خيوط "ماركيز" المتصلة

إطلالة جديدة على رسائل "العزلة"

فكري عمر


تَصْدُق مقولة "إن كل روائي يكتب رواية واحدة فقط في حياته" على الروائي "جابرييل جارثيا ماركيز" من ناحية واحدة، مثلما تصدق تلك العبارة على كثيرين غيره من هذا الاتجاه أيضًا. المعنى الكامن في العبارة ليس تكرار "ماركيز" عمل أدبي واحد في الأعمال التالية إلى النهاية، فليس هذا شأو المبدعين والفنانين الذين يلتقطون من عالمهم صورًا أعمق، وأكثر ارتباطًا مما تراه العيون الأخرى في طوافها السطحي على الأشياء والظواهر.


المقصد: أن يكون هذا العمل بالذات مركز رؤية الكاتب لذاته، ولعالمه المحيط به مهما تبدل موقعه، وتطور أسلوبه، وتغيرت بعض أفكاره ومشاعره، فنحن جميعًا كبشر، كتابًا وغير كتاب، نتغير كلما مرَّ علينا زمن ما، لا بما نقرأه في صفحات السماوات والأرض والوجوه والكتب فقط، لكن بتلك الكيمياء الداخلية التي تتبدل في أجسامنا وعقولنا نفسها، فتضفي لونًا جديدًا على فهمنا للعالم وأحواله.

هذه الرواية الوحيدة بالنسبة لـ"ماركيز" هي "مائة عام من العزلة" المنشورة عام 1967م. صحيحٌ أنه سبقها قصص قصيرة "عينا كلب أزرق" في عام 1950م، وروايات: "عاصفة الأوراق" عام 1955م، و"ليس للكولونيل من يكاتبه" عام 1961م، و"في ساعة نحس" عام 1962م، لكن كل التفاصيل، في الفن والتجربة فيما أظن، كانت مقدمة لها، وما تلاها من أعمال كانت أفرع إضافية نبتت على جذع شجرة هائلة الظلال.

الرواية (مائة عام من العزلة) تدور حول تاريخ عائلي، لكن لعائلة ليست كغيرها من العائلات. تبدأ السلالة بـ"جوزيه أركاديو بوينديا" الذي يموت مربوطًا إلى جذع شجرة بعد أن أصابه الخَرَف، وصار يهذي ويطيح بالأشياء، وتنتهي بـ"أوريليانو" الصغير المولود بذيل خنزير، تسحبه النمال الكثيرة إلى جحورها كغنيمة متروكة للقدر بعد اكتشاف أبيه للعار الذي كان الطفل دلالة على اقترافه. ولن تظل تلك العائلة طويلًا في الوجود والانطلاق بعد هذا المشهد الأخير في الفصل التاسع عشر، بل سينتهي آخر السلالة "أوريليانو" الشاب أيضًا إثر عاصفة تقضي عليه، وعلى البيت الكبير، وبلدة السراب نفسها "ماكوندو" حين ينجح في فك شفرات نبوءة "ميلكيادس" العرَّاف المكتوبة باللغة السنسكريتية، وتنتهي معه من وجه الزمن والبسيطة تلك البلدة إلى الأبد.

لا يُكتب لهذه العائلة الاستمرار، ولا لأفرادها أن يكونوا أبطالًا وبذورًا للمستقبل. طوال مائة عام وهم إلى العيش في التهاويم أقرب، وإلى الهزائم المتلاحقة في صراع الحياة ألصق. خاض الكولونيل "أوريليانو بوينديا"، مثلًا، اثنين وثلاثين حربًا أهلية كليبرالي ضد المحافظين، خسرها جميعًا، وعاد إلى بيته في النهاية، يقضي أغلب أوقاته في المسبك؛ لصنع أسماكه الذهبية، ثم انتهى وحيدًا، ولم يدل على وفاته بعدها إلا الطيور الجارحة تطوف حول جثته، فتنبه أهل البيت الكبير على مصيره.

هم محكومون بالخرافة، ومراوغات الذاكرة التي تبزغ أحيانًا في رأس أحدهم، فتكون ضوء النجاة، وتنطفئ من رأس آخر، فتكون ظلمة وعلامة على النهاية الفاجعة. راغبون أيضًا بالتفرد، لكن المفارقة أن ما يأتيهم من الخارج فقط، من أشخاص واختراعات ومذاهب، هو ما يحدد خطوتهم التالية، وليس أبدًا ما يصدر عن أفكارهم الأصيلة، أو وعيهم بحالتهم البائسة بين المستنقعات. على ذلك تكون المعرفة بحقيقة حالتهم هي لحظة زوالهم؛ إذ كانت نبوءة العرَّاف الذي صاغها من قبل للمستقبل حكمًا على تلك العزلة بالزوال.

ربما أجد العذر لمن يقارنون بين هذه الرواية وثلاثية "نجيب محفوظ"، بين القصرين – قصر الشوق – السكرية، التي تدور أيضًا بشكل اجتماعي حول تاريخ عائلة "السيد أحمد عبد الجواد"، تبدأ بزوجه "أمينة" المنتظرة في منتصف الليل عودة زوجها "سي السيد" من سهرته اللطيفة بين أصدقائه، وهي راضخة تمامًا لتجهمه وقهره لها إلى حد استسلامها الظاهري التام، ومقاومة أسلوبه معهم بلينها وعاطفتها السخية على أبنائها، وتنتهي بوفاته على فراشه بعد مرحلة طويلة من العجز والمرض، ليستمر أبناؤه في الحياة ماضين فيها بذلك التناقض الحاد الذي تَكشَّف لهم في رب الأسرة ومؤسسها الرهيب. تلك الرواية التي تبين قدرة "محفوظ" الهائلة على رسم مجتمع القاهرة المصري بأنماطه ومشاعره وأفكاره، وتشكيل الشخصية الفنية بوجوهها المتباينة؛ للتعبير عن الصراع الإنساني في أزمنة وأمكنة لا تُحد. كلتا الروايتين تاريخ عائلي يتتبع سلالة ما بأمنياتها، وكفاحها، وخطاياها. يؤطر حركتها جميعًا تاريخ وطنٍ في عقود معينة وتحت أزمات خاصة، لكن شتّان ما بين الروايتين من اختلاف في كل ما هو دون ذلك.

رواية "محفوظ" تتحدث عن قاهر ومقهور في الآن ذاته، وعن كفاح برجوازية صغيرة للترقِّي في سلم الطبقات، وكراهية الاحتلال، وضد عادات وتقاليد صارمة وغير منطقية، ومحاولتها العيش بسلام في ظل تناقضاتها الداخلية، مستعينة بالوصف التفصيلي للأجواء والشخصيات؛ لكون كلّ منهما يؤثر ويتأثر بالآخر. على حين تصف رواية "ماركيز" مجتمع كولومبيا، وساحل الكاريبي عمومًا بطريقة عجائبية، مجتمع المستنقعات، والجريمة، والسعي خلف النزعات الداخلية مهما كانت نتيجتها، وتلك الحروب الأهلية التي لا ينتصر فيها سوى الخراب. إلى جانب انتظار هؤلاء للقادمين من الخارج؛ ليرسموا شكلًا جديدًا وساحرًا لحياتهم المُقبضة، والوقوع أسرى الأقدار، فلا أحد يُبدِّل شيئًا. المصائر كأنها مرسومة قبل الميلاد، وفوق كل محاولاتهم على التمرد، ما على أحد شخصياتها إلا فك شفرات الكتابة؛ ليعرف تاريخ السلالة ونهايتها في حيلة سردية تتجاوز الزمن والخيال، وتطرح رؤية أقرب إلى تأثير فعل الكتابة نفسه كطقس كشف، ونبوءة بمآل تلك السلالات الغرائزية الجامحة، المعزولة والمحكوم عليها بالفناء، وهي رؤية بارعة حملتها رواية متفردة في أسلوبها وتركيبها الذي لا تحصل عليه ربما من قراءة واحدة.

إن نفس التفاصيل العجائبية مكررة في الروايات التي تلتها. سنرى كثيرًا هؤلاء الذين يموتون وحيدين دون أن يكتشفهم أحد إلا طيورًا تصنع طقسًا مريبًا عند وفاة "أورسولا" أيضًا، الجدة الكبرى، في يوم شديد الحرارة. "كانت الطيور تترامى على جدران البيوت، وتشق ستائر النوافذ؛ لكي تموت أفواجًا في غرف النوم". مثلما حدث في رواية "خريف البطريرك"، فكان هجوم طيور العُقبان الجارحة على النوافذ الزجاجية، ورفرفة أجنحتها داخل القصر إعلانًا لموت الديكتاتور. وما يمكن اكتشافه أيضًا من مشاهد عدة كالبراءة التي تنتهي بصاحبتها باهرة الجمال إلى التحليق في السماء، وتجاوز منطق العالم الطبيعي. محاولات الاغتيال الفاشلة التي ينجو منها المحارب ذو القلب الشجاع، والقتل بدافع الشرف، والأسماء التي تحمل مصائرها قبل أن تولد، وتُسمَى بأسماء أجدادها في تكرار قصدي ومستسلم للمأساة، وظهور حيوانات وحشرات كالعقارب في لحظات الخطر، أو الفراشات حول العشاق، وفي لحظات اللقاء.

عاش ماركيز في فرنسا زمنًا، طاف ببلدان كثيرة، لكن ظل انشغاله بكولومبيا، وبلدان أميركا اللاتينية انشغالًا دائمًا. كان عقله ومشاعره عالقان دائمًا بالناس هناك، بتاريخهم وجموحهم وكفاحهم ضد قوي الظلام والعزلة. أبدع "مائة عام من العزلة"، وأبدع غيرها في شتى الاتجاهات، وبأساليب مختلفة كأسلوب التحقيق الروائي، أو الحوار المسرحي، أو تتبع مسيرة بطل إلى بلده، لكن ظلت تلك الدرة الفنية إلى جانب براعتها تحتفظ أيضًا بجذور ضاربة في الأرض على امتدادات شاسعة، ترفد ما تلاها من أعمال ببراعم غير متوقعة، ولو من خلال صورة عجائبية.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها