الخط العربي أنواعٌ أم فنونٌ؟

تساؤل في الهوية التصنيفية لفنون الخط العربي وتشكيلاته

د. جاسم محمد صالح الدليمي


اعتادت أغلب الدراسات والبحوث المعنية بالخط العربي وجمالياته، أن تضع فنونه في تصنيف النوع والأنواع، تيسيراً لدراسة هذه الفنون وتعليمها والتدريب على قواعدها، وطرائق إقامة حروفها، وتشكيل كلماتها وعباراتها، فضلًا عن زخرفة اللوحة الخطية. ونعتقد أن تصنيف فنون الخط العربي، ووضعها في إطار النوع فيه نظر، ويحتاج إلى إعادة تقييم دلالة هذا التصنيف وبيان محتواه العلمي والفني في التعبير الدقيق والواضح عن تلك الفنون الجميلة، والتشكيلات الرائعة للخط العربي، حيث لا تتوافر فيه سمات جمالية أو قيم فنية تحفظ لفن الخط جمال تكوين الحرف، وتشكيل الكلمة، وإقامة اللوحة بتميز وخصوصية إبداعية، بين فنون التشكيل والرسم والزخرفة، والمنمنمات والعمارة، وبقية فنون التكوين الجمالي للمادة، والتشكيل الفني لها بما يثير أو يحفز التلقي البصري نحو التفاعل الشعوري والوجداني، مع تلك التكوينات ومساراتها الإبداعية، فضلًا عن معطياتها في الفكر والتعبير عن الحياة والطبيعة والكون ومشاغل الإنسان فيها.

 

إن الحرف العربي ليس رسماً لصوت لغوي منطوق دالٍ فقط؛ إنما هو وَسْمٌ فني وتجلٍّ مبهر لهوية حضارية أنجزها الإنسان العربي المسلم بإبداع في الفكر والفن، وألبسها من روحه ثوب العلم والمعرفة حتى تزينت بمعاني الجمال وقيم الجلال، فأمسك بها الزمان باقية في مداه وظله، واحتواها المكان عامرة بأنحائه ومواضعه. وحين يُقسم الجليلُ (عَظُمَ شأنُهُ) في كتابه المقدس بالحرف (ن والقلمِ وما يَسْطُرون)، فذلك من جلال الحرف وقدسية القلم الراسمِ له المُرَقِشِ هيئتَه، متصلًا ومنفصلًا والمُزَخْرِفِ الكلمةَ والعبارةَ، وحيث تفتتح السور المباركات بالحرف مفرداً متقطعاً (ص، ق، حم، الم، عسق، كهيعص...)، فذلك من جمال الحرف وبهائه، فمن هذه المنازل المقدسة استمد الحرف جمال قوامه، وأدرك جلال معناه ومحتواه، ومن تلك المقامات المباركة تلقى نسغ حياته وبقاءه خالداً -رسماً ونطقاً- خلود كتاب الله المبارك، فليس لأحدٍ راسمٌ لهيئته وخاطٌ لشكله إلا وارتدى حلة الجمال واكتسى بهاء الجلال، وتوضأت ريشته بنور الإيمان أو تيمّمت بضياء اليقين؛ كي تصلي ركعاتها في محراب جلال الحرف وجماله. وإن عرق جبين الخطاط كمداد قلمه يصنع الحرف ويمده بالحياة. وليس بناء الحرف وإقامته ومضة فنية إنسانية عابرة، تمتع نظر المتلقي برهة ثم تنطفئ، بل هو غرسُ نبتٍ إبداعي حضاري تسري إليه معاني الحياة من لمسات أنامل الخطاط نحو القلم والمداد، لتستقر في الحرف تكويناً جمالياً لا تغفل عنه عين الرائي آخذة منه ما يديم النظر ويريح الوجدان، وتسكن إليه النفس. ولم يكن فن الخط العربي هندسة صماء جامدة للحرف تتقيد بحدوده الخطية أو مقداره النِسْبي الخطي المقرر في نظام الخط وفنونه؛ إنما يستمد الحرف إيقاعه البصري وموسيقاه من حركة شكله المرسوم، وهيئته المشكلة بميزان الإحساس الإنساني الفني المدرك لقيمة الحرف وتشكليه الجمالي من لدن الفنان.

إن هذا الفن الجميل الجليل لا يزال قائماً في ظل مقولة ياقوت "هندسة روحانية ظهرت بآلة جسمانية" مستعصماً بها، ومنشأ الحرف والكلمة وفق نظامها التكويني المعبر عن الروح معنًى، وعن الفنّ مبنًى وشكلًا. يضيء الحرف برغبات الروح وهواجسها حتى كأنها تتجلى في رسم الحرف وصورة الكلمة، ويشيد اللوحة بتأملات الفكر ومعاني الرغبة في الحياة، ويقيم جمال اللوحة فضاءً رحباً ينعش بصر المتلقي وبصيرته ليمضي مع موسيقى الحرف وإيقاع الكلمة، والعبارة نحو بهاء هذا الفن وجلال نظامه التكويني. إن تكوين شكل الحرف وهيئة الكلمة وتصميم اللوحة الخطية ينبع من مدركات شعورية تتكامل لدى الكاتب في إنتاج المحتوى البصري للخط، حيث تقوم تلك المدركات على الإحساس الفني بالحرف وتذوقه جمالياً أولا، وإدراكه ثقافياً أو معرفياً ثانياً. وإنَّ تضافر تلك المدركات يعبر عن العلاقة العضوية بين (اليد)، والروحية (الإحساس) الموجهة لحركة الأنامل في تشكيل الهوية البصرية للوحة الخطية. ولا نعتقد أن تصنيف النوع لهذا الجهد الجمالي الراقي في الخط العربي وتشكيلاته جدير بوصفه والتعريف به أو تقييده في إطاره؛ إنما تصنيف الفن هو الأليق به والمعبر عن محتواه الإبداعي، وهو الوفي باستحقاقه الجمالي والثقافي والحضاري.

تقييد الأنواع:

النوع لغة: بفتح فسكون جمع أنواع، الصنف من كل شيء. والفعل نَوَّعَ الأَشياءَ: صنَّفها وجعَلَها أَنواعاً. والنَّوْعُ (في اصطلاح المناطقة): كُلِّيٌّ مقولٌ على واحدٍ أَو على كثيرين متَّفقين في الحقائق في جواب ما هو. وهُوَ الأَوَّلُ مِنْ نَوْعِهِ: مِنْ طِرَازِهِ، وتَعَدُّدُ الأَنْوَاعِ: تَعَدُّدُ الأَشْكَالِ (ينظر معجم المعاني الجامع، مادة نوع)، والنَّوْعُ أَخَصُّ من الجِنس، وهو أَيضاً الضرْبُ من الشيء قلّ أَو كثُر (لسان العرب : مادة نوع). قال الليث: النوْعُ والأَنواعُ جماعة، وهو كل ضرب من الشي وكل صِنْفٍ من الثياب والثمار وغير ذلك حتى الكلام؛ وقد تَنَوَّعَ الشي أَنواعاً. وهناك تصنيفات أخرى مرادفة لمعنى النوع أشهرها: الشكل، الجنس، الطِراز، الصنف، النمط، القسم، الضرب. يتضح من الدلالة اللغوية والاصطلاحية للفظ النوع أنه تصنيف في تقسيم الأشياء وتنظيمها بما يسهل معرفتها وبيان أضربها، وهو تصنيف تعليمي توضيحي لتقييد الأشياء، جامد لا حركة فيه أو حياة بمعنى لا إحساس جمالي أو تعبيري في قيمته التصنيفية؛ إنما هو لغرض بيان أو تميز شيء عن شيء أو تقييد حالة عن أخرى لأجل التوضيح، سيما في مجال التعريف بالشيء وأنماطه.

والنوع تصنيف معرفي أو ثقافي أو اجتماعي للتمييز بين الأشياء، كالتمييز بين أنواع الفاكهة والخضار أو الأشجار وثمارها، أو السيارات بأشكالها، أو الكائنات الحية بمشيتها - منها ما يمشي على بطنه ومنها ما يمشي على اثنين، ومنها ما يمشي على أربع – إلى غير ذلك من التصنيفات النوعية للأشياء في إطار وظيفتها أو حجمها أو لونها...إلخ. وهو بهذا المعنى لا ينهض بالدلالة العلمية الموضوعية على فنون الخط العربي وجمالياتها، وتشكيلاتها الرائعة للحرف والكلمة واللوحة الخطية.

تأصيل الفنون:

بيَّن ابن منظور معنى الفن لغويّاً في معجم لسان العرب على أنّه اسم لفعل فنّ، أو فننّ الشيء أي أتقنه وجعلهُ مثيراً للإعجاب والفَنُّ: الضَّرْبُ من الشيء، والجمع أَفنان وفُنونٌ، والرجلُ يُفَنِّنُ الكلام أَي يَشْتَقُّ في فَنٍّ بعد فنٍّ، والتَّفَنُّنُ فِعْلك. ورجل مِفَنٌّ: يأْتي بالعجائب، وامرأَة مِفْنَّة (اللسان مادة فنن). أما الدلالة الاصطلاحية للفنِّ فتنفتح على معان كثيرة في إطار الرؤى الفلسفية أو المنطلقات الفكرية والنظريات المعرفية التي تعالج معنى الفن ومضامينه ووظائفه اصطلاحياً. ويمكن أن نفيد من دلالة الفن كما وردت في الموسوعة البريطانية، حيث تعرف الفن على أنه: "التعبير عن الأفكار الجمالية عن طريق توظيف المرء لخياله وإبداعه".

والذي يعنينا من الدلالة الاصطلاحية في مدار بحثنا هنا؛ هو مقدار تعبيرها عن جماليات الخط العربي بما يبرز الموهبة الفنية الأصيلة التي أنتجته، ومهارة الفكر الإبداعي الذي اجتهد في إقامة فنونه، ونظام تشكيلاته، فضلًا عن الجهود العلمية التي أرست قواعده، وحددت مساراته بدقة ونسب معلومة في مقدار الحرف ومساحة الكلمة، وضبط لعلامات الزينة والزخرفة الخطية.

إن الفن يقوم على التفكير المنظم بما يعبر جمالياً عن تجارب الإنسان في الحياة، وينهض على الوعي المتأمل لتلك التجارب، وما يناسبها من أدوات التعبير الفني عنها كالصوت والكلمة والموسيقى والتشكيل والرسم والخط والعمارة إلى غير ذلك من الفنون الجميلة. وفي ضوء ما تقدم ندعو إلى تغليب استعمال عبارة فنون الخط العربي على عبارة أنواع الخط العربي، وإشاعة ذلك بين الباحثين والمهتمين بالخط العربي وفنونه، واعتمادها في الدراسات والبحوث والمؤلفات المعنية به.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها