الدكتور محمد سعيد العتيق هو شاعر سوري الجنسية، وطبيب متخصص في أمراض الدم، متفرد في كتابته الشعرية وله لونيته الخاصة في كتابة القصيدة الفصيحة، كل قصيدة يكتبها تحمل فكراً وحكمة، وقيمة علوية شعرية غارقة بالحب والجمال والحياة، ونرجسية الفعل الإيجابي أمام سلبية الآخر المتواضع. يكتب بعمق متأملاً الكون المدهش وأسراره، فهو الشاعر الباحث عن كل غريب وجميل، يستفزه ما وراء الوعي وما وراء الحقيقة لينظم أجمل الأشعار، مشكلاً أروع لوحة تتجلى فيها براعته في صياغة الشعر الرصين.. حول فنون الشعر وتجربته الشعرية الخاصة، كان لنا معه الحوار الآتي:
● مما لا شك فيهِ القول: إن الشعر لا ينفصل عن الشاعر، عن ذاته، عن حضوره المميز والمغاير، وعندما استمعتُ لأول مرة للشاعر العتيق في بيت الشعر شعرت بأن قصيدته رنّانة تشجيك كلماتها، وتصدح لك بجمالها، وكأنك أمام خلقٍ سحريٍّ يأخذك معه إلى الخيالِ في رحلة سفرٍ ماتعةٍ، والسؤال هل تُقاسم القارئَ هذا السحر وهذه الرحلة أم لك غاية أخرى؟
الشعر الحقيقي يبدأ في اللحظة التي ينجح فيها بالإشارة إلى المعنى غير المتوقع وغير المألوف؛ أي إلى المعنى الذي يفاجئ المتلقي، ومن هنا ونتيجة لقراءاتي الواسعة في الأدب العربي والغربي، اكتنزَ وعيي ولا وعيي بتجربةٍ وسعة من الرؤى والخيالات لأبني على الأرض قاعدتي من الأصالة، وأحلق في ما تقتضيه المرحلة والعصر الجديد الذي تتسابق فيه الأجرام، لأصل إلى ما وصلت إليه من نص شكلاني قديم بأغصان حداثوية، أورقت من نسغها الأصيل، واخضوضرت بخيالها وأسرارها التي لا يطالها إلا كل ذي فهم عظيم، وأحاول دائماً أن أجرَّ القاري إلى خيط نوراني أسلمه له ليحلق به في عالم مضيء.
وبما أنّ النص الشعري حاملًا للتجربة الذاتية والشعورية، لذا لا بُدّ أن يكون النص مُشَوِّقًا ومُشوِّشاً مخلخلًا للمتلقي أكثر من أن يكون النص متسقاً منظماً موحداً، لأنه نتاج لعواطف ومشاعر ينقلها الشاعر تبعاً لمنعرجاته الشعورية وقلقه الكوني، وقلق ذاته ذات الكينونة المختلفة في مواجهة الشك واليقين والأسئلة.
● نص العتيق تخرج منه روائح الفلسفة الوجودية من كل جوانبه فهل هو فيلسوف أم شاعر أم حكيم؟
الفلسفة تعني دراسة الواقع والوجود والمعرفة والسلوك، ومفردة فلسفة "حب الحكمة وطلب المعرفة". وهي بالتالي: واحدة من أهم مجالات الفكر الإنساني في تطلعه للوصول إلى معنى الحياة.
فكيف لشاعر حقيقي ومعرفي ومدهش ألا يكون نصه ممتلئاً بالفلسفة والقيم والأسئلة والأجوبة.
● شاعرية المعنى الواحد في الغالب لا تجد قبولًا عند المتلقي، بينما في نصوصك دلالات ومعان سامية ومتنوعة كيف تفسر ذلك؟
ما أبشع وما أرخص اللّغة المسطّحة المباشرة التي لا تُدغدغ الخيال ولا تستفز الذهن والفكر، وما أروع وما أطيب اللغة الشعرية المكثفة العميقة غير المباشرة، والتي تسحرك بأزيائها الفلوكلوريةِ السوريالية التي تومئ إليك منْ بعيد: أنْ الحق بي طاردني فأنا الغالية العزيزة لا أعطيك كنوزي إلا بعد جهد وتعب، وحين تقع عليها: هنيئاً لك تلك المتعة التي ما بعدها متعة.
● هناك بعض الشعراء يبدؤون القصيدة بداية دسمة ولكن في وسط القصيدة ينخفض المزاج وتتفلت منهم ماذا تفعل عندما تمر بهذه الحالة؟ وماهي الاستراتيجية التي تتبعها لبناء قصيدة متكاملة الأركان؟
النص الشعري البديع ينبع من مصبين هما الخيال واللاوعي أو الفطرة، ولا يستطيع إنتاجه إلا ثلة من الذين نذروا أنفسهم لفكفكة نظام الأشياء والثوابت، من خلال مخزونهم المعرفي الموجود في عقلهم الباطن اللاواعي، والذي اعتبره الوعي الشعري المطلق والمصنع الذي يشكل من لا أشياء مدركة وكلمات لا معنى لها بحد ذاتها، شعراً مدهشاً بعيداً عن العقل، ولكن لا يمكن لأي شاعر أن يستمر بحالة شعورية مطلقة وثابتة لذا في بعض الأوقات يفقد الشاعر بوصلته ليبدأ النص حالة الوفاة تدريجياً ليصبح جثة هامدة أدفنها في مقابر الشعر.
والشعر دفقة شعورية تنتهي بالرعشة الشعرية، وحتى تكتمل اللوحة الشعرية لا بد من بعض الحكحكة بالعقل كما قيل: البائت المُحكحك أطيب، فكل نص رائع هو خليط الموهبة والفطرة والنظم.
● للعتيق نرجيسته المتغلغلة في شكل النص وصوت النص وإلقاء النص.. هل النرجسية صفة من صفات الشعر والشاعر؟
كل شاعر حقيقي عارف لنفسه ونصه نرجسي لا مرضي؛ لأنه يعرف قدر نصه ونفسه ويفتخر.
● العمق الذي تكتب به أشعارك يعبر عن مشاعر حقيقية، ألم تعط مجالاً للخيال في الكتابة الشعرية ربما يكون أكثر روعةً وإبداعاً؟
القصد بالشعر العميق، تلك الخصائص الفنية، تلك المداليل والأحاسيس والإيحاءات، وهي نقيضٌ للشعر المنظوم أو لغة العلوم الواضحة، نعم الغموض المرغوب والمحمود والذي لا يتعدى السقف المسموح به مطلوب، ويضفي على النص ظلالا من الإيماءِ والتنوع، ويفتح نافذة على الكثير من المعاني والدلالات والاحتمالات تُغْني النص وتثريه.
وهذا هو مقصدي في العمق الشعري: لغة عميقة غير مسطَّحة تماطل في إبراز المعنى، ولا تعطيه إلَا بعد جهدٍ، تُشعرك بلذة الاسْتكشاف، وليست تجود بالمعنى من أول قراءة فتأتي المعاني ذليلة واضحة دون إعمال فكر، إن الحَسنَ من الشعر ما أعطاك معناه بعد مطاولة ومماطلة، وكلما اقترنت الغرابة والتعجيب بالتخييل كان أبدع.
● في الآونة الأخيرة أصبح كل من كتب كلاماً مقفى يلقب نفسه بالشاعر، وينشر ذلك على وسائل الإعلام الجديد.. ما تصورك للمشهد الشعري العربي مستقبلًا؟
المبدعون غرباء والشعراء في غربة أشد، وأما أنصاف الموهوبين من الشعراء وأشباههم الذين نضب خيالهم وتحولوا إلى نظامين يزخرفون الكلام وينمقونه ويجترون الصور المكرورة والباهتة والمستهلكة التي فقدت صلاحيتها، والتي هي غير قادرة على الإدهاش أو الإمتاع أو المفاجأة.. لقد سيطر على العالم الأزرق أصحاب المواهب الرخوة الذين يدورون في فلك العادي والنمطي ناهيك عن مجاملة النقاد الساقطين أو غير المؤهلين معرفياً وتقنياً لهم -ولكل فساد ثمن مطلوب من الشاعر أو الشاعرة- فنبتوا كالطحالب في مستنقع الرداءة الثقافية والأخلاقية.
ولا يأتي الشاعر المبدع المدهش المغاير المؤثر إلا على رأس كل حقبة من الزمن، فإذا جاء سعى إليه المجد، وسعت إليه الشهرة فلا تخافوا على الشعر الحقيقي والشعراء المبدعين.
● القصيدة الأولى التي كتبتها في العام 1982م وكنت وقتها شاب يافع، هل ترى أنها ناضجة ومتماسكة ومحبوكة؟
بالطبع للقصيدة الأولى نكهتها المدهشة في حينها، ولكن عندما أنظر إليها أضحك، وأستغرب كيف كنت بسيطاً كبساطتها، ونقياً كنقاوتها في هذه الحياة المفككة، وكذاك أنظر للديوان الأول والثاني والثالث، ولا يمكن لي وأنا أكتب ما أكتبه الآن أن أعترف بها شعراً ناضجاً، ولكنها مرحلة لازمة وتجربة مهمة، ودرجة في سلَّمِ الوصول إلى المبتغى الأسمى، ولا يمكن للشاعر أن يكون محدود التطور وإلا دُفن وهو على قيد الشعر، ولا بد له من النهوض إلى السماء كلما ارتقى بشعره واستوت موهبته على الجودي، وحلق في الفضاء.
يقول العتيق: