مطبعة "بُولاق" تاريخ حافل بالمعرفة والتنوع!

أميمة سعودي


كان لمطبعة بولاق دورٌ رئيسيٌ في الانطلاق نحو النهضة الفكرية والحداثية، وعرفت مصر المطبعة لأول مرة أثناء وجود الحملة الفرنسية في الأراضي المصرية (1798-1801). وعندما تولى محمد علي باشا حكم مصر، بدأ في إنشاء المؤسسات على النمط الأوروبي، وكانت تجربته هي أولى محاولات النهضة الشاملة في التاريخ الحديث، ومن بين المشروعات التي احتاج إليها في مسيرته التنموية مطبعة، ويعد مشروع المطبعة جزءًا من مشروع سياسي كبير، فأنشأ مطبعة بولاق عام 1820، وتعد أول مطبعة رسمية حكومية، مثلت نقلة نوعية بل كمية ومعرفية في المنطقة العربية بأسرها، وكان أول مطبوعاتها قاموس عربي- إيطالي في عام 1822، في مؤشر على توجه مشروع محمد علي بالانفتاح على الثقافة الغربية والاستزادة من مفرداتها وأدواتها.


في عهد الخديوي إسماعيل انتقلت المطبعة إلى الدائرة السنية، وتعد من أزهى عهود المطبعة، فاشتركت في معرضين دوليين أحدهما في باريس عام 1867م، والثاني في فيينا عام 1873م، وجاء في الدليل الذي أعدته المطبعة لمطبوعاتها المشاركة في معرض فيينا: "إن دار الطباعة ذات الإتقان والبراعة كما يشاهد في أنموذجها الأنيق، الذي سينظر بعين التحقيق، حاوية لقواعد عديدة سنية، وصور حروف جيدة بهية، لا تكاد توجد في مطبعة من مطابع الإسلام بل ولا في غيرها من مطابع الأنام".

 

مطبعة الحملة الفرنسية:

أدرك بونابرت في حملته على مصر عام 1798، أن الدعاية من أهم الأسلحة التي تعينه على كسب ود المصريين، ومن ثم أعد العدة لحملة دعاية قوية وطد أركانها بمطبعة حملها معه بحروف فرنسية وعربية ويونانية لتساعده في ما يرمي إليه، وأصرّ نابليون أن يحمل المطبعة في سفينة القيادة التي أبحر بها بنفسه، واستخدمها ليطبع عليها أول منشور موجه إلى شعب مصر قبل أن يصل إلى الإسكندرية، وسميت "مطبعة جيش الشرق"، ثم أطلق عليها فيما بعد "المطبعة الأهلية"، وبدأت بإعداد المنشورات باللغة العربية، ثم أضافت المطبعة شيئًا جديدًا لم تكن تعرفه مطابع الشرق وانفردت به مصر، وهو صدور الصُّحف، وأولى الصحف التي ظهرت في مصر: "كورييه دي ليجيبت"، و"لايكاد إيجيبسيان"، وفي عهد مينو القائد الفرنسى فكر في إصدار صحيفة عربية صحيفة "التنبيه"، تكون لسان حال الحكومة، يشرف عليها الفرنسيون المستشرقون وكبراء المصريين في نوفمبر عام 1800 برئاسة الشيخ الخشاب، ولكن هذا المشروع لم يتحقق.

بعد جلاء الحملة الفرنسية عن مصر عام 1801 ظهر على المسرح السياسي ثلاث قوى تتنازع فيما بينها السلطة.. العثمانيون والمماليك والإنجليز، فقد تطلَّع السلطان العثماني إلى إعادة بسط حكمه وسيطرته على حكم مصر، والمماليك يرغبون في استعادة سيادتهم التي فقدوها بدخول الفرنسيين، كما لفتت الحملة الفرنسية انتباه بريطانيا لأهمِّية موقع مصر الجغرافي بالنسبة إلى مستعمراتها، بينما الشعب المصري بين هذه القوى يريد استرداد بلاده من يد المغتصبين، في تلك الفترة صعد محمد علي إلى سدة الحكم عام 1805، واستطاع أن يوطد أركان حكمه بتأييد من الشعب.

محمد علي واليًا على مصر:

كان محمد علي صاحب فكر إستراتيجي وهدف واضح في أن تكون مصر دولة عصرية بمعنى الكلمة، فبدأ في إنشاء المؤسسات على النمط الأوروبي الحديث، ومن بين المشروعات التي احتاج إليها في مسيرته التنموية مطبعة تنشر كل ما يراه مناسبًا لاستقرار دولته.

بدأ محمد علي بالتفكير في إدخال فن الطباعة إلى مصر منذ عام 1815، حينما أرسل أول بعثة رسمية إلى مدينة ميلان في إيطاليا برئاسة "نيقولا المسابكي" لتعلم فن الطباعة، أقام "مسابكي" في ميلان أربع سنوات، لصنع أمهات الحروف وسبكها، ولما رجع لمصر اشتغل أولًا في جمع طاقم من الحروف العربية والتركية، وفي تدريب العمال، وظل مسابكي مديرًا للمطبعة الأهلية حتى تُوفِّي سنة 1830.

اهتم محمد علي بإدخال الطباعة حينما بدأ يفكر في إنشاء جيش نظامي للبلاد، وكان لا بد لهذا الجيش من كتب يتعلم فيها أصول الحرب وأنواع الأسلحة المختلفة، فما كان منه إلا أن أصدر أوامره بإنشاء مطبعة بولاق عام 1820 لطباعة ما يلزم من كتب قوانين وتعليمات، وتم إقامة لوحة تذكارية لتأسيس المطبعة، عبارة عن قطعة من الرخام طولها 110 سنتيمترات وعرضها 55 سنتيمترًا وقد نقشت عليها أبيات شعرية باللغة التركية وترجمتها:

"إن خديوي مصر الحالي محمد علي، فخر الدين والدولة وصاحب المنح العظيمة، قد زادت مآثره الجليلة التي لا تعد بإنشاء دار الطباعة العامرة، وظهرت للجميع بشكلها البهيج البديع، وقد قال الشاعر سعيد إن دار الطباعة هي مصدر الفن الصحيح".

كانت المطبعة محط اهتمام محمد علي ورعايته، حيث قام بتجهيزها بأحدث الآلات والمعدات، كذلك عمل على تدريب كوادرها الفنية، إلى جانب اهتمامه بجودة المطبوعات ورغبته في أن تكون المطبوعات على درجة عالية من الإتقان والجودة.

بدأت مطبعة بولاق عملها وكانت هي طاقة النور التي انتظرها المصريون، فعرفوا من خلالها أن المطبعة هي طريق الخروج من عهود الظلام إلى عهد جديد من الوعي بشرت به طباعة الكتب والصحف التي أخرجتها المطبعة، فكان لها تأثير كبير في حياة المصريين من كافة الطبقات، وكانت أداة تنويرية ومصدر نور وإشعاع في الوطن العربي.

مطبعة بولاق وعصر جديد:

مثّل إنشاء مطبعة بولاق في مصر تغيراً نوعياً، فأولى ثمار المطبعة هو نشر العلم والمعرفة كسلاح للتقدم بين الأمم، وشُيدت مطبعة بولاق في أول الأمر في جزء من مساحة الترسانة البحرية في الجزء الممتد على ضفة النيل اليمنى من الشمال إلى الجنوب إلى الشمال قليلاً من موقعها المعدل ببولاق، ومنذ ذلك التاريخ بدأ عصر جديد في حياة المطبعة لعدة أسباب منها:

- إنشاء المدارس، فمنذ إنشاء المطبعة توالى بناء المدارس مدرسة بعد أخرى، حيث فتحت مدارس الطب والصيدلة والكيمياء، ثم المدارس الحربية على اختلاف أنواعها، ومدارس الهندسة والزراعة واللغات وغير ذلك من أنواع المدارس، وهكذا اتسعت دائرة العمل بالمطبعة وتعددت أنواع مطبوعاتها.

- نشاط حركة الترجمة واهتمام محمد علي بنقل الكتب من اللغات الأوروبية إلى اللغة العربية، فقد أوجد في المدارس قسم خاص بترجمة الكتب الأوروبية التي تختص بما يُعلم في المدرسة من العلوم، وتبرز أهمية هذه الترجمات في أنها فتحت أكثر من باب في اتجاه تكوين المثقف الجديد في مصر ثقافة مدنية معاصرة، وهذا النشاط الهائل في الترجمة قد أمد مطبعة بولاق بمدد لا ينضب مَعينه من الكتب التي كانت سبباً في انتعاشها في سنة 1833؛ أي بعد رجوع تلك الكوكبة من المترجمين مباشرة -وعلى رأسهم رفاعة رافع الطهطاوي- من قادة النهضة العلمية في مصر، فقد سافر رفاعة عام 1826 إلى فرنسا ضمن بعثة عددها أربعين طالبًا أرسلها محمد علي على متن السفينة الحربية الفرنسية "لاترويت" لدراسة العلوم الحديثة، وعاد رفاعة لمصر سنة 1831 فاشتغل بالترجمة في مدرسة الطب، ثُمَّ عمل على تطوير مناهج الدراسة في العلوم الطبيعية.

افتتح رفاعة سنة 1835 مدرسة الترجمة، التي صارت فيما بعد مدرسة الألسن، وعُيـِّن مديرًا لها إلى جانب عمله مدرسًا بها، وفي هذه الفترة ظهر المشروع الثقافي الكبير لرفاعة الطهطاوي ووضع الأساس لحركة النهضة، فترجم متون الفلسفة والتاريخ الغربي ونصوص العلم الأوروبي المتقدِّم، وبدأ في جمع الآثار المصرية القديمة واستصدر أمرًا لصيانتها والحفاظ عليها، كذلك أنشأ رفاعة أقسامًا متخصِّصة للترجمة (الرياضيات - الطبيعيات – الإنسانيات)، وأنشأ مدرسة المحاسبة لدراسة الاقتصاد ومدرسة الإدارة لدراسة العلوم السياسية، ومن أهم مآثره إصدار قرار تدريس العلوم والمعارف باللغة العربية، وإصدار جريدة الوقائع المصرية بالعربية بدلًا من التركية، هذا إلى جانب عشرين كتابًا من ترجمته، وعشرات غيرها أشرف على ترجمتها، فأنشأ مكاتب محو الأمية لنشر العلم بين الناس، وعاود عمله في الترجمة ودفع مطبعة بولاق لنشر أمهات كتب التراث العربي، ولم يكتف رفاعة بهذه الأعمال العظيمة، فسعى إلى إنجاز أول مشروع لإحياء التراث العربي الإسلامي، ونجح في إقناع الحكومة بطبع عدة كتب من عيون التراث العربي على نفقتها، مثل تفسير القرآن للفخر الرازي المعروف بمفاتيح الغيب، ومعاهد التنصيص على شواهد التلخيص في البلاغة، وخزانة الأدب للبغدادي، ومقامات الحريري وخطط المقريزي، أما أول كتاب خرج من مطبعة بولاق، فقد تناول صباغة الحرير، ثم كتاب "كلستان السعدى"، وهو من أمهات الكتب في الأدب الفارسي، وكتاب ألف ليلة وليلة، وكتاب كليلة ودمنة.

- تخصيص عدد من أعضاء البعثات لتعلم فنون الرسم والحفر والطباعة، وقد ورد ذلك في تقرير رفعه "المسيو جومار" مدير البعثة المصرية في باريس للجمعية الآسيوية عن البعثة الأولى التي أوفدها الباشا إلى باريس في 1866 فقد تضمن هذا التقرير: "يتعلم بعض الطلاب الرسم كتمهيد لتعلم حفر الخرائط وهندسة البناء والآلات، والطبع على الحجر وهؤلاء هم الذين سيباشرون حفر لوحات كتب العلوم التي ستترجم إلى العربية، وهم يتعلمون أيضًا فن الطباعة".

ارتقت المطبعة بالمعارف والعلوم في مصر والمنطقة العربية، بل لقد صدرت مطبوعاتها إلى اسطنبول، حتى بلغ عدد ما طبع بها من النسخ 603890 كتابًا إلى عام 1872م. أي ما يزيد على نصف مليون كتاب في هذه المدة الوجيزة لإنشاء المطبعة، وهي مدة يسيرة لا تعد شيئًا في تاريخ الأمم والشعوب.

بولاق من البداية:

ذكر أول اسم للمطبعة في اللوحة التذكارية لإنشائها، حيث ذكرت باسم "دار الطباعة"، ثم طبع في أول مطبوعاتها "القاموس العربي الإيطالي" أن اسمها في الجزء العربي "مطبعة صاحب السعادة"، بينما اسمها في الجزء الإيطالي هو "المطبعة الأميرية" وقد كُتبت كلمة Bulaq في الجزئين، فاسم "بولاق" ارتبط بالمطبعة من أول الأمر.

هذا وقد ذكر اسم بولاق في كل الأحوال ومنها "دار الطباعة العامرة الكائنة ببولاق مصر المحروسة القاهرة"، كما ورد في أحد أعداد الوقائع "مطبعة صاحب السعادة ببولاق"، كما كتب في أول عدد من الوقائع المصرية "مطبعة صاحب الفتوحات السنية ببولاق مصر المحمية"، وكذلك "مطبعة صاحب السعادة الأبدية والهمة العلية الصفية التي أنشأها ببولاق مصر المحمية صانها الله من الآفات والبلية"، إلى غير ذلك من أشكال التعبير التي يقصد بها تسمية المطبعة وتعظيم مؤسسها، والدعاء لها وله وعلى ذلك فإن اسمها الرسمي التاريخي هو "مطبعة بولاق".

الهيئة العامة لشؤون المطابع الأميرية:

في عام 1862م تغير اسمها إلى "مطبعة عبد الرحمن رشدي ببولاق"، ثم عاد اسمها وتغير إلى "المطبعة السنية ببولاق" أو "مطبعة بولاق السنية"، وفي عهد الخديوي إسماعيل تغير اسمها للمرة الثالثة ليصبح "مطبعة بولاق الأميرية"، ثم في عام 1903 تغير اسمها إلى المطبعة الأميرية ببولاق، وفي عام 1905 أصبح اسمها "المطبعة الأميرية بالقاهرة"، وبعد قيام ثورة يوليو 1952 اهتمت حكومة الثورة بالمطبعة، وأنشئت وزارة الصناعة في عام 1956، وصدر قرار بإنشاء "الهيئة العامة لشئون المطابع الأميرية" في مبنى جديد عام 1958 في منطقة إمبابة.

وتعرض حالياً مقتنيات مطبعة بولاق التاريخية من الآلات والمعدات وإصداراتها التاريخية من كتب ومطبوعات، بمعرض دائم خاص داخل مكتبة الإسكندرية.

وتشمل المعروضات 6 كتب قيمة وهي "ديوان محيي الدين ابن عربي"، طبع عام 1271هـ - 1854م ويُعد أحد أندر الكتب التي صُممت من حروف الخط الفارسي للخطاط "سنكلاخ الخراساني" بشكل البحور الشعرية.

 بالإضافة إلى كتاب "القاموس المحيط" للفيروز آبادي، والذي طبع في عام 1301هـ - 1883م وتضمن مجموعة فريدة من فنون خط النسخ، وضمت أولى صفحاته عبارة "ما شاء الله" بالخط الكوفي المربع، ويتميز الكتاب أيضاً بتشكيل جميع حروفه ليعكس مهارة جامعي الحروف في مطبعة بولاق نهاية القرن التاسع عشر، بالإضافة إلى الجزء السابع من "صحيح البخاري" الذي طبع عام 1315هـ - 1897م.

كما يوجد في المعرض كتابان مميزان لتدريس اللغة المصرية القديمة "الهيروغليفية" للعرب، وهما الطبعة الأولى من كتاب "العقد الثمين في محاسن أخبار وبدائع آثار الأقدمين من المصريين"، وطبع عام 1300هـ - 1882م، وكُتب عليه "من تأليف النجيب الفطن اللبيب أحمد فندي كمال معلم التاريخ واللغة الفرنساوية ومترجم الأنتيقة خانة المصرية وناظر مدرستها البهية، طبع بالمطبعة الأميرية ببولاق مصر المحمية"، أما الكتاب الثاني فهو "الفرائد البهية في قواعد اللغة الهيروغليفية" وطُبع عام 1303هـ - 1885م، وصُمم على يد ناسخ ورسام محترف، والكتابان يعكسان ما وصلت إليه المطبعة من قدرة مميزة في عمليات صف للنصوص غير العربية.

ويشمل القسم الثاني لمقتنيات مطبعة بولاق بعض أدوات الطباعة القديمة، مثل الحروف الرصاصية وصندوق الحروف المستخدم خلال فترة خمسينيات وستينيات القرن العشرين، ومجموعة من القطع النحاسية المستخدمة في الكتابة بأحجام مختلفة، ونماذج أخرى للحروف النحاسية والخشبية ونموذج التصحيح، إضافة إلى أكلشيه للطبع عليه صورة النحاس باشا، رئيس وزراء مصر الأسبق.


ختاماً؛ لقد سهل اختراع الورق من تداول المعارف بينما جاءت الطباعة لتخرج المعارف والأفكار من النطاق المحدود إلى عالم أكثر اتساعاً، ومما لا شك فيه أن مطبعة بولاق كانت عاملًا مؤثراً في إيقاظ العقل المصري والعربي.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها