ليوبولدْ فايسْ أو "محمّد أسَد"

رَحّالةٌ في عالمَيِ الأرضِ والفكرِ

د. أحمد غوثم امّمد

 

رغم أنّ حياته تَفيضُ بالمغامرات والمفاجئات والمصادفات.. بدْءاً بإتقانه في صِباهُ العبرية والآرامية، ودراسة التوراة في نصوصها الأصلية، حتى صار يشرح الفرق بين التلمود البابلي والتلمود الأورشليمي بامتياز، مروراً بدراسة الفنّ والفلسفة وآخر ما وصل إليه رُوّاد التحليل النفسي بجامعة فِييَنّا، وانتهاءً بمهنة الصحافة، ومعاقرة القهوة مع أدباءِ وفناني برلين في مقهى "قيستين" العتيقْ، ثم التّطوافُ صحفياً في بلاد الشرق، بين القدس والقاهرة، ثم دمشق وبوادي إيران؛ فإن قلقه المتزايد لم يتوقّفْ، وروحه الإنسانية التوّاقة للبحث عن ملّة إبراهيم لم تضعُف حتى وجد ضالته في الإسلام، فإذا به سنة 1926 يرفع عقيرته وينطق بالشهادتين، بعد قراءة عميقة لسورة "التكاثر". ذلكُم هو: "ليوبولدْ فايسْ Leopold Weiss"، النمساوي الجنسية، اليهودي الأصل، الذي أسلم فيما بعد وتسمّى بـ"محمّد أسَد"، وأصبح واحداً من أهمّ رجالات الشرق والغرب، وعقلاً من خيرةِ العقول المسلمة في القرن العشرين، الذين تركوا بصمةً كبرى في الثقافتين العربية والأوروبية.

 

◄​ البدايات

محمد أسَد؛ وهو مفكر إسلامي عميق الإيمان، وكاتب صحفي بارع، ولغوي ومترجم، ومصلح اجتماعي، ورحّالة دبلوماسي، يعتبر من أبرز مسلمي أوروبا تأثيراً في القرن العشرين. درس الفلسفة في جامعة فيينا، وعمل مراسلاً صحفياً في الشرق، وطاف كثيراً من البلاد العربية والإفريقية، وتعرّف على الملك سعود بن عبد العزيز، وابنه الأمير فيصل، والتقى بعُمر المختار في ليبيا، كما تعرّف على الشاعر والفيلسوف الكبير محمد إقبال، وبعد استقلال باكستان مُنحتْ له جنسيتها، وتولى عدة مناصب، منها: منصب مبعوث باكستان إلى الأمم المتحدة في نيويورك.. ثم استقر في إسبانيا حتى توفي ودفن في غرناطة.

تميز في حياته بشخصيته القوية، وإيمانه الصّلب الذي أخذه غضّاً طرياً، ونصرته للمسلمين، والدفاع عن قضايا الأمة الإسلامية في الغرب، والغرب الإسلامي، وإفريقيا.

وُلد محمّد أسَد -ثاني الأبناء الثلاثة لوالده- سنة 1900م بقرية "لمبرغ" في أكرانيا، يوم كانت جزءاً من الإمبراطورية النمساوية، وسمّاه والداه "ليوبولدْ وايسْ"، وهو الاسم الذي عُرف به إلى أن اعتنق الإسلام. كانت العقود الأولى للقرن العشرين -أي بداية حياته- تصطدم بالخواء الروحي للأجيال الأوروبية، وأصبحت كل القيم الأخلاقية التي اعتنقتها الأمم الأوروبية على مدى عدّة قرون هشةً متداعية، تحت وطأة التداعيات المرعبة لما حدث بين سنتَيِ (1914-1918)، وهي السنوات التي استغرقت الحرب العالمية الأولى. ومع ذلك؛ وطبقاً لتقاليد عائته الدينية؛ فقد تلقى تعليماً دينياً مكثّفاً، فقد كان جده حَبراً يهودياً، وكان هو يهيّأ لمنصبٍ ديني كبير "وهكذا وجدتُ نفسي وأنا في سن الثالثة عشرة أقرأ العبرية بطلاقة وأتحدثها بإتقان، كما ألممت بالآرامية، ودرستُ التوراة في نصوصها الأصلية، وأصبحت عالماً بنصوص التلمود وتفسيره؛ وكان بإمكاني شرح الفرق بين التلمود البابلي والتلمود الأورشليمي بإتقان وتمكن وثقة، ثم انغمست في دراسة التفسير المعقد للتوراة المسمّى (ترجوم) فدرسته؛ وكأني أهيئُ نفسي لمنصب ديني" [الطريق إلى مكة، ص: 105].

وعلى غير المتوقع؛ فقد أبعدته تلك الدراسة المكثّفة عن عقيدة أهله ودين أجداده، بدل أن تقربه منها، ونمت لديه مشاعرٌ بالتعالي تجاه جوانب كثيرة في العقيدة اليهودية، وما تضمّنته من منهج فكري، حيث مالت نصوص التوراة التي تؤرخ لنسل إبراهيم إلى إبراز الرب لا كخالق وحافظ لكل البشر، بل كرب قبلي يسخّر كلّ المخلوقات لخدمة ما يحتاج إليه "الشعب المختار"، وهكذا بدأ يبتعد شيئاً فشيئاً عن تلك التعاليم.

بعد الحرب العالمية الأولى انتقل إلى فِيينّا، حيث درس تاريخ الفن والفلسفة، فلم تعجبه هذه المجالات أيضاً، وقرر قطعها بعد سنتين من الدراسة، وبدون أن يخبر أحداً قرّر مغادرة "فيينّا"، فودّعها ذات يوم من أيام صيف 1920م، وركب القطار متجهاً نحو مدينة "براغ"، ثم "برلين". بعد أسابيع من هذا الهروب كتب إليه والده -بعد أن هدأ غضبه- قائلاً: "أتوقع أن ينتهي بك الأمر إلى متسكّع ومتسول على جنبات الطرق"، فرد عليه قائلاً: "لست أنا من يتسول على جنبات الطّرق، سيعلو نجمي حتى أصل إلى القِمّة" [الطريق إلى مكة، ص: 111]. وقد كان ما همّ به وما توقعه!

في برلين اخترق "ليوبولدْ وايسْ" عالمَيِ الصحافة والسينما، وأصبح 2921م محرراً ليونايتد تيلكرام، وفي أحد أيام ربيع سنة 1922م وجد نفسه على متن سفينة متجهاً نحو القدس الشريف، بعد أن تلقى رسالة من خالٍ له، كان يعمل طبيباً نفسياً في مصحة عقلية بالقدس، كما كان أحد تلاميذ عالم النفس الشهير "فرويد"، يدعوه فيها لزيارته في الشرق الأوسط. وهناك بدأ يراسل صحيفة "فرانكفورتر زيتونغ" واسعة الانتشار، مما أتاح له التجوال في الشرق العربي، وإطْلاع الغرب على جوانب مجهولة من حياة الشرق الاجتماعية، وتاريخه الثقافي، وقد كانت هذه المقالات ثمرة كتابه "الشرق غير الرومانسي"، الصادر 1924م.

"لو أخبرني أيّ امرئ في ذلك الوقت أنّ أول معرفة مباشرة لي بالعالم الإسلامي، ستؤدي إلى ما يفوق كثيراً ما يخرج به أي مسافر في رحلة أو إجازة عمل؛ وأنها ستصبح نقطة تحول عظمى في حياتي، لكنتُ قد ضحكت كثيراً من تلك المزحة المجافية للعقل" [الطريق إلى مكة، ص: 130].
 

◄ البحث عن ملة إبراهيم

ظل الفتى المهوس بالبحث عما يهدئ من روعه، ويخفف اضطراب روحه، يجوب بلاد الحجاز، ومصر، وسوريا، وسهول إيران، يتفصّح الوجوه، ويطيل النظر في كل ما له علاقة بالإسلام، يطلّ على المصلين، فيتعجّب من صلاتهم وركوعهم وسجودهم، بل وانتظامهم، ثم يعرض ذلك على عقله.. ومن تلك الجزئيات والمشاهدات، راح جوهر الإسلام يتضح أمامه: لمحة من هنا، وومضة من هناك، ومن حوارات، ومن كتب، ومن ملاحظات مباشرة، راحت الصور تتكامل ببطء في ذهنه، ودون أن يعي بأنها تتكون وتتكامل بداخليه "عَلِمت ما علمته عن الإسلام عندما وجدت المسلمين يعيشون بطريقة مختلفة عما يراه الأوروبيون الطريقة المثلى للحياة؛ وكنت كلما عرفت شيئاً جديداً عن تعاليم الإسلام، أشعر أني أكتشف شيئاً كنت أعرفه في داخلي من دون أن أدرك ذلك" [الطريق إلى مكة، ص: 263].

في يوم من أيام سبتمبر/ أيلول سنة 1926 كان في الدرجة الأولى من قطار الأنفاق في برلين عائداً إلى بيته، وكان كلّ مَن حوله من الأغنياء وميسوري الحال، وبدأ عفوية يتطلّع إلى وجوه الناس في العربة، كانت جميعها وجوهاً تنتمي إلى طبقة تنعم بملبس ومأكل جيدين، إلا أنها كانت تشي بتعاسة داخلية عميقة، ومعاناة واضحة على الملامح. عاد لمنزله وهو يفكر فيما رأى، وبالصدفة دخل مكتبته، وأخذ نسخة من القرآن الكريم، وبدأ يقرأ {أَلۡهَىٰكُمُ ٱلتَّكَاثُرُ حَتَّىٰ زُرۡتُمُ ٱلۡمَقَابِرَ كَلَّا سَوۡفَ تَعۡلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَوۡفَ تَعۡلَمُونَ كَلَّا لَوۡ تَعۡلَمُونَ عِلۡمَ ٱلۡیَقِینِ لَتَرَوُنَّ ٱلۡجَحِیمَ ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَیۡنَ ٱلۡیَقِینِ ثُمَّ لَتُسۡـَٔلُنَّ یَوۡمَىِٕذٍ عَنِ ٱلنَّعِیمِ} [التكاثر: 1-8].

حبس أنفاسه ووقف مشدوهاً، وأحسّ أنّ يديْه ترتجفان.. ألا تجيب هذه السورة عمّا رآه في قطار الأنفاق؟ لقد كان القرآن الكريم يتضمّن الإجابة، بل إجابة حاسمةً قضت على تلك الشكوك التي راودت الفتى محمد أسَد قرابة ثلاثة عقود من الزمن، فذهب لرئيس رابطة المسلمين في برلين -بعد أن استقر رأيه على اعتناق الإسلام- ووضع كفّه على كفّه، وأعلن إسلامه، وبعدها بأيام أسلمت زوجه إيلزا.
 

◄​ الطريق إلى مكة

لم يكن إسلام محمد أسد عن تقليد؛ وإنما كان قراراً واعياً مبنياً على فهم لمعنى الحياة ومغزاها "لم أصبح مسلماً لأني عشت زمناً طويلاً بين المسلمين، بل كان الأمر عكس ذلك، ذلك أني قررت أن أعيش بينهم؛ لأني اعتنقت الإسلام". وهكذا نفرَ محمد أسد بعد إسلامه مباشر إلى الحج، وقرر أن يبقى بين إخوانه في الدين، ويبذل الجهد في نصرة العقيدة التي لامستْ شِغافَ قلبه، وفي رفعة الأمة التي انتمى إليها اختياراً، فمكث في الجزيرة العربية ستّ سنين عمّق فيها معرفته باللغة العربية، وشهد مع الملك عبد العزيز توحيد الحجاز، وتنقل من القدس إلى دير الزور، ومن العراق إلى طرابلس حيث التقى بأسد الصحراء عمر المختار، ووصف تلك المغامرات مع رفيقه زيد في كتابه الماتع الطريق إلى مكة. وقد تزوج محمد أسد خلال إقامته في السعودية من "منيرة"، التي أنجبت له ابنه طلال الأسد، عالم الأنثروبولوجيا، والأستاذ المشهور بجامعة نيويورك.

وبعد أن بذل ثمناً غالياً في نصرة المسلمين في الجزيرة العربية، اتجه نحو الغرب الإسلامي وشمال إفريقيا، والتقى بالشاعر الفيلسوف محمد إقبال، وبعد تأسيس دولة باكستان حصل على جنسيتها، فعمل بإدارة (الإحياء الإسلامي)، وكان مسؤولا عن علاقة باكستان بالعالم العربي، ثم سفيراً لها في الأمم المتحدة في نيويورك.

◄​ الأخوة الإنسانية

لقد كان أسَد رجلاً نبيلاً يبحث عن معنى الحياة وفضائلها الفطرية في لحظة حالكة من تاريخ الغرب، فوجد ذلك في الإسلام فآمن به بعمقٍ، وفي شمائل العرب فأحبّها بصدق، يقول عن مقامه في الشرق: "منذ البداية نشأ في نفسي ميل إلى إدراك للحياة أكثر هدوءاً، أو إذا شئت أكثر إنسانيةً، إذا قيست تلك الحياة بطريق الحياة الآلية العجْلى في أوروبا. ثم قادني هذا الميل إلى النظر في أسباب هذا الاختلاف. وهكذا أصبحت شديد الاهتمام بتعاليم الإسلام الدينية، إلا أن هذا الميل لم يكن في الزمن الذي نتكلم فيه كافياً لجذبي إلى حظيرة الإسلام، ولكنه كان كافياً لأن يعرض أمامي رأياً جديداً في إمكان تنظيم الحياة الإنسانية، مع أقل قدر ممكن من النزوع الداخلي، وأكبر قدر ممكن من الشعور الأخوي الحقيقي" [محمد أسد، الإسلام على مفترق الطرق، ص: 16].

وهكذا أدرك أسد أن الإسلام يحمل الإنسان على توحيد جميع نواحي الحياة، وأنه نظام خُلقي وعملي، ونظام شخصي واجتماعي؛ أي التوفيق التام بين الناحية الخلقية والناحية المادية من الحياة الإنسانية "إن نبينا الذي كان في رسالته الدليل الهادي للإنسانية، كان شديد الاهتمام بالحياة الإنسانية في كِلا اتجاهيها: في المظهر الروحي والمظهر المادي" [الإسلام على مفترق الطرق، ص: 90]. كما أدرك -وهو المتضلّع بثقافتَيِ الشرق والغرب- أن البشرية مهما رقت في مدارج الحضارة؛ أنها ستظل تجد في رسالة الإسلام الجواب الوافي، والبلسم الشافي: "ليس ثمة علامة ظاهرة تدل على أن الإنسانية -مع نموها الحاضر- استطاعت أن تشبَّ عن الإسلام، بل إنها لم تستطع أن تخلق نظاماً خُلقياً أحسن من ذلك الذي جاء به الإسلام".

وبعد عمر حافل بخدمة الإسلام في الشرق والغرب، توفي محمد أسد عام 1992، ودفن في غرناطة، تلك المدينة التي أحب أن يترسم فيها آثر الحضارة الإسلامية في الأندلس، وترك مؤلفات قيمة، اتسمت في مجملها بقوة الفكر، وإشراقة الروح. وفي عام 2008 سمّت بلدية فِيينّا الشارع المقابل لمبنى الأمم المتحدة باسم (محمّد أسَد)، واعتبرته ابنها الذي أصبح مواطناً عالمياً، وسعى لبناء الجسور بين الشرق والغرب.
 

◄​ مُؤلفاته

في عام 1952 استقال محمد أسد من عمله سفيراً لباكستان في الأمم المتحدة؛ ليتفرغ للبحث والكتابة، فألف مؤلفاتٍ قيمةً، جعلته أحد أبرز مسلمي أوروبا تأثيراً في القرن العشرين، وهذه المؤلفات هي:
منهاج الإسلام في الحكم.
الإسلام على مفترق الطرق.
الطريق إلى مكة.
رسالة القرآن (وهو ترجمة رصينة لمعاني القرآن الكريم).
صحيح البخاري: ترجمة وتعليقات.

وتتميّز هذه المؤلفات في مُجملها بسعة اطّلاع محمد أسد، ورصانة أسلوبه، مع إشراقة الروح وعُمق الفكر اللّذين اتسم بهما طيلة حياته.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها