط بين التشكيلات أفظع أنواع الغلط وأكثر شيوعاً في الشعر الحر)30، وتستطرد نازك في حديثها عن ذلك وتقول: (وكان منشأ الكبوة التي وقع فيها شعراؤنا المعاصرون أنهم ظنوا أن البحور الشعرية تصبح في الشعر متجاوبة مع تشكيلاتها جميعاً، بحيث يصح المزج بينها، وكذلك فسروا الحرية في هذا الشعر الجديد، وكذلك خرجوا على الأذن العربية فكان لابد للقراء المتذوقين أن ينصرفوا عن قراءة هذا الشعر)31، شاعرة وناقدة تدعي الريادة والتجديد تقيم الدنيا ولا تقعدها لمجرد المزج بين أكثر من تشكيلة/ صورة لتفعيلة بحر واحد في قصيدة واحدة، ماذا ستقول لو أن شاعراً مزج بين تفعيلات البحور المختلفة في قصيدة واحدة؟!

والجَديرُ بِالذِّكرِ أنَّ هناك شعراء من الجيل الأول لقصيدة التفعيلة مثل: بدر شاكر السياب والبياتي، وعبد الصبور، وحجازي، وخليل حاوي، ونزار قباني، وفدوي طوقان، وبلند الحيدري ومحمود درويش، ومن الجيل الثاني مثل: أمل دنقل وعفيفي مطر وغيرهم، وكذلك الكثير من شعراء التفعيلة في مختلف الأجيال لم يضعوا في حسبانهم القيود التي تفننت نازك في صناعتها لتقيد شعر التفعيلة فاستعملوا التدوير، والزحاف وكانت لديهم سطور شعرية يزيد فيها عدد التفعيلات عن خمس، ومزجوا بين تشكيلات البحر الواحد في القصيدة، ولكنهم لم يمزجوا بين التفعيلات المختلفة في القصيدة الواحدة وإن حدث ذلك ذات مرة فلم يخرج عنْ كَونهِ تجارِبٌ فرديةٌ لا تُشكلُ تياراً شعرياً يقترب من تخوم الشعر الحر، القائم على اعتصار موسيقى اللغة وتنويع التفعيلات في القصيدة الواحدة سواء اتفق ذلك مع ضرورات العروض أم لا.

إنَّ العمود الفقري لكتاب "قضايا الشعر المعاصر" هو قصيدة التفعيلة والعروض، وما توسعت فيه نازك الملائكة من ناحية البناء الموسيقى لقصيدة التفعيلة، ذكره علي أحمد باكثير في مقدمة مسرحيته الشعرية المترجمة "روميو وجوليت"، ومسرحيته الشعرية التي ألفها "إخناتون ونفرتيتي"، كما كانت مجلة الآداب البيروتية منذ 1953م حاضنة مهمة آنذاك لقصيدة التفعيلة من ناحية نشر القصائد والتنظير لقواعد وأسس الشَّكل الفني لقصيدة التفعيلة، ولكن كتاب "قضايا الشعر المعاصر" ارتبط في الأذهان بقصيدة التفعيلة وعروضها وأصبح مرجعا لعدة أسباب منها: تراجعُ علي أحمد باكثير وانزواؤه بعيداً عن المشهد الشعري، وهناك سبب آخر جوهري وهام يتعلق بانتشار كتاب "قضايا الشعر المعاصر"، وهو أن نازك الملائكة كانت دائماً تجعل من النموذج التراثي مثلا أعلى، وكما قال أدونيس: "الثقافة العربية تميل إلى تقديس النموذج التراثي".

ومن مقولاتها المبالغِ فيها بخصوص النموذج التراثي تحت عنوان: "الحنين إلى الاستقلال" قالت نازك: (يحب الشاعر الحديث أن يثبت فرديته باختطاط سبيل شعري معاصر، يصب فيه شخصيته الحديثة التي تتميز عن الشاعر القديم. إنه يرغب في أن يستقل ويبدع لنفسه شيئاً يستوحيه من حاجات العصر. ويريدُ أن يكف عن أن يكون تابعاً لامرئ القيس والمتنبي والمعري، وهو في هذا أشبه بصبي يتحرق إلى أن يثبت استقلاله عن أبويه فيبدأ بمقاومتها، ويعني هذا أن لحركة الشعر الحر جذور نفسية تفرضها، كأن العصر كلَّه أشبه بغلامٍ في السادسة عشر يرغب في أن يُعاملَ معاملةَ الكبارِ فلا يُنظر إليه وكأنه طفل أبداً)32، ومثال آخر أكثر تشدداً قول نازك إن قصيدة التفعيلة (التي لا تقبل التقطيع على أساس العروض القديم -الذي لا عروض سواه لشعرنا العربى- لهي قصيدة ركيكة مختلة الوزن)33، كان من الممكن أن تمر هذه المقولة بشكل طبيعي في كتاب ألفته شاعرة وناقدة تجعل التراث مثلا أعلى، لولا الجملة الاعتراضية "الذي لا عروض سواه لشعرنا العربي" لو أن هذه الجملة غير موجودة ما أثر ذلك بشيء في إيصال الرسالة المقصودة، ووجودها يؤكد على أن نازك الملائكة "ملكية أكثر من الملك"، فالخليل ابن أحمد نفسه مؤسس علم العروض أشار إلى وجود بحور مهملة لم ينظم عليها العرب أشعارهم، مثل: (البحر المُطَرّدُ فإذا تتبعنا حركاته وسكناته وجدناها تكون التفعيلات الأتية:

فاعِ لاتن/ مفاعيلن/ مفاعيلن فاعِ لاتن/ مفاعيلن/ مفاعيلن)34، وجاء "الأخفش" تلميذ الخليل بعد ذلك واكتشف بحر المتدارك "فاعلن"، ولم يقل له أحد ما قالته نازك الملائكة عن عروض الخليل بن أحمد، وكذلك كان أبو العتاهية المعاصر للخليل بن أحمد معروفاً في خروج بعض أشعاره عن أوزان العروض، وقال عن ذلك ابن قتيبة دون أن يقلل من شعرية أبي العتاهية بسبب هذا الخروج (وكان لسرعته وسهولة شعره عليه ربما قال شعراً موزوناً يخرج به عن أعاريض الشعر وأوزان العرب، وقعد يوماً عند قصّار فسمع صوت المدقة فحكى ذلك في ألفاظ شعره وهو عدة أبيات منها:
للمنون دائرا ت يدرن صرفها
هُنَّ ينتقيننا واحداً فواحداً35.

ولأنَّ العمود الفقري لكتاب "قضايا الشعر المعاصر" كما أشرتُ سابقاً كان قصيدة التفعيلة التي سمتها نازك خطأ بالشعر الحر، كان كلامي منصباً على تفنيد زعم نازك بالريادة وخلطها بين الشعر التفعيلي والشعر الحر، والقيود التي تصنعها القيد تلو القيد، وتمجيدها للنموذج التراثي على حساب النموذج الحداثي الذي تدعوا إليه وتزعم أنها رائدة له.

أما بخصوص الأشكال الشعرية الأخرى فإن نازك الملائكة لم تذكر ولو مجرد إشارة لقصيدة العامية الحرة، رغم انتشار أشعار فؤاد وحداد وصلاح جاهين في مصر وخارجها في الخمسينات من القرن الماضي، وبروز حركة قصيدة العامية اللبنانية على يد روادها في ميشيل طراد وسعيد عقل وغيرهم، ولو أن نازك لم تضع لكتابها هذا العنوان: "قضايا الشعر المعاصر"، وهو عنوان واسع فضفاض ما كنت أشرت لهذا الاهمال والتجاهل الشديد، وقد تناول د. غالي شكري قصيدة العامية الحرة وروادها في كتابه "شعرنا العربي إلى أين؟" الذي صدر سنة 1966م، وكتاب "قضايا الشعر المعاصر" صدر في ثلاث طبعات عام 1962م وعام 1965م وعام 1967م، وفي هذه الفترة كانت قصيدة العامية الحرة ظاهرة من ظواهر الشعر العربي المعاصر آنذاك تجاهلتها نازك الملائكة تماماً.

وأفردت نازك الملائكة في كتابها "قضايا الشعر المعاصر" فصلاً للحديث عن "قصيدة النثر" وهناك ثلاث نقاط أود الإشارة إليها بخصوص آراء نازك الملائكة في قصيدة النثر.

أولا: اعترضت نازك على كتابة قصيدة النثر في شكل سطور شعرية حيثُ قالت في تعليقها على قصيدة لمحمد الماغوط: (... ليلاحظ القارئ أنه نثر طبيعي كالنثر، على الرغم من أنَّ صاحبه ينثره على أسطر كما أنه لو كان شعراً حراً)36، والشعر الحر عند نازك الملائكة هو شعر التفعيلة كما تردد هي دائماً في كتابها! واستنكارها لاستخدام شعراء قصيدة النثر طريقة السطور الشعرية ليس في محله؛ لأنَّ الشعر العربي عرف السطر الشعري لأول مرة في ديوان "هتاف الأودية" لأمين الريحاني الذي كتبه عام 1910م، الذي يتضمن قصائد من الشعر المنثور كتبت بطريقة السطر الشعري، واعتبرها البعض بداية التأسيس لقصيدة النثر في شعرنا العربي، وبخصوص ذلك يمكن الاستشهاد بهذا المقطع من قصيدة "بلبل ورياح":
في القفصِ يُغردُ البلبل
وفي الأوديةِ تولول الرِّياح
الأشجار تنشر عطرها على أزاهر تموت في الحقول
من اليم يتصاعد الضباب
فيثير في القلب أشجاناً تسوقها رياح تذيب العذاب37

كما يتضمن ديوان "هتاف الأودية" قصائد من الشعر الحر، الذي تقوم موسيقاه على التنغيم والمزج بين عدة تفعيلات في النص الشعري الواحد بعيداً عن العروض وضروراته، وبخصوص ذلك يمكن الاستشهاد بهذا المقطع من قصيدة "رماد ونجوم":
تحت الرماد وفوق النجوم
ما لا يُرى من حياة تدوم
فضيلة تجر أذيال الفخر والتبجح
في أزقة الرياء وأروقة الورع والقداسة
رذيلة تقضي حياتها في ظلمات السكوت والكتمان
وراء ستار الخمول والنسيان
كرهت الأولى نفسي وحَنَّ إلى الثانية فؤادي
في الصعلوك نفس تكبر إذا انطلقت من القيود والأغلال
وفي الملك نفس تصغر إذا جُردت من ترهات الأبهة والإجلال38.

ثانياً: أن ترفض نازك الملائكة قصيدة النثر فهي حرة في ذلك، ولكن لا يجب في ذررة الاندفاع أن يخرج الأمر عن كونه جدلاً حولَ الأشكال الشعرية إلى اتهام للآخر بالخيانة حيثُ تقولُ نازك (يكتبون النثر ويسمونه، في جرأة عجيبة، شعراً، حتى فقدت كلمة شعر صراحتها ونصاعتها، ولسوف يتشكك الجمهور في أي شعر نقدمه باسم الشعر؛ لأن لفظ الشعر قد تبلبل معناه واختلط، والواقع أن هذه الكذبة وكل كذبة مثلها خيانة للغة العربية والعرب أنفسهم)39، هذا خلط غير مقبول ما علاقة قبول أو رفض شكل شعري معين بالكذب الأخلاقي، باتهام شاعر بالخيانة للغته وأمته بغض النظر عن رفضك أو قبولك لشعره، وهكذا انفلت الأمر من نازك الملائكة وتحول إلى تخوين دون أي مبرر لذلك؟ وبمنطقها هذا الذي يفتقد للمنطق يصبح رامبو وبودلير وكل من كتبوا قصيدة النثر خونة للغتهم وأمتهم؟

ثالثاً: ليست نازك الملائكة هي أول من رفض قصيدة النثر في شعرنا الحديث والمعاصر معللة رفضها بضرورة اقتران الشعر بالوزن العروضي، فإن كانت نازك تقول: (يكتبون النثر ويسمونه، في جرأة عجيبة شعراً)، سنجد في المقابل من يقول: شعراء قصيدة التفعيلة (يكتبون النظم ويسمونه في جرأة عجيبة ويسمونه شعراً حداثياً متحرراً)، واقتران الشعر بالوزن مسألة قديمة بقدم الشعر ذاته في كل اللغات والحضارات، وفي نفس الوقت لم يكن الوزن وحده كفيلا بانتاج الشعر رغم العلاقة القديمة بين الشعر والوزن، إذ هناك قرائن أخرى للشعر عرفها الأقدمون وهي التَّخْيِيل والتصوير الشعري والمعنى والعاطفة ولذلك فرقوا بين النظم العلمي كألفية مالك في شرح النحو والتي جاءت موزونة ومقفاة وبين القصائد الشعرية، وقد مر الشعر في كُلِّ الثقافات بمراحل تطوير وتجديد تمثلث في الخروج على الأوزان القديمة، وقصيدة التفعيلة هي الشكل الحداثي الأبرز لهذا التطوير والتجديد.

أما قصيدة النثر فلا تنتمي لهذا النوع من التطوير المتعلق بأوزان العروض بل هي شكل شعري لم يضع أوزان العروض من الأساس في حسبانه، إذ هي -قصيدة النثر- جاءت من منبع "البحث عن الشعرية في النثر"، وهو مختلف تماماً عن المنبع الذي جاءت منه قصيدة التفعيلة "البحث عن الشعرية في النظم الحداثي" . ونظراً لاختلاف المنبع والمسار الذي اختطه كل قصيدة منهما، فإن قصيدة النثر ليست تطوراً لقصيدة التفعيلة بل هذه شكل شعري وتلك شكل آخر.

والأساس الذي ترتكز عليه شعرية الشعر -ما يجعل الشعر شعراً- هو الرؤيا والتشكيل الجمالي، وإن كانت الرؤيا بمدلولها اللغوي تعني ما يراه النائم "الحلم" فإن الرؤيا بمدلولها الشعري قريبةٌ من ذلك، فالرؤيا الشعرية هي التجربة الشعورية التي يعيشها الشاعر يرى فيها الأشياء والظواهر ببصيرته وعين قلبه ووجدانه خياله، يتجاوز السطح الخارجي للمرئيات وينفذ إلى عمق الأشياء ليكشف عن اللب والجوهر، ويصوغ الشاعر تلك الرؤيا في بناءٍ فنيٍّ يُسمَّى "قصيدة"، عبر لغةٍ قائمةٍ على الإيحاء والإيماء والتخييل والترميز، وبذلك لا تكون قصيدة النثر نثراً عادياً أو نثراً فنيّاً، بل هي قصيدةٌ لأنها تجلٍّ كتابيٍّ وتشكيلٍ جماليٍّ لرؤى شعريةٍ، ونظراً لاختلافِ المنبعِ الَّذي جاءت منه قصيدة التفعيلة عن المنبع الذي جاءت قصيدة النثر، لا تعد قصيدة النثر تطوراً لقصيدة التفعيلة.

وأخيراً في ظني أنَّ العبرة ليس بالشَّكلِ الشِّعري "تفعيلي" أو "حر" أو "قصيدة نثر" ولكن العبرة بتحقق الشعرية الرؤيا والتَّشكيل الجمالي، فلا يكون الشَّاعرُ شاعراً إلاَّ إذا امتلك رؤيا وثقافة شاعر، ووعي روحي جمالي بالذات والآخر والعالم والتاريخ.


الهوامش
1. نازك الملائكة: قضايا الشعر المعاصر، منشورات مكتبة النهضة، ط1 1962م، ص: 60.
2. المصدر السابق، ص: 67.
3. المصدر السابق، ص: 68.
4. قضايا الشعر المعاصر، ص: 64.
5. قضايا لشعر المعاصر، ص: 23.
6. المصدر السابق، ص: 23.
7. المصدر السابق، ص: 16.
8. آراء حول قديم الشعر وحديثه، كتاب العربي -سلسلة فصيلة تصدرها مجلة العربى- الكويت، الكتاب الثالث عشر: 15 أكتوبر 1986، ص: 158.
9. آراء حول قديم الشعر وحديثه، كتاب العربي، ص: 158، وفي مقدمة ترجمة "مسرحية روميو وجولييت"، مكتبة مصر، بدون تاريخ، ص: 3.
10. المصدر السابق، ص: 159. وفي مقدمة مسرحية "إخناتون ونفرتيتى"، الطبعة الثانية، دار الكاتب العربي القاهرة 1967م، ص: 5.
11. أمين الريحاني: هتاف الأودية، الموسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت 1986م، المقدمة، ص: 5.
12. دريني خشبة: الشعر الحر والشعر المرسل، مجلة الرسالة، القاهرة: 25 – 10، 1943 م العدد: 53.
13. مجلة الآداب بيروت، العدد: 6 عام 1954م، ص: 66.
14. د. عز الدين إسماعيل، الشعر العربي وظواهره الفنية والمعنوية، ص: 102.
15. محمد علي عزب: عن تحولات الشعر العامي بين التراث والمعاصرة، إقليم القاهرة الكبرى وشمال الصعيد الثقافي 2014م، ط 1 ص: 12-13.
16. المصدر السابق، ص: 13.
17. قضايا الشعر المعاصر، ص: 54.
18. قضايا الشعر المعاصر، ص: 56.
19. قضايا الشعر المعاصر، ص: 28.
20. قضايا الشعر المعاصر، ص: 89.
21. قضايا الشعر المعاصر، ص: 90.
22. قضايا الشعر المعاصر، ص: 96.
23. قضايا الشعر المعاصر، ص: 96.
24. قضايا الشعر المعاصر، ص: 97.
25. قضايا الشعر المعاصر، ص: 103.
26. قضايا الشعر المعاصر، ص: 137.
27. قضايا الشعر المعاصر، ص: 141.
28. آراء حول قديم الشعر وحديثه، كتاب العربي، ص: 158.
29. قضايا الشعر المعاصر، ص: 73.
30. قضايا الشعر المعاصر، ص: 152.
31. قضايا الشعر المعاصر، ص: 152.
32. قضايا الشعر المعاصر، ص: 44 -45.
33. قضايا الشعر المعاصر، ص: 74.
34. كتاب العروض صنعة ابن جني: تحقيق د. أحمد فوزى الهيب، دار القلم للنشر والتوزيع، الكويت ط2 1989م، ص: 47 مقدمة المحقق.
35. ابن قتبية: الشعر والشعراء، دار الثقافة بيروت، بدون تاريخ ج1 ص: 498.
36. قضايا الشعر المعاصر، ص: 183.
37. أمين الريحاني: هتاف الأودية، ط2 قصيدة بلبل ورياح.
38. أمين الريحاني: هتاف الأودية ط2، قصيدة رماد ونجوم.
39. قضايا الشعر المعاصر، ص: 193.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها