الكوميديا في بدايات القرن العشرين

الكسار والريحاني.. نموذجاً

أميمة سعودي



يمثل التراث الثقافي والحضاري ذاكرة الأمة ووجدانها، ولتحقيق هدف إبقاء التراث حياً لا بُدّ أن يرتبط هذا التراث بواقع المجتمعات، ويمس وجدانها ويوثَّق، ويعاد تقديمه لكي تتناقله الأجيال لتحقيق التواصل بين الماضي والحاضر.


عام 1847 نشأ المسرح في الوطن العربي، ومع بدايات القرن العشرين ظهر رواد عظام أمثال يوسف بك وهبي، جورج أبيض، نجيب الريحاني وعلي الكسار، وعبر نصف قرن منذ تأسيس فرقة الكسار المسرحية "دار التمثيل الزينبي" 1907، أسهم في الحركة المسرحية، وكان تنافسه مع عملاق التمثيل نجيب الريحاني، عاملًا مهماً في إنعاش المسرح ورواجه، فقد كان الكسار رائداً في المسرح الارتجالي، بينما كان الريحاني أستاذاً وزعيماً للمسرح الفكاهي، بل جامعة فنية، تعلمت من خبراته أجيال، وامتلك حساً فكاهياً ممتزجاً بالدراما انفرد به عمن حوله فكان "الضاحك الباكي". وتُعَدُّ أعمالهما توثيقاً مهماً لكوميديا بدايات القرن العشرين ومفرداتها، حيث قدّمَا معالجات كوميدية لبعض الظواهر الاجتماعية التي حدثت خلال تلك الفترة من خلال شخصيتَىِ كشكش بيه وعثمان عبد الباسط.

الدنيا.. مسرح كبير

المسرح أبو الفنون فهو يجمع الفنون كلها، وهو الفن الوحيد الذي يلقى رد فعل مباشر من الجمهور فإما تفاعل أو تجاهل، ويرى الكاتب الإنجليزي والمسرحي الكبير ويليام شكسبير أن "الدنيا مسرح كبير، وكل الرجال والنساء ما هم إلا ممثلون على هذا المسرح"، فقد كتب ثمانيّ وثلاثين مسرحيةً تُرجمت إلى كل لُغات العالم، ولا تزال العديد من مسرحياته تُدرّس حتّى اليوم.

بينما قال جورج برنارد شو: "لم أفهم بعد لمَ يرغب الإنسان بالتمثيل على خشبة المسرح، بينما لديه العالم كله ليمثل فيه"، كما يرى أن "المسرح علاج لأمراض المجتمع".

ويعلن جان بول سارتر: "نحن أولئك الممثلون الذين دفع بهم إلى المسرح دون إعطائهم دوراً محدداً دون مخطوطة في اليد، ودون ملقن لهم بما عليهم أن يفعلوا، ‏إنّ علينا وحدنا أن نختار كيف نعيش حياتنا".

بينما عبر الكاتب المسرحي الألماني بريخت عن إيمانه بأهمية المسرح للشعوب في قوله: "أعطني خبزاً ومسرحاً أعطيك شعباً مثقفاً".
 

ريادة المسرح العربي:

نشأ المسرح في الوطن العربي عام 1847، على يد مارون النقاش في بلاد الشام، عندما قام بترجمة بعض الأعمال المسرحية إلى العربية وقام بتمثيلها، مثل مسرحية "البخيل" لموليير، ومسرحية "هارون الرشيد"، ومثل ظهور مارون النقاش وفرقته فتحاً كبيراً حيث شجع الكثيرين على خوض تجربته؛ لأن عرضه ظل لسنوات كثيرة معياراً فريداً للمسرح العربي، ثم كان أبو خليل القباني رائد المسرح العربي الذى حقق تقدماً كبيراً لفن المسرح، وهو أول من أدخل الألحان ليتم إنشادها أثناء العرض المسرحي في العالم العربي، وقام بتطويع الموروث الشعبي ليناسب المسرح، مثل حكايات ألف ليلة وليلة، كما جعل الفصحى لغة الحوار في عروض المسرح، كما أنشأ الخديوي إسماعيل دار الأوبرا، التي شهدت العديد من عروض الأوبرات العالمية مثل عايدة، سميراميس، وريجوليتو، إلى جانب عدد من العروض الهامة.

وفي مصر أنشأ يعقوب صنوع "أبو نظارة" أول مسرح عربي عام 1870، وقدم صنوع مسرحياته المترجمة أو المقتبسة أو المكتوبة باللهجة العامية، وأقيمت مسرحياتُه على مسرحِ قاعة الأزبكية، ولاقت نَجاحًا جماهيريًّا. وقد طلب منهُ الخديوي إسماعيل عرضَها في القصر. كتَبَ صنوع العديدَ مِنَ الرِّواياتِ والمسرحيات الهزلية والغرامية، ومِنها: البَخِيل، الأَمِيرة الإسكندرانيَّة، الصداقة، أبو ريدة وكَعْب الخير، العَلِيل، بُوْرصة مِصر، الدرتين، موليير مِصْر وما يقاسيه، مدرسة النِّساء، وغيْرَها، وجاء بعده سليم النقاش فقام بترجمة بعض الأعمال المسرحية، لكنه قام بشيء مختلف، وقرر إدخال الفن الأوبرالي مصر باللغة العربية بدلاً من الإيطالية، وقام بتعريب أوبرا عايدة وطبعها عام 1875م، وأهداها إلى الخديوي إسماعيل.

عاد جورج أبيض اللبناني المولد عام 1910 من فرنسا حيث أرسله الخديوى عباس لدراسة الفن، وبدأ في تقديم عروض مسرحية على مسارح الإسكندرية والأوبرا بالقاهرة، وقد أتقن اللغة الفرنسية وقدم مسرحيات بنصوص قوية، وانطلق من خلال فرقته عام 1912، لتقديم المسرحيات المعربة بالاشتراك مع عزيز عيد وعبد الرحمن رشدي وأحمد فهيم، ومحمد بهجت وخليل مطران. وقد أسس جورج أبيض مسرحاً محترفاً، إخراجاً وتمثيلاً، من خلال: فرقة قومية في تونس، وأخرى في مصر، وأصبح أحد أبرز نجومها، وانضم للفرقة حسين رياض ودولت أبيض التي تزوجها، وأصبح جورج أبيض رائداً للمسرح المصري والعربي، ثم أسس يوسف بك وهبي عميد المسرح العربي فرقة رمسيس، واستطاع أن يُحدث نقلة هامة في تاريخ المسرح الدرامي من خلال أعماله الفنية التي لاقت نجاحاً كبيراً ليس فقط داخل مصر بل وفي بعض الدول العربية مثل سوريا ولبنان والمغرب، كذلك أسس الرواد الريحاني والكسار وسلامة حجازي، وفاطمة رشدي وغيرهم فرقاً مسرحية قدمت أنماطاً مسرحية مختلفة، منها المسرحيات الجادة والغنائية، والكوميدية والأوبريتات.

كما تعد منيرة المهدية أول مطربة وممثلة مصرية مؤسسة لفرقة مسرحية باسمها في بداية القرن العشرين، وتحدت تقاليد الزمن وقتها وقامت بدور رجالي في فرقة عزيز عيد في رواية للشيخ سلامة حجازي.

وقد ساهمت عوامل عدة في ظهور المسرح في البلاد العربية، أهمها الاحتكاك الثقافي مع الغرب من خلال الحملة الفرنسية على مصر والشام، وقد وثّق الجبرتي معلومات عن مسرح الحملة الفرنسية من خلال كتابته عرض تحليلي للمسرحيات التي قُدمت على خشبته، كما وثق رفاعة الطَهْطَاوي في كتابه "تخليص الإبريز في تلخيص باريز"، شكل المسارح في فرنسا من حيث الإضاءة، الديكور، خشبة المسرح، وأنواع التمثيل... إلخ.

وبرز المسرح الغنائي على يد سلامة حجازي رائد فن الأوبريت، وهو أول من انتقل بالأغنية من مجالس التخت إلى خشبة المسرح، وجعل منها جزءاً أصيلًا في بناء العمل المسرحي، فمهد الطريق للنقلة الكبرى التي أحدثها من بعده سيد درويش، وقد أحدث سيد درويش طفرة في الموسيقى والمسرح الغنائي، وقدم مسرحيات متميزة مثل العشرة الطيبة والباروكة، وقام بتلحين مسرحيات: أش، قولوله، فلفل، رن، لفرقة نجيب الريحاني، ولحَّن مسرحية مرحب لفرقة الماجستيك، و"كلها يومين" لفرقة منيرة المهدية، وفيما بعد كوَّن فرقة خاصة به بالاشتراك مع عمر وصفي، أطلق عليها اسم "جوق سيد درويش"، وافتتحها بمسرحية شهرزاد.

ازدهر المسرح المصري والعربي، وكان تطورهما في بداية القرن العشرين سبباً في أن يتحول الفن إلى ظاهرة اجتماعية وحاجة روحية ضرورية للحياة الثقافية، ظهرت أسماء مبدعة وقامات شامخة من الكتاب ومنهم توفيق الحكيم، وأحمد شوقي وعزيز أباظة، ظهر الحكيم في وقت سادت فيه الأعمال المقتبسة، وكان أول كاتب مسرحي عربي يستلهم التراث في أعماله، وترجمت العديد من نصوص الحكيم إلى اللغات الأجنبية، وكتب أحمد شوقي بك مسرحيات شعرية منها مصرع كليوباترا، البخيلة، علي بك الكبير، مجنون ليلى، عنترة، الست هدى وغيرها. وكتب عزيز أباظة مسرحيات: شجرة الدر، قيس ولبني، العباسة، الناصر، غروب الأندلس، شهريار، أوراق الخريف، قيصر، وزهرة، كما ظهر مبدعون آخرون ومنهم يوسف إدريس، ألفريد فرج، سعد الدين وهبة، صلاح عبد الصبور، علي الراعى، محمد الماغوط.

وعن سر ازدهار المسرح سئل نجيب محفوظ أديب نوبل فأجاب: " أتدري ما هو سر ذلك؟ السر أننا صرنا جميعاً ممثلين".

عثمان عبد الباسط  و  كشكش بيه

علي الكسار فنان تحمل قصة حياته كفاحاً ومثابرة؛ لأنه لم يهتم في حياته إلا بمسرحه الذي عشقه، قال عنه أسطورة الكوميديا الفرنسية "دني دينس" حين رآه يقدم دور البخيل في مسرحية "سرقوا الصندوق يا محمد"، المأخوذ عن رواية البخيل لموليير: "لقد شاهدت بخيل موليير مصر في شخصية عثمان أفندي أعظم مما شاهدتها في فرنسا".

عمل علي الكسار في فرقة جورج أبيض وتعرف هناك على أمين صدقي، وكونا معاً فرقة تمثيل عام 1916 تحمل اسم علي الكسار ومصطفى أمين، وفي 6 يناير 1919 انتقل بفرقته إلى مسرحه الجديد "الماجستيك" بشارع عماد الدين مع شريكه وكاتب مسرحياته أمين صدقي، وكانت فرقته من أقوى وأنجح الفرق الكوميدية بلا منافس.

ظل الشريكان معًا إلى أن وقع الانفصال بينهما في نهاية صيف 1925، وأصبح الكسار يعمل وحده بفرقته على مسرح الماجستيك حتى عام 1939، ويقدم لجمهوره بانتظام مواسم مسرحية كاملة، ويجوب بفرقته محافظات الوجه البحري والقبلي والدول العربية، اشتهر الفنان وذاع صيته خاصة بعد نجاح شخصية الخادم البربري "عثمان عبد الباسط" التي نافس بها شخصية "كشكش بيه" للفنان نجيب الريحاني، وكان التنافس شديداً بين فرقة "علي الكسار" وفرقة الريحاني، حيث وجهت الفرقتان لبعضهما البعض الانتقادات من خلال أسماء المسرحيات.

كان نجيب الريحاني جامعة فنية تخرج على يديه العديد من المبدعين بالوطن العربي، فهو أستاذ المسرح الفكاهي، اهتم بالنقد الاجتماعي واقتباس الأعمال العالمية، وصنع مسرحاً مصرياً يعتمد في الكوميديا على الكتابة الجيدة وبناء المواقف. وقد وُلِد نجيب إلياس ريحانة في 21 يناير 1889 بحي باب الشعرية بالقاهرة، لأب عراقي وأم مصرية، وتلقى تعليمه في مدرسة الفرير الفرنسية، وتأثر بالأدب العربي والفرنسي، وانضم إلى فريق التمثيل بالمدرسة، وهو في سن الـ 16 توفي والده، فعمل كاتب حسابات بالبنك الزراعي، وفي تلك الفترة تعرف الريحاني على المخرج عزيز عيد، وتعلم فنون الكتابة المسرحية والإخراج والتمثيل بشكل احترافي، وشكلا ثنائياً كوميدياً على مسرح الشيخ سلامة حجازي، وفي عام 1916، عرض عليه الفنان استيفان روستي مشاركته بالعرض المسرحي "خيال الظل"، وبعدها تعاقد على تقديم شخصيته الشهيرة "كشكش بيه"، وحققت الشخصية من أول عرض النجاح والشهرة الكبيرة.

في عام 1918 أسس نجيب فرقته المسرحية وقدم مع بديع خيري عشرات المسرحيات، أهمها "الستات ما يعرفوش يكدبوا" وحسن ومرقص وكوهين، وعن ذلك ذكر بديع خيري "عندما التقيت نجيب الريحاني، أبدى إعجابه بقلمي، واتفقنا وكتبنا العقد، وكان هذا اليوم هو يوم مولدي الفني، ومن المصادفة أن يكون يوم ميلادي، وبعد أن نجحت مسرحياتي مع الريحاني استقلت من عملي الحكومي، وانقطعت للتأليف المسرحي"، وقد كتب أولى مسرحياته لنجيب الريحاني "على كيفك"، ثم مسرحية "كله من ده"، ونجحت المسرحيات نجاحاً هائلًا، ويعتبر تعاون بديع خيري مع نجيب الريحاني البداية الحقيقية لميلاد وتطور المسرح الكوميدي، وكذلك تأثير بديع في بلورة شخصية ومسرح الريحاني، وقد شكلا نجيب وبديع معاً ثنائياً ناجحاً وقدما أنجح الأعمال الفنية الباقية حتى اليوم، وتزوج الريحانى من الفنانة بديعة مصابني التي كانت تملك كازينو بديعة بميدان الأوبرا.

بدأ الريحاني رحلته مع السينما عام 1931 عندما حول أحد عروضه المسرحية إلى فيلم، وقدم شخصية كشكش بيك في "صاحب السعادة كشكش بيك"، واستغل نجاح الشخصية وقدمها مرة أخرى بفيلم حوادث كشكش بيك، ومرة ثالثة في فيلم "بسلامته عاوز يتجوز"، ثم اشترك في فيلمي سلامة في خير و"سي عمر"، كما قدم فيلم لعبة الست وأحمر شفايف، واختتم مسيرته السينمائية بأحد أعظم كلاسيكيات السينما المصرية فيلم "غزل البنات" مع الفنانة ليلى مراد وسليمان نجيب وعبد الوارث عسر، وتم اختيار 3 من أفلامه وهي سلامة في خير وسي عمر وغزل البنات ضمن قائمة أفضل 100 فيلم في تاريخ السينما المصرية، والتي ما زالت تعيش في أذهان المشاهدين حتى الآن؛ لأنها تميزت بالصدق ولكونها الفن الذي رصد أحداث المجتمع وقدمها بعين واقعية، فاقتربت من الجمهور وأصبحت جزءاً لا يتجزأ من حياته.

أما مشوار الكسار السينمائي فبدأ في عام 1920 عندما شارك مع أمين صدقي في فيلم قصير صامت اسمه "الخالة الأميركانية"، ولكنه لم يهتم كثيراً لهذا الفن الجديد (السينما)، ثم رجع "الكسار" في الثلاثينيات للتمثيل السينمائي مع المخرج "ألكسندر فاركاش"، في فيلم "بواب العمارة"، وكان ذلك بداية انطلاقته السينمائية، كما استغل المخرج والمنتج توجو مزراحي نجاح شخصية "عثمان عبدالباسط" على المسرح، ونقلها إلى الشاشة في تسعة أفلام، لتصبح السينما بعد ذلك هي المحطة الأكثر تألقاً في مشواره الفني، وقد بلغ رصيده على مدار 19 عاماً حوالي 37 فيلماً سينمائياً، كلها تدور حول شخصية البربري ذي البشرة السمراء، من إخراج كبار المخرجين، ومن أشهر أفلامه علي بابا والأربعين حرامي، سلفني 3 جنيه، نور الدين والبحارة الثلاثة، واستطاع ببساطة وتلقائية وعفوية أن يخلق كوميديا خاصة ومتفردة، في العشرينيات والثلاثينيات.

الكسار والريحانى مثلا نموذجاً لبعض ملامح الحياة الثقافية والاجتماعية والسياسية لمصر في فترة مهمة من تاريخها، شهدت ازدهاراً ورواجاً كبيراً، ومن المهم دائماً تذكر الماضي مع صنع الحاضر والتطلع للمستقبل، فقد حقق المسرح العربي ريادته بفضل جهودٍ مضنية من أناس آمنوا به على مدى عقود.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها