الإمام الحافظ جلال الدين السيوطي عالم جليل رفد المكتبة العربية بكثير من المؤلفات التي جدد بها الدراسات الإسلامية والعربية. وقد نشرتُ بدار الكتب المصرية كتاباً بعنوان "مقامات السيوطي: دراسة في فن المقامة المصرية"، تناولت فيه مقاماته بدراسة نقدية واسعة لشخصيته الأدبية، التي أُهمل الكشف عنها بسبب طغيان شخصيته العلمية عليها؛ فقد كان عالماً فذاً اشتهر بحب العلم، وغزارة المؤلفات، وسعة المعرفة، وكان دائرة معارف العصر المملوكي في مصر، كما كان الجاحظ بالنسبة إلى العصر العباسى. كتب السيوطي ثلاثين مقامة كان لها دلالتها على التنوع والتميز الفني، وتعبيرها -من ثمَّ- عن شخصية الأدب المصري ممثلة في أدب السيوطي الذي عكس الطابع الموسوعي لثقافته العربية والإسلامية الرفيعة في مقاماته، كما عبر -من خلالها- عن عمق كيانه المصري في تفاعله الوثيق برقي الحضارة الإسلامية.
وكان لي شرف تقديم السيرة الذاتية للإمام الحافظ جلال الدين السيوطي التي صوَّرها في كتابه العظيم: "التحدث بنعمة الله"، الذي نُشر في سلسلة الذخائر الصادرة عن الهيئة العامة لقصور الثقافة بمصر.
تحدث فيه السيوطي بنعمة الله عليه، وقد تفرد في سيرته العطرة في هذا الكتاب بسرد رائع لمسيرته العلمية التي وقف عليها حياته، متميزاً بخلق العلماء العاملين الصالحين.

تبحر السيوطي في سبعة علوم هي: التفسير والحديث، والفقه والنحو، والمعاني والبيان والبديع، وقدم -في رحلة حياته المباركة – مئات الكتب المهمة في العلوم الإسلامية وعلوم العربية، فكان ظاهرة عبقرية نادرة في دقة التأليف مع غزارته وموسوعيته.
وقد كان السيوطي مخلصاً للرسالة السامية للعلم، متأدباً بأخلاق العلماء الأصلاء.
وتجسد هذا في رسالة له بعنوان: "التعريف بآداب التأليف" حققها مرزوق علي إبراهيم الذي يقول: إن السيوطي تناول في هذه الرسالة "الآداب التي تلزم المؤلف، وكذا طالب العلم والبحث، فبيَّن ثواب العلم ودرجته عند الله سبحانه وتعالى، وقد أتى بالآثار التي توضح ذلك، وتحث على طلب العلم وتعليمه ونشره – إذا ابتغى به الإنسان وجه الله-" [جلال الدين السيوطي، التعريف بآداب التأليف، تحقيق مرزوق على إبراهيم، مكتبة التراث الإسلامي، القاهرة، ص: 13).
ولا شك في أهمية تقديم السيوطي لآداب التأليف في هذه الرسالة الصغيرة، لكن قيمتها عظيمة؛ ذلك لأن مؤلفها يتحلى بهذه الآداب، ويصدر عنها في مؤلفاته العظيمة. كان السيوطي رمزاً من رموز الثقافة العربية الإسلامية، كشف في سلوكه ومؤلفاته عن السمات الأصيلة النبيلة الجميلة للعالم العامل، الصوفي الصالح النافع بعلمه الغزير، وتأليفه الموسوعي العميق الدقيق، كما كشف عن القيم الإنسانية والأخلاقية الرفيعة التي تميزت بها شخصيته.
كانت رحلة حياة السيوطي وقفاً على العلم، وقد بينت في كتابي الذي قدمت به سيرته الذاتية "التحدث بنعمة الله" جوانب مشرقة من شخصيته الفذة، وسيرته العطرة. كانت ثقافة السيوطي دينية عربية أصيلة، نشأ عليها منذ نعومة أظفاره، وقد شبَّ ذكياً واعياً حريصاً على تحصيل العلم؛ تتلمذ على جِلّة من العلماء الذين أجازوه في التأليف والفتيا والتدريس والقضاء، وتشكلت شخصيته العلمية والفكرية مستوعبة كل ما أُتيح لصاحبها من زاد معرفي، وأهلته أخلاقه العلمية لتولي أرفع المناصب، وتبحر في العلوم فكان إمام المجددين في عصره، وقدوة العلماء الكثيرين من تلاميذه.
وكان مع علمه الغزير متواضعاً لله وللعلم الذي أنعم به الله عليه، يقول في "التحدث بنعمة الله": "من أسباب الحجب عن العلم والحرمان التكبر بغير الحق والعدوان قال تعالى:
{سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق} [سورة الأعراف: 146]".
لقد كانت الغاية من تأليف السيوطي لسيرته الذاتية هي التحدث بنعمة الله، وكان العلم والإيمان هما حياته، وقد كشف عن هذه الحياة الروحية والعلمية الرائعة في مؤلفاته، التي طبقت شهرتها الآفاق قديماً وحديثاً.
يستهل السيوطي التعريف بآداب التأليف بقوله: "الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، أخرج مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي عن أبي هريرة قال، قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم -: "إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم يُنتفع به، أو ولد صالح يدعو له".
وقد بيَّن السيوطي معنى الانتفاع بالعلم من قول الشيخ تاج الدين السبكي في مقدمة كتابه "جمع الجوامع":
"أما بعد: فإن العالم وإن امتد باعه، واشتد ساعده، حتى خرق به كل سد سُدَّ بابه، وأحكم امتناعه، فنفعه قاصر على مدة حياته، ما لم يصنف كتاباً يخلد بعده، أو يُورث علما ينقله عنه تلميذ، إذا وجد الناس فقده، أو يهتدي به فئة مات عنها، وقد ألبسها به الرشاد بُرْدَه، ولعمري إن التصنيف لأرفعها مكاناً، لأنه أطولها زماناً، وأدومها إذا مات أحياناً، ولذلك لا يخلو وقت يمر بنا خالياً عن التصنيف، ولا يخلو إلا وقد تقلد عقد جواهره التأليف، ولا يخلو علينا الدهر ساعة فراغ إلا ونكل – أي تحرك – فيها القلم بالترتيب والترصيف" [التعريف بآداب التأليف، ص: 19].
ويورد السيوطي آثاراً أخرى في فوائد التصنيف والتأليف فالعلم لا يحل كتمه، فلو ترك التصنيف لضُيِّع العلم على الناس.
ويقدم السيوطي الشروط والآداب التي يجب أن يكون عليها المؤلف مستنداً في ذلك إلى النووي في شرح المهذب في باب آداب العالم، حيث يقول:
"وينبغي أن يعتنى بالتصنيف إذا تأهل له فيه، وأن يطلع على حقائق العلم ودقائقه، ويثبت معه؛ لأنه يضطره إلى كثرة التفتيش، والمطالعة، والتحقيق والمراجعة، والاطلاع على مختلف كلام الأئمة، ومتفقه، وواضحه عن مشكله، وصحيحه عن ضعيفه، وجزله عن ركيكه، وما لا اعتراض عليه، وبه يتصف المحقق بصفة المجتهد، وليحذر كل الحذر أن يشرع في تصنيف ما لم يتأهل له، فإن ذلك يضره في دينه، وعلمه، وعرضه، وليحذر أيضاً من إخراج تصنيفه من يده إلا بعد تهذيبه، وترداد نظره فيه وتكريره. وليحرص على إيضاح العبارة وإيجازها، فلا يوضح إيضاحاً ينتهي إلى الركاكة، ولا يوجز إيجازاً يفضي إلى المحق والاستغلاق. وينبغي أن يكون اعتناؤه من التصنيف بما لم يُسبق إليه أكثر، والمراد بهذا أن لا يكون هناك مُصنَّف يغني عن مصنَّفه في جميع أساليبه، فإن أغنى عن بعضها فليصنف من جنسه ما يزيد زيادات يُحتفل بها مع ضم ما فاته من الأساليب، وليكن تصنيفه فيما يعم الانتفاع به، ويكثر الاحتياج إليه" [التعريف بآداب التأليف – 20-21].
وهنا تتقرر قواعد التأليف، وتتضح آدابه إذ يجب على المؤلِّف أن يكون محققاً مدققاً واسع الثقافة، ذا شخصية نقدية واعية؛ يختار الصحيح الواضح لا الضعيف المشكل.
كما يجب على المؤلِّف الذي لم يتأهل للتأليف، ولم يمتلك أدواته وغاياته أن يحذر من الإقدام على التأليف، والجرأة عليه، لضرر ذلك على دينه وعلمه، كما يجب عليه أن يراجع ما يكتب مراراً وتكراراً، وأن ينظر فيه، وأن يوجز فلا يستغلق فهم ما يكتبه، ويوضح فلا يسقط في مغبة الابتذال والركاكة.
ثم إننا نهدي هذه الدرة التي تحتفل بضرورة الجدة في الكتابة في هذا النص إلى الذين يوهمون أن التراث العربي يغلب عليه التقليد لا التجديد، إذ يتضح – هنا – شرط الجدة في التأليف، من الناحية العلمية، كما يتضح شرط نفعه من الناحية الأخلاقية الإنسانية.
وانظر إلى هذا المعنى الذي جاء به السيوطي تأكيداً لضرورة الجدة في التأليف، والحرص على الابتداع والاختراع: "لا ينبغي لمصنِّف أن يعدل عن غرضين: إما أن يخترع معنى، وإما أن يبتدع وضعاً ومبنى، وما سوى هذين الوجهين، فهو تسويد الورق، والتحلي بحلية السَّرف".
وتتجلى أهم معالم آداب التأليف فيما يورده السيوطي من آداب علماء الحديث النبوي الشريف في قول الخطيب البغدادي: لا يتمهر في الحديث، ويقف على غوامضه، ويستبين الخفي من فوائده إلاَّ من جمع متفرقه، ولم إلف مشتته، وضم بعضه إلى بعض، واشتغل بتصنيف أبوابه، وترتيب أصنافه، فإن ذلك مما يقوي النفس، ويثبت الحفظ، ويذكي القلب، ويشحذ الطبع، ويبسط اللسان، ويجيد البيان، ويكشف المشتبه، ويوضح الملتبس، ويكسب – أيضاً – جميل الذكر، ويخلده إلى آخر الدهر، كما قال الشاعر:
يموت قوم فيُحيي العلمُ ذكرهُم ... والجهل يلحق أحياءً بأموات
أما الإمام الشافعي فقال عن مؤلفاته الجليلة: "قد ألفت هذه الكتب، ولم آل فيها – أي لم يدخر وسعاً في صحة تأليفها – ولا بد أن يوجد فيها الخطأ، لأن الله تعالى يقول:
{ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً} (سورة النساء: 82). فما وجدتم في كتبي هذه مما يخالف الكتاب والسنة فقد رجعنا عنه.
هذا هو خلق العالم الذي لا يدعي اليقين في العلم؛ لأن العلم نسبي ولا يتعالى بعلمه، وإن تحرى التدقيق والإخلاص فيه، ولا يدعي أنه وصل به إلى الكمال الذي هو لله وحده. ثم هو لا يعاند في العلم، ولا يريد أن يخالف به الكتاب والسنة، فإن خالف به الكتاب والسنة، فلا يثبته، بل يطلب الرجوع عنه.
والجاحظ يقول في البيان: "قالوا القلم أبقى أثراً، واللسان أكثر هذرا". "والكتاب يُقرأ بكل مكان، ويُدرس في كل زمان، واللسان لا يعدو سامعه، ولا يتجاوز إلى غيره".
وأخيراً نقول مع السيوطي هذه المقولة التي ختم بها رسالته: من صَنّف فقد استهدف، فإن أحسن فقد استشرف، وإن أساء فقد استقذف، ونقول مع الشاعر:
فلا تكتب بخطك غير شيء
يسرك في القيامة أن تراه