إن العلاقة بين المبدع والعالم في إطار هذا المفهوم الفلسفي الأثير (الظاهراتية/phenomenology)، القائم على الاختيار والانتقاء من ثوب العالم على اتساعه وكثرة تفاصيله، يأخذنا إلى منطقة الأزمة التي تمثل الدافع في عمل الفنان على اختلاف انتماءاته التعبيرية، هذه الأزمة تعد بمثابة المادة التي ينتقي منها هذا الفنان، ويعيد تشكيلها في نسق رمزي، يعد بمثابة الحضور الموازي لحضورها الواقعي1.
والإبداع النسوي في تجليه المعاصر يعكس رغبة الذات الأنثوية في الإسهام في الإنتاج الأدبي إلى جوار الرجل، وقد أضحى عملها واقعًا يفرض نفسه بقوة، لا بوصفها صوتًا يسعى لانتزاع دور البطولة من هذا الكيان المذكر الذي استأثر به لنفسه على مدى فترات زمنية طويلة، لكن للتأكيد على أن صناعة الفن في جوهرها حرفة إنسانية يستطيع النهوض بها طرفا النوع الإنساني: المذكر والمؤنث على السواء، وإن كان هذا الإبداع في بدايته قد ارتبط بحرص هذه الأنثى على ما يمكن تسميته إثبات الذات، وتأكيد الحضور في عالم اعتاد أن يُسمع فيه هذا الصوت الذكوري؛ وكأن ذلك الحال قد أصبح من مسلمات الحياة التي تقول: إن الذي يعيش الواقع ويقدر على أن يحيله خلقًا جديدًا يظهر في عالم مغاير اسمه الفن هو هذا الرجل وحده؛ لذا جاء هذا الصوت النسوي في بداياته ليقول: إن المرأة لن تتجمد إلى ما لا نهاية في موقع المفعول (الموضوع) بوصفها جزءًا من انشغالات هذا الفاعل المذكر على المستوى الذهني والوجداني، لكنها ستنوع من حضورها داخل العالم لتصير فاعلاً له موقفه ورؤيته إزاء هذا الكيان الذكوري، الذي عليه أن يجلس في غرفة محاكمة (موقع الموضوع/ المفعول)، يعقدها له هذا القاضي الأنثوي2.
لكن هذه الوضعية الإبداعية للمرأة لن تكون الوحيدة على الإطلاق؛ فسرعان ما ستطور من خطابها ليصبح إبداعها رصيدًا فنيًّا تسهم من خلاله في إثراء سياقها الثقافي الذي تنتمي إليه، وتحاول أن تجعل منه مطية لرؤيتها ولما يمكن أن تتخذه من مواقف إزاء سياق الواقع والعالم المحيط؛ بوصفها صوتًا مبدعًا يسعى لأن يتحسس صداه في فضاء القراءة دون أن يعبأ كثيرًا بنوعه هل هو ذكر أم أنثى3.
ولمَّا كان الإنسان كائناً متعلماً، تميز عن بقية كائنات الله ومخلوقاته في الأرض بالتفكر والتدبر؛ فقد لجأ إلى كل سبيل تيسر له الارتقاء، وتعينه على التعامل مع وقائع حياته، وتخطي عقباتها المختلفة الطبيعية منها والاجتماعية. وهنا كان "المثل" نموذجاً يعبر عن قدرة الإنسان المتجددة على التعبير عن مواقفه وخبراته من ناحية، والاستفادة –وهذا هو الأهم- من هذا الرصيد الخبراتي، والاستعانة به في تطوير أداءاته السلوكية من ناحية أخرى.
من هذه الزاوية يمكننا النظر إلى كتب الأمثال بوصفها ذاكرة إنسانية للعقل الإنساني عامة والعربي خاصة؛ إنها دفاتر يوميات تعيننا على قراءة الماضي، وفهم الحاضر، واستشراف المستقبل.
هذه المعاني سنحاول استقصاءها من خلال حكاية المثل؛ عبر نموذجين نصيين على النحو التالي:
"أبصرُ من زرقاء اليمامة":
واليمامة اسمها، وذكر الجاحظ أنها كانت من بنات لقمان بن عاد، وأن اسمها عنز، وكانت هي زرقاء... وهي امرأة من جديس... كانت تبصر الشيء على مسيرة ثلاثة أيام، فلما قتلت جديس طسمًا خرج رجل من طسم إلى حسان بن تبع، فاستجاشه، ورغبه في الغنائم، فجهز إليهم جيشًا، فلما صاروا من جوة على مسيرة ثلاث ليال صعدت الزرقاء، فنظرت إلى الجيش، وقد أمروا أن يحمل كل رجل منهم شجرة يستتر بها؛ ليلبسوا عليها، فقالت: يا قوم قد أتتكم الشجر أو أتتكم حمير فلم يصدقوها، فقالت على مثال رجز:
أُقْسِمُ بِاللهِ لقد دبَّ الشجرْ... أوْ حمْير قدْ أخذت شيئًا يجُرْ
فلم يصدقوها، فقالت: أحلف بالله لقد أرى رجلاً ينهس كتفًا، أو يخصف النعل فلم يصدقوها، ولم يستعدوا حتى صبحهم حسان، فاجتاحهم، فأخذ الزرقاء، فشق عينيها..."4.
إن أول ما قد يلفت نظرنا في صيغة المثل أنها عبارة عن تركيب لغوي ناقص بحاجة إلى مجهود ذهني منا لنكمله؛ فيا ترى ما هذا الناقص؟ هل اسم؟ أم فعل؟ أم استفهام مثلاً؟ وإذا أكملناه كما نراه فما شكل الجملة وقتها؟ هل ستصبح تركيباً إنشائياً استفهامياً؟ هل ستصير جملة اسمية مكونة من مبتدأ وخبر؟ وفي الحالة الأولى تصير بنية المثل على هذا النحو: من أبصر من زرقاء اليمامة؟ أما عن الثانية فإن المسند إليه (المبتدأ) يبدو متنوعًا في تشكيله من حيث الجنس من جانب (مذكر أو مؤنث)، ومن حيث العدد من جانب آخر فقد يكون مفردًا أو جمعًا.. على سبيل المثال:
أنا أبصر من زرقاء اليمامة
هي أبصر من زرقاء اليمامة
نحن أبصر من زرقاء اليمامة
مع وجود احتمالية أخرى تعتمد على النفي؛ وبذلك تؤكد أحقية هذا الرمز بالتفضيل المطلق، فيكون البناء اللغوي هكذا: لا توجد ذات أبصر من زرقاء اليمامة.
ويبدو أن الراوي حريص على إدخال القارئ في لعبة جدل مع هذه الأنثى/الزرقاء؛ مبعث ذلك القرينة أو الصفة (أبصر) التي تتيح لها مكانة أفضل مقارنة بالغير (فرد/ جماعة)، وتعطي في الوقت نفسه إشارة إلى أن هذه الأفضلية تعد بمثابة حكم من قبل الجماعة عليها له حيثيات أدت إليه، يمكن لنا أن نطالعها في التشكيل القصصي المفسر لهذا المثل؛ كأنه يجيب عن سؤال: لماذا وصلت المرأة إلى هذه المكانة التي سمت بها على من حولها؟
وتأتي البداية عبارة عن لقاء تعارفي بين المتلقي وزرقاء اليمامة؛ فهي امرأة من بني البشر، لها اسم ونسب وعائلة، لكن سرعان ما يتجاوز الراوي بالمرأة هذه المنطقة الواقعية إلى منطقة أخرى تتميز فيها بطابع خيالي أقرب إلى الأسطوري يشير إليه التركيب "كانت تبصر الشيء على مسيرة ثلاثة أيام" الذي يعد سببًا مباشرًا في إنتاج هذا المثل "أبصر من زرقاء اليمامة"؛ إن بصرها يتجاوز حدود المعقول إلى درجة أقرب إلى اللامعقول.
ثم تأتي القصة المفسرة للمثل أو المورد من الداخل ليكشف جانباً من مأساة إنسان يسعى إلى توظيف قدراته في محيط ليس مهيأً بعد للإفادة من إمكانات أبنائه الحقيقية؛ فتكون النتيجة فشلاً وسقوطًا:
"… خرج رجل من طسم إلى حسان بن تبع، فاستجاشه ورغبه في الغنائم، فجهز إليهم جيشًا، فلما صاروا من جوة على مسيرة ثلاث ليال صعدت الزرقاء، فنظرت إلى الجيش، وقد أمروا أن يحمل كل رجل منهم شجرة يستتر بها؛ ليلبسوا عليها، فقالت يا قوم قد أتتكم الشجر، أو أتتكم حمير، فلم يصدقوها".
إن الزرقاء نموذج لكل إنسان يعيش لحظة مسؤولية تتمثل في عملية الإعداد المطلوبة لمواجهة خطر محدق يوشك أن يقع، فجاء نداؤها التحذيري تعبيرًا عن نموذج إنساني مثالي يرى أن عليه دورًا يتجاوز أفق الطموحات الذاتية الفردية الضيق إلى الانشغال بجماعتها/قبيلتها التي قد تكون رمزاً لفكرة الوطن في محاولة للوصول بها وبه إلى أفضل صورة ممكنة.
إن الزرقاء –في ضوء هذه الحالة– شأنها شأن كثير من دعاة الإصلاح بين جماعاتهم، الذين غالبًا ما يواجهون بمعوقات تخرج من داخل هذه الجماعات نفسها، غير أن هذه الموانع قد لا تعني –على المستوى النفسي– يأسًا يؤدي في النهاية إلى توقف؛ فالزرقاء الحريصة على مصلحة جماعتها بدأت في تفعيل قرينة أخرى تتمتع بها إلى جوار القرينة (أبصر)، ألا وهي القرينة (مبدعة):
"أقسم بالله لقد دب الشجر... أو حمير قد أخذت شيئًا يُجَر"
ويبدو أن القرينة (مبدعة) لم تعمل عملها فيما أرادت الذات المؤنثة الوصول إليه، فعمدت إلى الاتصاف بقرينة أخرى (مُلِحَّة) موظفة أسلوب التكرار، ولكن بخطاب عادي يناسب ذوق الجماعة: "فقالت: أحلف بالله لقد أرى رجلاً ينهس كتفًا، أو يخصف النعل فلم يصدقوها".
إن الصراع بين الذات التي تنطق بروح القبيلة (صوت الأنثى)، والقوم الذين يتخذون القرار في هذه القبيلة يتجاوز بالقرينة (أبصر) منطقة الرؤية الحسية البصرية إلى ما هو أبعد؛ فمسافة الرؤية التي تصل إلى ثلاثة أيام وتضفي على الذات المؤنثة طابعًا أسطوريًا، ليست إلا إشارة إلى تلك الشخصية التي تمتلك رؤية بعيدة المدى، تسعى إلى توظيفها في سبيل صياغة مستقبل أفضل للجماعة، وما هذا التركيب الإسنادي المعتمد على النفي، "فلم يصدقوها" إلا إشارة إلى أصحاب الرؤى القاصرة الذين لا ينظرون أبعد من اللحظة الحاضرة التي يحيونها؛ فيقفون حجر عثرة في طريق دعاة الإصلاح.
إن زرقاء اليمامة تعد من هذا النوع الإنساني الذي يحرص على تنمية قدراته حتى يصل بها إلى درجة قصوى رغبة منه في أن يكون نموذجًا إيجابيًّا يمكنه الإسهام بما لديه بشكل بناء، وقد يتجاوز هذا الإسهام نطاق الجماعة المحلية المحدود إلى الجماعة البشرية عمومًا، فينتقل بوجوده من الحيز الزماني والمكاني الضيق إلى حيز أوسع، عندما يتحول إلى رمز يدخل في علاقة جدلية تقوم على المقارنة بينه وبين كل قارئ، وتعبر عنها بنية الاستفهام: (من أبصر من زرقاء اليمامة)؟ والفضل يعود إلى الطبيعة المجاوزة للقرينة (أبصر) التي تتعدى منطقة الرؤية البصرية إلى رؤية مبنية على العلم يمكن تسميتها بالرؤية الذهنية.
ومع أن النتيجة التي آلت إليها البنية القصصية المفسرة: "ولم يستعدوا حتى صبَّحهم حسان، فاجتاحهم، فأخذ الزرقاء، فشق عينيها" نجد أن ثنائية (المنطق واللامعقول)، أو (الحقيقة والخرافة) ما هي إلا إشارة إلى صراع له صفة الاستمرار بين الواقع من جانب والمثال من جانب آخر، وبين المعوقات التي تشوب اللحظة الحاضرة من جانب، والأحلام المرجو تحقيقها مستقبلاً من جانب آخر، وتأتي الأنثى في مورد المثل؛ أي القصة التي تفسره تعبيرًا عن أحد طرفي الصراع.
من هذا النموذج الذي تمثله شخصية الزرقاء يتضح إدراك الوعي الجمعي العربي لأهمية تأسيس النموذج القدوة، عبر رسالة فنية كانت المرأة بطلتها. هذه الرسالة تبحث عن مستقبلين يرون في الزرقاء مثالاً فيه قيمة إنسانية عامة؛ بوصفه يؤسس لما يمكن تسميته بـ(الفرد الخلاق)، الذي يجعل من قدراته الذاتية وسيلة يعتمد عليها في إعادة تشكيل الجماعة وفق رؤية ذهنية تعبر –بدرجة ما– عن مجتمع مثالي يطمح إلى أن يكون حقيقة، وقد شكل له صورة في مخيلته؛ ومن ثم فهو يسعى إلى تنفيذها بقراءة مفردات الواقع المحيط؛ إن الزرقاء بمثابة الصوت المحذر الذي يركز عدسته على مناطق الضعف في جسد الجماعة التي يمكن أن تُخترق منها.
وفق الرؤية السابقة يتبين أن الفراغ النصي الكائن في تشكيل المثل السابق يمنح المتلقي حضورًا أكبر داخل هذا النص الفني؛ بفضل الطبيعة الجدلية المترتبة عليه التي تجعله في حالة مقارنة دائمة بينه، وبين هذا النموذج (المرأة)، الذي يتجاوز دلالته ليصبح بمثابة نموذج ثقافي مهما بلغت قيمته فلا بد من تجاوزه إلى ما هو أفضل منه؛ لذا جاء الحذف النحوي في بنية المثل تجسيدًا لرغبة فنية في كسر حدة الجمود المؤثرة سلبًا في الواقع، وتجاوز الثابت الجمالي المتضمن فنًّا –أي صيغة المثل والقصة المفسرة لها التي تبقى كما هي لا تتغير مع مرور الزمن- بما يجعل إيقاع الجماعة في حالة حراك مستمر، واتجاه أنساقها الفعلية في حالة صعود دائم5.

الرؤية الاستباقية للعالم في الرواية النسوية
والأديبة محور هذه الدراسة هي المبدعة اللبنانية غادة السمان، التي بدأت رحلتها في عالم الحكايات منذ ستينيات القرن الماضي مع القصة القصيرة، وقد ظهرت مجموعتها القصصية الأولى في عام 1962م بعنوان "عيناك قدري"، ويمكن النظر إلى بداية كثيرين مع فن القصة قبل الاتجاة إلى عالم الرواية على أنه يعد معادلاً فنيًّا لطور الطفولة في حياة كل منا؛ إنه يرى العالم ببعديه الفيزيقي والميتافيزيقي بمنظار صغير يختزل حضوره على اتساعة في أقل مساحة استيعاب ممكنة، هكذا يمكن وصف بدايات غالبية من اهتموا بالكتابة الإبداعية السردية؛ إنها تبدأ طفلة في مشاهد حكائية صغيرة (قصة قصيرة)، ثم سرعان ما تكبر –في الغالب– لتصل إلى مرحلة أكثر نضجًا تعكس رؤية أوسع للعالم وما يتضمنه؛ لتتنوع المشاهد وتتعدد وتتضافر فيما بينها، لتكون عالمًا فنيًّا كبيراً اسمه الرواية؛ لذا نجد غادة تتجاوز هذا الطور الطفولي مع النصف الأول من السبعينيات لتقدم لقارئها روايتيها الشهيرتين: "بيروت 75"، و"كوابيس بيروت".. وكل منهما يعكس نظرة ذات واقعية شغلت قضية الوجود الإنساني همًّا يرتكز عليه المكون الأيديولوجي لعالمها الفني6.
من هذا التصور نجد غادة السمان في روايتها "بيروت 75" تتناول عبر راويها هذا الوجود من منطلق ثقافي، له مرجعيته الإقليمية والعالمية متوسلة بالبعد المكاني لعملها المتجسد في إطار المكان "بيروت"، من خلال عدة شخصيات، في مقدمتها اثنان: فرح (شخصية ذكورية)، وياسمينة (شخصية أنثوية)، وهي إشارة ضمنية صادرة عن عالم الفن مفادها أن أزمة (الإنسان/الحياة) ليست مقصورة على طرف بعينه، وليست في الوقت ذاته نتاج طرف واحد دون الآخر؛ ومن ثم فإن هذا المصير السلبي (السقوط) هو ناتج درامي، أو بلغة علم السرد شخصية فنية تأتي في الظهور تالية بعد حزمة من الأفعال، يقوم بأدائها عدد من شخصيات الحكي الأسبق في الظهور منها، وبالإفادة من حقل التاريخ يتضح أن غادة كتبت روايتها هذه في أواخر عام 1974م، يليها في العام التالي عملها الروائي الثاني "كوابيس بيروت"7.
إذًا؛ فإن هذه العلامة التي تجمع بين دالٍّ يعنون لعالم الفن "بيروت 75"، ومدلولٍ يشير إلى سياق له حضوره في فضاء التاريخ تشير إلى ذات يمكن نعتها بالمتنبئة8. التي توسلت بمفردات المتخيل الفني لتنجز دورًا ذا طابع تحذيري، يتوقع وفق خطابه الخاص ما أضحى تاريخًا بعد ذلك، ولعل فكرة السقوط التي تعد بمثابة مصير لازم عددًا من شخصيات هذا العالم الفني، هي صيحة تحذير أطلقها رواي هذا العالم.
تنقسم "بيروت 75" إلى ثمانية وعشرين فصلاً تشغلها خمس شخصيات رئيسة، يمكن الإشارة إليها من خلال النص الآتي، الذي جاء في الصفحات الأولى من روايتها: "لم يتبادل أحد من الركاب الخمسة كلمة واحدة: ياسمينة، فرح، أبو الملا، أبو مصطفى السماك، طعان.."9.
التراث والإبداع النسوي المعاصر
التراث العربي
وغادة وراويها ليسا بدعًا في هذا الشأن؛ فصنيعها يتقاطع بالنظر إلى التراث مع المثقف العربي القديم، الذي كان مهمومًا بمستقبل جماعته، وكان خائفًا يترقب لما سيقع؛ لذا تأتي امرأة مثل (زرقاء اليمامة) انعكاسًا لهذا الهم، ونموذجًا لهذا الدور الإيجابي الذي يجب على الذات النهوض به بحكم واجبها تجاه سياقها؛ لذا قال المثقف التراثي عنها قولته الشهيرة التى ما تزال حية في فضاء التداول "أبصر من زرقاء اليمامة"؛ فقراءتها التي وصلت إلى درجة بالغة من العمق والنضج تجعلها نموذجًا لكل ذات تتجاوز بنظرها حدود الواقع الحاضر إلى ما بعده حيث المستقبل.
التراث العالمي
وتحيل هذه الطبيعة التنبؤية لغادة إلى ما هو أبعد في الزمن من الزرقاء، إنها هذه العرافة التي كانت تسكن معبد دلفي في التراث الإغريقي القديم، وكان يأتيها البطل، ونموذجه على سبيل المثال أوديب في مسرحية (أوديب ملكًا) لسوفوكليس لتخبره بما سيقع استنادًا إلى ما تلقيه عليها الآلهة، وتحديدًا الإله أبوللو من أخبار، فكانت النكبة التي ألمت به في واقعه بعد ذلك منطوقًا كلاميًا بثته إليه هذه العرافة، هكذا كان النواح الذي أضحى سقوطًا في رواية غادة تعبيرًا دراميًا عن رؤية تنبئية لهذه القاصة استحال إلى حقيقة بعد ذلك؛ فجاء السقوط الفني لعدد من شخصياتها مرادفًا لسقوط المكان (بيروت)، وجماعته معًا في محنة 1975م وما تلاها10.
مراجع المقال: 1. د. أحمد يحيى علي، الأدب وصناعة الوعي، الطبعة الأولى، 2017م، دار كنوز المعرفة، الأردن، ص: 11، 12.┇2. السابق، ص: 214، 215، 216.┇3. د. محمد عبد المطلب، بلاغة السرد النسوي، الطبعة الأولي، 2007م، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، ص: 12.┇4. الميداني، مجمع الأمثال، الجزء الأول، ص: 155، 156. ونهس وخصف يعنيان على التوالي: أكل، وخرز (خاط)، انظر: القاموس المحيط: مادة (نهس)، (خصف)، ضمن الموسوعة الشعرية.┇5. يراجع في تحليل المثل: د. أحمد يحيى علي محمد، شخصية المرأة في التراث العربي (مجمع الأمثال للميداني نموذجًا)، الطبعة الأولى، 2015، دار كنوز المعرفة، عمَّان. وكتاب: قراءات في فن النثر العربي، الفصل الثاني: رؤية العالم من بصر العين إلى بصيرة العقل، من ص: 15 إلى ص: 22، الطبعة الأولى، 2021م، الرافد الرقمي، دائرة الثقافة والإعلام بالشارقة.┇6. عبد العزيز شبيل، الفن الروائي عند غادة السمان، الطبعة الأولي، 1987م، دار المعارف، تونس، ص: 6، 7، 8.┇7. السابق، ص: 12،13.┇8. جيرار جينيت، خطاب الحكاية: ترجمة محمد معتصم وآخرون، الطبعة الثانية، 1997م، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، مصطلح الاستباق، ص: 76، 77.┇9. غادة السمان، بيروت 75، الطبعة الخامسة، 1987م، منشورات غادة السمان، بيروت، ص: 9.┇10. د.أحمد عتمان، الأدب الإغريقي تراثا إنسانيا وعالميا، الطبعة الثانية، دون تاريخ، دار المعارف، القاهرة، ص: 285، 286.