تَشهدُ الفترةُ الأخيرةُ اهتمامًا بالغًا بالشّعرِ العَربيِّ المعاصرِ، خاصة في صنفيْه العموديِّ والتّفعيليِّ، وهذا الاهتمامُ راجعٌ إلى مدى قابليته للتوأمة بينه وبين النّثر من جهة، وقدرته على التّمازج بينه وبين الفنون السّمعية البصرية، وقدرته على مخاطبة المتلقيّ العربيّ ومواكبته للعصر وجديد اختراعاته، ولقد كان الشّعر ولا يزال الكلام السّاميّ، والجنس الأدبيّ الأقرب إلى الذّاكرة والذّائقة العربيتين، وأب الفنون والأجناس جميعها، قادراً على احتوائها ورعايتها ومدّها بالطّاقة والحياة.
ومع تحوّلات العصر، أصبحَ شاعرُ اليوم يمسك الفرشاة ليلوّن القصيدة، ويأخذ الإزميل لينحت فيها مجرى جديداً، ويعزف أنغاماً على إيقاعاتها، ويبني طوابقها مستعيراً من فنّ العمارة وعلم الهندسة أدواتها وحساباتها، ومن السّينما تقنياتها وأضوائها، ويجعل من شخوصها ممثلين وراقصين... لكنّه في الأخير يظلُّ محتفظاً بروح الشّعر الّتي تجمّلها الصّورة الشّعريّة دون معزل عن باقي المكونات الفنيّة الأخرى.
يعلن الشّاعر كريم معتوق عن رؤيته الشّعرية من داخل القصيدة، بحيث يحدد فيها توجهات الحركة الشّعريّة الجديدة في العالم العربيّ، بها هي حركة مجدّدة، أصيلة ومعاصرة، لا تؤمن باليقينيات، تشك، تتعجب، لا تهادن، ذات تكوين عربيّ متين وأصيل، تستفيد من الثّقافة والفنّ والغناء والتّشكيل والتّلوين...
صِدْقٌ بِشَكِّي... رَيْبَةٌ بِيَقِينِي... لاَ تعْجَبِي مِنِّي وَمِنْ تَكْوِينِي
إنْ شِئْتُ أُغْنِيَّتِي تَجِيءُ بِخَيْلِهَا... مُتَسَارِعَاتِ الخَطْوِ وَالتَّلْوِينِ
هذه الرّؤية الجديدة للشعر ستتبلور مع مجموعة من الشّعراء المعاصرين على طول الرّقعة العربيّة، مضاعفين من اشتغالهم على نصوصهم الشّعرية العمودية والتّفعيلية، مستفيدين في ذلك من مجموعة من الفنون السّمعية البصرية، في مقدمتها المسرح.
كان المسرح ولا يزال "أب الفنون" فهو قادر على احتوائها ودَرْمَنَتِهَا، والشّعر ابن المسرح البكر، قد يتحوّل بعضه إلى إبداعٍ حواريٍّ أقرب من "الشّعر المسرحيّ" أو "القصيدة المسرحيّة".
هذا ما نجده عند الشّاعر والمسرحيّ، عبد الرّزاق الرّبيعيّ، فهو خير من يمثل "القصيدة المسرحيّة"، ذلك لأنّه يكتب وهو يفكر بعقلية المخرج المسرحيّ، يكتب "المرتجلة الشّعريّة" (قصيدة تُكتب لِتُمَثَل)، مستفيداً من الحوار والدّيكور والمونولوج... ومن بين هذه القصائد نجد قصيدة "دروب تبانة" وهي قصيدة طويلة تنطلق من فضاء مسرحيّ موسّع، حاشداً فيها كلّ المكونات المسرحيّة من ديكور وإكسسوار وفرقة موسيقية ومطربين (المطربة مائدة نزهت) والفلكلور والموسيقى الشّعبية، الحوار، الشّخصيات (الأول، الثاني، الثالث، أبو سرحان) ألوان، الرقص، أضواء.
يبدأ المشهدُ المسرحيّ بحركة في الزّمكان، بذهاب الأطفال إلى المدرسة: (يذهبون، يمسك كل واحد منهم، يزجون، يغنون، يسيرون، ينتعلون، يتكئون، يجرون...) كلّ هذه الأفعال/ الحركات، تقع على فضاء رابط بين الدرب، القسم والمدرسة، أو تخيليا على الرّكح/ خشبة المسرح. وعبر تتابع الأحداث يتداخل الحوار وتتوالد الأسئلة، وتظهر شخصيات وأحداث جديدة وتتأزم المواقف، ويضاء المكان ويخفت أحياناً، تتعالى أصوات، أغاني ونداءات وأصداء، وتنتهي القصيدة/ المسرحيّة بإسدال السّتار:
وَأَسْدَلَتِ البِنْتُ سِتَارةَ
شُبَاك الجَارِ السَّابِعْ
شَاخَ "الكَوْكَبْ"
مِثْلَ المَاءِ
وَظِلّ الصَّوْتِ
يدُورُ بِقُرْصِ "غرامافون"
وَيَنْحَبْ.
في هذه القصيدة وغيرها من القصائد يسعى الشّاعرُ إلى مَسْرَحَةِ الشِّعْرِ وشَعْرَنَةِ المسرح، وهذا ليس بغريب على شاعرٍ ومسرحيٍّ نذر حياته لذلك، ألم يكن المسرح في أصوله يسمى شعراً دراميّاً؟
يعلق الشّاعر في القصيدة الواحدة على الأحداث أو يوضحها، أو يقدم الإرشادات المسرحية/ الشّعرية، وينطلق من الفضاء المدرسيِّ/ الواقعيِّ إلى الفضاء السّينوغرافيّ المتخيل، ينطلق من المشهد الحقيقيّ للارتقاء به إلى "الواقعيّة المشهدية الدراميّة"، من أجل تخصيب الدّلالة الشّعرية وتوسيعها، واستشعار القارئ باللّحظة العربية الآنية.
وقريباً من عبد الرّزاق الرّبيعي نجد الشّاعر محمد عبد الله البريكي يجمع في القصيدة الواحدة بين كل مكونات المسرح من الكتابة إلى الإخراج والأداء المسرحيين؛ إبداعاً ورؤيةً. ومن أجواء هذه التّجربة المتميزة نقرأ مقطعاً من قصيدة "نخلة العشاق" وهي رسالةُ محبّةٍ وسلامٍ منه إلى قرطاج:
يَفِزُّ مِنْ شَفَتِي عُصْفُورُ ذَاكِرَةٍ... وَاليَاسَمِينُ لِعَيْنَيْهَا يَمُدُّ يَدَا
أَتَيْتَ وَحْدَكَ تَشْدُو؟ قَالَتْ امْرَأَةٌ... فَقُلْتُ لاَ لاَ وَلَكِنْ لاَ أَرَى أَحَدَا
كلٌّ يُؤَنِقُ فِي قَرْطَاجَ صُورَتَهُ... وَنَبْضُ بَوِحِي أَتَى بِالشّوْقِ مُنْفَرِدَا
قَالَتْ لِي: الأَرْضُ أُنْثَاكَ الّتِي وَجَدَتْ... فِيكَ الأُمُومَةَ تَرْتِيلاً، فَكُنْ وَلَدَا
لقد اتخذ الشّاعر من مدينة قرطاج التّونسية فضاء سينوغرافيا للمتخيل الشّعريّ، يلعب فيه الشّاعر دور الممثل/ المنشد، فيدخل في حوار مسرحيّ مع شخصية ثانية (امرأة) لينتقل عبر الصّراع الدراميّ إلى الكشف عن الحالة النّفسية تأسيساً لحكي شعريّ سرديّ قائم على التّقطيع المشهديّ، جاعلاً القارئ ينخرط معه في الإخراج المسرحيّ والتّطهير الرّوحيّ والتّواصل الثّقافيّ والحضاريّ بين البلدين (الإمارات العربية المتحدة وتونس).
في معظم قصائده يستفيد الشّاعر عمر الرّاجي من المسرح في بناء رؤاه الشّعرية وفي بناء القصيدة الدّرامية وتجديد أطلالها، وفي قصائده الأخيرة اشتغالٌ قاسٍ على تقنيات المسرح من ديكور وإكسسوار ومشاهد وفصول، وأكثر من ذلك اشتغاله على الحوار الدّاخلي والهواجس وكذا الحوار بين الشّخوص في تراتبية إيقاعية محكومة لإيقاع النّص ورؤيته النّسقية العامة:
تَقُولُ: انْتَظِرْنِي حِينَ يَهْرُبُ مِنْ يَدِ الْــ... ــحِكَايَاتِ إِنْجِيلُ الرُّؤَى وَنَشِيدُهَا
وَحِينَ تَذُوبُ الشَّمْسُ فِي مَشْهَدِ الدُّجَى... كَجُرْعَةِ غَيْبٍ يَشْتَهِيهَا خُلُودُهَا
أُمَازِحُهَا بِالقَوْلِ: هَلْ أَنْتِ فِكْرَتِي؟... يُجيبُ بِصَمْتِ العَارِفِينَ بُرُودُهَا
إذا كان عمر الرّاجي يشتغل على القصيدة المسرحيّة ككل، فإنّ الشّاعرة شريفة بدري تكتفي منها بتقنية الحوار: (سؤال، جواب) وقد تكتفي بالسّؤال دون الجواب فاتحة بذلك للمتلقي باب المشاهدة والمشاركة:
سَيَسْأَلُونَكَ قُلْ أَسْرَى بِهَا الشَّغَفُ... وَأَيْنَمَا وَقَفَتْ أَشْوَاقُهَا تَقِفُ
سَيَسْأَلُونَكَ قُلْ بَابٌ عَلَى نَغَمٍ... مِنْ وَحْيهِ بَهْجَةُ الأَلْوَانِ تُقْتَطَفُ
قلْ رُبَمَا غَادَرَ الغَاوونَ سِيرَتَهَا... أوْ رُبَمَا ضَجَرَتْ مِنْ رَفِّهَا التُّحَفُ
أمّا الشّاعر الشّاب علي مي فهو أكثر شغفاً بالحكايةِ المسرحيّةِ، حيثُ يلعب في قصيدته دور الحاكي/ المحدث، ليحدّثنا وحده، دون ممثلين، وهي تقنية مستوحاة من المسرح الفرديّ/ مسرح الممثل الواحد:
أُحَدِّثُكُمْ وَالأَبَجَدِيَاتُ مَسْرَحُ... عَنِ البِنْتِ وَالبَابِ الّذي لَيْسَ يُفْتَحُ
وَعَنْ مَوْعِدٍ تُفَاحهُ البكرُ لم يزلْ... على الغُصنِ لَمْ يَمْسَسْهُ إِلاَّ التَّرَنُحُ
وَعْنْ شَاعرٍ من كان آذارُ خاطراً... بأحداقها عن حلمهِ لا يزحزحُ
ولما كان الحوار هو الوجه الأمثل لتلاقي الشّعر بالمسرح فقد استخدمه الشّعراء استخداماً جيداً مما أعطى للقصيدة طابع الدّينامية والدّيمومة وخلق فرجة وصراعاً دراميّاً في الشّعر.
يبدو لنا الشّاعر عبد العزيز الهمامي شغوفاً بموسيقى الطّبيعة وموسيقى الإنسان/الآلة، فهو لا ينفك يوظف الصّوت وما يرجعه من أصداء عبر ثنائيّة ضديّة جميلة، أما موسيقى الآلة، فقد تتبعنا شعره فوجدناه شغوفاً بالقيثارة والنّاي:
"مُدُنٌ يُعَرِّشُ فِي نَوَافِذِهَا الصَّدَى... ضَاعَت فَمَا مَدَّ الزَّمَانُ لَهَا يَدَا
مُنْذُ انكِسَارِ الضَّوْءِ فِي أَهْدَابِهَا... عَادَتْ بِلاَ وَجْهٍ لِتَفْتَرِشَ النَّدَى
تَعِبَتْ مِنَ الأَسْفَارِ وَهْيَ غَرِيبَةٌ ... وَهُنَاكَ لَيْـلٌ فِي ذَوَائِبِهَا بَدَا
تَخْضَلُّ مِنْ وَجَعٍ كَمَا لَوْ أَنَّهَا ... قِيثَارَةٌ فِي الرِّيحِ يَعْـزِفُهَا المَدَى
لا تنفصل الموسيقى عند شاعرنا بباقي المكونات الفنيّة الأخرى، فهو يعجنها بماء اللّغة، يدمغها مع الحروف والكلمات والصّوت والمجاز ليفتح بها أفقاً جديداً في القصيدة العربيّة ومداها اللاّمتناهي:
أَطِيرُ إلَى أقْصَى المَجَازِ كَعَاشِقٍ... يُمَشِّطُ ريحَ المُفْرَدَاتِ ويَغْزِلُ
وينزفُ نايٌ فِي مَسَامَاتِ أَحْرُفِي... ويَخْضَلُّ صَوْتي والفَضَاءُ مُكبّلُ
وَلِي من تبارحِ المَدَى حُلْمُ نَجْمَةٍ... وَكَوْنٌ بِأَنْوَارِ النُّبُوَءَةِ يَرْفُلُ
ترتبط الموسيقى ارتباطاً وثيقاً بالنّص الشّعريّ، فهي موسيقى "داخل نصيّة"، تتجلى في العروض والإيقاع بمفهومه الواسع، "خارج نصية" في أدواتها وأشكالها وكلّ ما يتعلق بها كفنّ سمعيّ وأدائيّ، وقد تمثلها الشّاعر تمثلاً جيداً، مبدعاً في ذلك معادلة إيقاعية تسعى إلى كتابة "قصيدة سمفونية".
ويقترب من عوالمه الشّاعر إبراهيم السّالمي ويتقاسم معه عشقه للناي والقيثارة والصّوت والصّدى:
مُنْذُ أَنْ كَانَ لِلْمَدَى نَزْفُ نَاي... مَبْدَأُ الوَجْدِ كَانَ مِنْ مُقْلتَيْهَا
فَانْثَنى بِي عَلَى كَثِيرِ مُرَادٍ... وَبَعيدِ المَنَالِ مِنْ أَصْغَرَيْهَا
أَنْتَ مَنْ أَنْتَ فِي الكَثِيرين مِمَنْ... نَازَعُوكَ الجِنَى عَلَى جنَّتيها
حَالِمٌ كَمْ أَضَعْتَ مِنْ أُغْنِياتٍ... عَذْبَةَ اللَّحْنِ مِنْ عَلَى أَعْذَبيْهَا
ويتماهى معهم الشّاعر المهندس وسام عبد الحق العاني عبر مضاعفته الاشتغال على الإيقاع الدّاخليّ لنصوصه محققاً بذلك موسيقى شعرية خاصة عبر التّكرار والتّوازي والتّنغيم والتّطريب والتّشكيل والموازنة الصّوتية، فتتحوّل عنده القصيدة إلى موسيقى مضغوطةٍ محكومةٍ بحسابٍ هندسيٍّ عروضيٍّ دقيقٍ:
قُمْ رُدَّ لِلْعَرَبِيِّ سَمْتَ عِقَالِهِ... وَلِسَيْفِ عَنْتَرَةَ القَدِيمِ تَأَلُّقَهْ
لِتَعُودَ عَبْلَةُ فِي القَبيلةِ حُرَّةً... بِجَدَائِلَ بَيْنَ السَّحَابِ مُحَلِّقهْ
وَتَعُودُ بَغْدَادُ الجَمَالُ مَجَرَّةً... تَزْدَانُ فِي يَدِهَا الكَوَاكِبُ مُشْرِقَهْ
أو مثلما نجد عنده في المقطع الشّعريّ التّاليّ:
وَأَنَا البَقَاءُ... أَنَا الرَّحِيلُ
وَأَنَا المَتَاهَةُ... أَنَا الدَّلِيلُ
وَأَنَا الجَمِيعُ... أَنَا الوَحِيدُ
وفي نفس السّياق يذهب الشّاعر نزار أبو ناصر بالغناء بعيداً في قصيدته؛ إذ يصف مجالس الغناء وأجوائه النّفسية، فتتحوّل القصيدة عنده إلى طقسٍ غنائيٍّ بين الشّاعر والمتلقي:
لَوْ تُغَنِّي
مَعَ مَنْ يُرِيحُكَ.. لَيْلاً
تَحْتَ نَجْمِي لاَ مُنتمٍ لِغِنَائِي
بَهْجَةً للْرُوحِ: اقْتِرَاحِي... وَنَثْرِي
مِثْلَ شِعْرِي إِذَا فَهِمْتَ انْتِشَائِي...
أما الشّاعر ياسن حزكر فنجده يطرح قضية مهمة تتجلى في دور الموسيقى وأهميتها في مواجهة العدمية والموت، موجهاً دعوة للحياة من داخل تجربة الموت:
وَفِي قَبْرِهِ المَنْفِيِّ
أَوْقَدَ حَرْفَهُ
وَأَوْقَدَ مُوسِيقَى أَضَاءَتْ
دَفَاتِرَهْ
"بِعُرْسِ الدَّمِ" الرِّيفِيِّ
غَازَلَ مَوْتَهُ
واطْمَأَنَ بِالْحَرْفِ الشَّهِيدِ عَسَاكِرَهْ.
وفي سياق تتبعنا لحضور الفنّ التّشكيليّ في شعرنا العربيّ الرّاهن، نجد الشّاعر والمترجم حسن المطروشي يترجم أحاسيسه الشّعرية إلى ألوان ورموز وخطوط، بحيث انتقل في دواوينه الأولى من التّأثر بالفنّ التّشكيليّ ثقافة وفنّاً، إلى ممارسته داخل القصيدة، راسماً بالكلمات قرى ومدنا جديدة:
سأرسمُ هَذي المَدِينَةَ مِرْوَحَةً
ثمَّ أتركهَا مثلَ زوبعةٍ تضطربْ
.. سأرسم هذي المدينةِ
ثَوْراً بَدِينًا
بِذَيْلِ بِغَالٍ
يَخُورُ خُوَارَ الخَنَازِيرِ
قَرْنَاهُ مِثْلَ رُؤُوسِ الشَّيَاطِينِ
يَلْتَهِمَانِ السُّحُبْ...
الشّاعر حسن المطروشي شغوفٌ بالفنِّ التّشكيليِّ ومدارسه الجديدة، خاصة المدرستين التّشكيليتين التّكعيبية والوحشية وأكثر تأثراً بعوالم الفنان الإسبانيّ بيكاسو مع إغراقه في العجيب والغريب والعوالم المدهشة.
إذا ما انتقلنا من المسرح والموسيقى نجد أنّ السّينما والشّعر تشكيلٌ جديد لعالم من المشاعر والأحداث والأفكار بالصّورة، بحيث يستعيرُ الشّعرُ من السّينما البعد المشهديّ والتّقطيع الزّمنيّ للصّور واللّقطات، تتحوّل بعض الصّور الشّعرية إلى صورٍ مشهديةٍ تصويريةٍ حيّة داخلَ العملِ الشّعريِّ.
هكذا نجدُ الشّاعرة حنان فرفور تستفيدُ من التّقنية السّينمائيّة المعروفة بالتّعتيم والإضاءة، فِي إبداعِ صورةٍ تسمو عن الواقعيّةِ المعيشةِ إلى الواقعيّةِ السّحريةِ:
تُحْصِي ظلِاَلَكَ: مَنْ سَارُوا إِلَيْكَ وَمَنْ... عَادُوا إِلَى الأَرْضِ، مَطْلِيّينَ بِالْغَسَقِ
تَسْقِي عَمَاكَ لَعَلَّ الضَّوْءَ، ثُمَّ لَعَلْ... طَرْوَادَةَ انْتَظَرَتْهُ آخِرَ النَّفَقِ
فبالإضافة إلى تقنية التّعتيم والإضاءة تحضر تقنية التقطيع والجينيرك وزوايا النّظر والتّصوير المشهديّ السّينمائيّ والفوتوغرافي هكذا نجد الشّاعر عبد السلام المساوي، سواء اشتغل على الصّورة الفتوغرافية في قصيدته أو صور لنا أشياءَ من الواقع بكاميراته الشّعرية، تتحوّل لغته وهي تتشكل في القصيدة إلى تصوير سينمائيّ ينقل لنا الصّور من فضاء الواقع إلى فضاء الشّاشة الشّعرية:
عَلَى الجُدْرَانِ وَاجِهَةٌ للزِينَةِ:
بُنْدُقِيةٌ مُتَقَاعِدَةٌ
تَرْنُو إِلَى الجَنَازَاتِ الرَّهِيبَةِ
وَعقدُ الصَّلاَةِ
يَتَلأَلأُ عِنْدَ الغُرُوبِ
إِبْرِيقُ الشَّاي
تَحْتَهُ خَلْخَالٌ يَتِيمُ السَّاقِ
ثمُّ صُورَةٌ لأِنْثَى هَارِبَة مِنْ عُرْسِهَا!
المقطع الشّعريّ أعلاه صورة تجميعية كبرى لمجموعة من الصّورة المنتقاة من جدارٍ في بيتِ العائلةِ/ واجهة للزينة، وهو بمثابة متحف عائليّ يحفظ الذّكرى ويربط بين الأجيال السّابقة واللاّحقة، كما يربط بين صور الأشياء في شكل تتابعيّ: البندقية، عقد الصّلاة، إبريق الشّاي، الخلخال، صورة الأنثى.. من أجل تكوين صورة متكاملة تجمع المشهد السّينمائي الصّامت بكامله.
من جهة أخرى، يعتبر الرّقص من بين أكثر الفنون البصرية والجسدية قدرة على إثارة العواطف واستقطاباً للمشاهد من أجل المشاركة في تذوق العرض المشاهد. وفي قراءة لمجمل الشّعراء هذه الكوكبة، نجد أنّهم يستلهمون فنّ الرّقص بكلّ أنواعه، سواء كان رقصاً فردياً أو جماعياً، عصرياً أو تقليدياً شعبيّاً، عربياً أو غير عربي، ذلك ما نجده عند الشّاعر عبد الله أبو بكر الّذي نجده شغوفاً بالموسيقى والرّقص الإسباني (الخيتانوس/ الفلامنكو)، فيصاحب الرّاقصة والمطرب وينشد ويردد معهما:
مَعَ رَقْصَةِ الفْلاَمِنْكُو...
كَانَتْ أَقْدَامُ الرَّاقِصَةِ تُغَنِّي
وَتُرقِّصُ جَوْفَ الأَرْضِ
كَانَ المُطْرِبُ
يَصْرَخُ بِالإِسْبَانِيَّةِ
"مَا قَتَلُونِي... مَا قَتَلُونِي...
وفي توليفة إبداعية شعرية تجمع الشّاعرة لانا سويدات أكثر من فنّ سمعيّ بصريّ في مقطع شعريّ واحد، لتبرهن على مدى قدرة القصيدة العمودية الموزونة واتساع صدرها لذلك:
عَذْرَاء كُلُّ مَعَانِي الحُبِّ أَرْسُمُهَا... فَتَنْحَنِي رِيشَةُ الأكْوَانِ مِنْ طَرَبِ
وَتَنْثُرُ الشِّعْرَ مُوسِيقَى عَلَى وَتَرٍ... لَمْ يَخْذِلِ اللَّحْنَ فِي دَوَامَةِ الكَرَبِ
مَا لِي وَلِلْشِعْرِ كَمْ هَادَنْتُ سَطْوَتهُ... وَمَا أَزَالُ ولِي فِي ذَلِكَ مُنْقَلبِي
نَخْلصُ من خلالِ التّحليلِ النّصيِّ السّابقِ إلى أنّ الفنون السّمعية البصرية في راهن شعرنا العربي المعاصر من خلال هذه النّماذج المختارة أو غيرها، لاَ تنبني بشكلٍ عشوائيٍّ خالٍ من العواطفِ والانفعالاتِ واللّمساتِ الشّعريةِ المدهشةِ، بلْ باستراتيجياتِ الكتابةِ الشّعريةِ القائمةِ على شعريةِ الانزياحِ وجماليةِ الدّهشةِ والمعرفةِ بالشّعرِ والتّراثِ والمعاصرة وتقلباتِ الواقعِ العربيِّ وعذباتِ الذّاتِ، وليستْ منفصلةً عنِ اللّغةِ والإيقاعِ والتّصويرِ والعاطفة...
وقد استفاد الشّاعر العربيّ المعاصر من الفنون السّمعية البصريّة في بناء قصيدة عربية جديدة متجددة ومتطورة للخروج من النّموذج المعيار، وذلك عبر توسيع آفاقها وإضاءة دروبها وعتماتها وبناء شخوصها وتلوين واجهاتها وتحريك شخوصها وترنيم إيقاعاتها وتطوير بنائها الدّراميّ ككل.
لقد تحولت بعض القصائد الّتي استفاد أصحابها من الفنون السّمعية البصريّة من قصائد خطية مكتوبة، إلى قصائد سمعية ومشهدية وركحية أكثر حركة وحياة، قادرة على خلق الصّراع الدّراميّ في الشّعر وعلى تعميق الشّعور بالدّلالة الشّعريّة المنفتحة.