النَّصُّ الْمُوَازِي فِي الْقَصِيدَةِ الْمُعَاصِرَةِ

نَحْوَ مُقَارَبَةٍ دَلَالِيَّةٍ

د. محمد محمد عيسى


لم يُتَح للقصيدة العربية في الماضي ما أتيح لها في وقتنا الحاضر سواء على مستوى الإبداع أو على مستوى التلقي والتأويل، مع التقدير الكامل للقصيدة العربية القديمة، والاعتراف الكامل بأَنها كانت وما زالت مصدرًا مهماً من مصادر الإِلهام والإِبداع، ومع ذلك يبقى لكل عصر أساليب وطرق تتفق أو تختلف مع ما سبقه. وقد كُتب للقصيدة المعاصرة الحظ الأَوفر؛ في أَنَّها استمدت من القصيدة العربية التقليديَّة القديمة كثيرًا من العناصر في الشكل والمضمون والأَساليب، بالإِضافة إِلى أَنَّها برعت في استحداث بعض التراكيب، والأساليب والمضامين، كما أَنَّها على اتصالٍ دائم بالتحولات الاجتماعية والثقافية.


وعند تلقي القصيدة المعاصرة؛ تُوجد هناك بعض النقاط المُهمة التي يجب وضعها في الاعتبار؛ ذلك أَنَّ الشاعر المعاصر قد تميز بالتنوع الكبير في التعبير عن أفكاره ومشاعره، فلا يفوت المتلقي تحسس ذلك على مستوى القصيدة.

وعلى هذا الأَساس ينبغي للمتلقي أَنْ ينظر بجد في تلك التراكيب التي جاءت أقرب إِلى روح الحداثة، وإِلى الجمل بما تتضمنه من استخدامٍ مبتكرٍ للغة، وتكنيات غنية بالصور، كذلك المضامين التي جاءت أَكثر حداثةً وتنوّعًا؛ حيث تتناول القصيدة قضايا اجتماعية، وسياسية، وثقافية، وفلسفية، بالإِضافة إِلى التجارب الشخصية.

ولعل أهم ما يلفت الانتباه في القصيدة المعاصرة هو التفاعل مع النصوص الأخرى؛ حيث يمكن أن يحتوي الشعر المعاصر على إِحالات، وإشارات، إلى نصوص أدبية وثقافية أُخرى، لا سيما التراث الأدبي العربي.

ولا يفوت المتلقي أَيضًا أَنْ يأخذ في الاعتبار هيكل النصِّ وحركته؛ ذلك أَنَّ الشاعر المعاصر يكون أكثر حرية وابتكارًا، ويحرص –في الأَغلب- على التفاعل مع القارئ؛ حيث يُتيح - استخدامه للأساليب الأكثر انزياحيَّة، المنتجة لكثير من المعاني - للقارئ فرصة لاكتشاف تفاصيل وتفسيرات مختلفة.

وينبغي للمتلقي أنْ يكون مُحِسًّا لتلك العناصر في كل احتكاكاته بالقصيدة المعاصرة، ويستكشف أحدث ما يتم به التعبير عن الأفكار والمشاعر، ويدرك تأثيره في شعرية القصيدة، وما يمكن أَنْ يُفيده في القراءة والتأويل.

وإِذا كانت تلك هي وصية النقد والناقد للمتلقي؛ فإِنَّ الأَهم في الوقت الحالي - من زمن الشعر العربي المعاصر - أَنْ ينتبه المتلقي والباحث والقارئ عامة إِلى النصِّ الموازي وحساسيَّته في تغيير مجرى القراءة والتأويل، وما يُمكن أَنْ يُضيفَهُ إِلى القصيدة من شعريَّةٍ.

ويدخل النصُّ الموازي ضمن زُمرة المُلحقات الجديدة التي أُضيفت إِلى القصيدة العربية في شكلها المعاصر، ويُمثل النصُّ الموازي حسب -محمد بنيس- مجموعة "العناصر الموجودة على حدود النص، داخلة وخارجة في آن، تتصل به اتصالاً يجعلها تتداخل معه إلى حد تبلغ فيه درجة من تعيين استقلاليته، وتنفصل عنه انفصالاً يسمح للداخل النصي، كبنية وبناء، أن يشتغل وينتج دلاليته. والإقامةُ على الحدود إشارةٌ للعابر أمام الكتاب - النص، ومصاحبةٌ لمريدِ القراءة، وإرشادٌ للمسالك"1، وكُلَّما اقترب النصُّ الموازي من التعبير عن النصِّ الإبداعي؛ كان ذلك دليلاً على تأسيس النص استراتيجيًّا، وانطلاقِ الكتابة من الوعي "وتُشكل العناصر الموازية، في الحقيقة، نصوصًا مستقلة. فالخطاب المقدماتي ما هو في الحقيقة إلا نص مستقل بذاته، له بنيته الخاصة، ودلالات متعددة ووظائف. كما يرد العنوان في شكل صغير، ويختزل نصا كبيرًا عبر التكثيف، والإيحاء، والترميز، والتلخيص"2

ويغنى النصُّ الشعري الحداثي بكثير من الإشارات التي تُسهم في إنتاجية الدلالة، من هذه الإشارات ما يكون خارج النص، أو على حدوده، ومنها ما يكون ضمن المتن، أو داخل النص الإبداعي، والأول منهما هو ما يُعرف بالملحق النصي، أو العلاقة الماوراء نصية أو النمط الثاني، كما هو عند جيرار جينيت "يتكون من علاقة هي عمومًا أقل وضوحًا وأكثر بعدًا؛ ويقيمها النص في الكل الذي يشكله العمل الأدبي، مع ما يمكن أن نسميه، الملحق النصي Paratexte: العنوان، العنوان الصغير، العناوين المشتركة، المدخل، الملحق، التنبيه، تمهيد... الهوامش في أسفل الصفحة أو في النهاية، الخطوط التزينات والرسوم... وأنواع أخرى من الإشارات الكمالية الكتابية أو غيرها، التي توفر للنص وسطًا (متنوعًا)، وفي بعض الأحيان شرحًا رسميًّا أو شبه رسمي"3

أما الإشارات داخل النص الإبداعي، فهي مجموع التعابير، والمفردات، والتراكيب، والمحمولات، التي تكثر معها احتمالية الدلالة، وتعددها، ويجب مراعاة الدقة في ربطها وتوجيهها، وإسقاطها، ومعرفة علاقتها بغيرها. وتظل عناصر النص المحيط أسرع هذه الإشارات جميعها في الوصول إلى مقاربة لقراءة صالحة للنص.

◁ النص المحيط وعناصره

اهتم الشاعر المعاصر بمحيط النص الإبداعي؛ فأخذ يصوغ بعناية عناوين دواوينه وقصائده، واحترف شاعر عن آخر في إهداءاته، كما جعل من المفتتحات المقتبسة - لاسيما الشعرية منها، والتي لا تقل في الغالب عن بيتين ولا تزيد عليهما إِلاَّ قليلاً - مدخلاً رئيسًا للنص، وقد ينطلق الشاعر منهما مسقطًا محتوى مضمونهما على الواقع، مدركًا ما لهذا القصد من اتساع في فضاء النص وتعدد دلالاته. وكثيرٌ من الشعراء المعاصرين قد أدرك البعد الفني للنص الموازي.

والنصُّ المحيطُ أحد نمطين يأتي عليهما النصُّ الموازي "ويُميز جيرار جينت في نطاق النص الموازي نفسه بين نمطين: النص المحيط Péritexte ويتعلق بالعناوين الداخلية والخارجية المدونة على ظهر الغلاف، المقدمات، الإهداءات، التصديرات، الفهارس، الهوامش"، النص الفوقي" Epitexte ويدرج تحته كل الخطابات الموجودة خارج النص من حوارات واستجوابات، قراءات نقدية، مسودات..."4، وفيما يلي سوف نقف على عناصر النصِّ المحيط، وأَهميتها في قراءة النصِّ الشعري ومقاربة الدلالة.

◁ العنوان

العنوانُ أحدُ بنى النصِّ المُنْفَتِحَة على كثيرٍ مِن فضاءَاته الداخليَّة والخارجيَّة، وقد حَرَصَ الشاعرُ العربيُّ المعاصرُ على اختيار عناوين دواوينه وقصائده بعناية؛ حيث وَجَدَ في العنوان بوابةً رئيسةً للدُّخولِ إلى النصِّ، فاجتهد في بناء بوَّابته. وتنوَّعت العناوينُ بين بسيطةٍ ومركَّبةٍ؛ فجاءَتْ فِي كلمةٍ أو أكثر، ورُبَّما جاءَ العنوانُ شطرَ بيتٍ شعريٍّ، أو جملةً مِنْ بين جُمَل القصيدة، أو عبارةً تراثيَّةً، أو مقولةً تاريخيَّةً، أوغير ذلك، على أَنَّ هناك علاقة تناصيَّة تربط هذه العناوين بالنُّصوص الداخليَّة.

◁ الإِهْدَاءَات

مثلما يُفيد القارئُ مِن العناوين في بلوغ القراءة النَّاجحة؛ فإِنَّه يُفيد أَيضًا مِن الإِهداءات بوصْفِها بوصلة إِنْ لم تُحدِّد الاتِّجاه الصحيح فإِنَّها تُشيرُ إليه، وتنمُّ عنه، وتُوحي به، ولم يكن للإِهداءات مكانٌ مُحدَّدٌ مِن الديوان، بل يُعرَف مكانها حسب وجودها، فمنها ما يجيءُ في صدور الأَعمال (الدواوين)، ومنها ما يجيءُ في صدور (القصائد)، ومنها ما يجيءُ مُتأخرًا فِي نهايات (الدواوين والقصائد) على غير العادة، وأيًّا كان مكانها فإنَّ وجودَها في (الدواوين أو القصائد)، في (صدورها أو نهاياتها)؛ له أهميته في توجيه القراءة ومقاربتها، وإِنتاج الدلالة؛ ووُجودها في صدر الديوان يُمثِّل مدخلاً لعالم كبير مِن الثقافات، والتقاطعات النصيَّة، والزمانية، والمكانية، وتفسيرًا لكمٍّ مِن الإِشارات، والإِسقاطات، وغيرها.

◁ التَّصْدِيرَات

تعمل التصديرات الشعريَّة والنثريَّة في القصيدة، مع غيرها مِنْ عناصر النصِّ المحيط على مقاربة القراءة؛ فكلُّ الاقتباسات التي يُصدِّر بها الشاعرُ قصيدته أو مقاطعها لا تنال مِنْ حريَّة المتلقي أو النص الإبداعي شيئًا؛ ذلك أَنَّها تُمثل إشارات على جوانب النص، تستوقف المتلقي ولا تُعيقه، وتحمل النصَّ على مواصلة السير، تستعيد طاقته الإنتاجية، وتجدد أفقه الدلالي، كما أنَّها تُوجد مساحةً زمنيةً تتفجَّر مِنْ خلالها دراما شعريَّة عالية، تستمد ملامحها مِن الإيقاع، والبناء التشكيليّ، والسرديّ، كما تمثل هذه الاقتباسات –حال نثريَّتها- أحد طرفي مفارقة قد صنعها اتحاد النص النثري مع النص الشعري؛ وتعمل على خلق أجواء متسعة مِن التَّحاور النوعيِّ المُمْتدِّ بين النصوص. ولو أنَّنا جرَّدنا النصَّ الشعريَّ مِنْ هذه الإِشارات، وأهملنا التعامل مع العلاقات والصلات التركيبيَّة داخل النص؛ لذهبنا إلى قراءات شتى، يتشظَّى معها النصُّ تشظيًا تَصْعُبُ معه القراءةُ النَّاجحة، والتي مِن شروطها توجيه الإشارات توجيهًا صادقًا.

◁ بُؤْرَةُ الاسْتِدْعَاء

يُسهم الاستدعاءُ -إلى جانب التناص داخل النصِّ وخارجه- في تفكيك النصِّ الشعريِّ؛ حيث يكون للاستدعاء أكثر مِنْ وظيفة، فضلاً عن وظيفته الفنية، يعمل على اتساع دائرة الدلالة؛ إذْ يمثل أثرًا قويًّا يفتح الآفاق المعرفيَّة أمام المتلقي. وليس هناك مكانٌ مُحدَّد لوجوده في النصِّ، فقد يجيء في متنِ النَّصِّ الشعريِّ، وقد يجيءُ في العناوين، أو التصديرات، أو في خاتمة النص، أو فيها جميعًا، وتتنوع صورُ الاستدعاء، ويأتي ما بين آياتٍ قرآنيَّة، وأبياتٍ شعريَّة، وأَقاويل نثريَّة، قد تجيءُ في صدر القصيدة أو المقطع، كما تجيءُ في نهاية القصيدة أو المقطع، وتمثل مفاتيح للنصِّ تعملُ على فكِّ (شفراته)، وتُسهم بشكل كبيرٍ في إنتاج الدلالة.

◁ فِي خَاتِمَةِ المَقْطَعِ والنَّص

إنَّ خاتمةَ النصِّ شيءٌ افتراضيّ، والقول بوجودها لا يَحدُّ مِنْ تعدُّدِ الدلالة واتساعها، بل إِنَّها مِن العناصر المُهمَّة التي تُساعد على قراءة النصِّ رغم تأخرها، وتمثِّل إحدى أَيقونات تأويله. ورُبَّما لم يهتم بعضُ النُّقاد بخاتمة النصِّ مثل اهتمامهم بِمُقَدِّمتِه، وقد لا يُدْرِجُونها أَصلاً ضمن عناصر النصِّ المحيط؛ على أَنَّها في الغالب تأتي من رحم النصِّ الإبداعيِّ. لكنَّ قراءة الخواتيم وتتبُّعها لا يقلُّ أهمية عن قراءة المطالع وتتبُّعها، لاسيَّمَا إذا اشتملتْ الخواتيم على تناص أو استدعاء، وكان ذلك لأحد الشعراء القدامى أو المحدثين. وقد تجيء الخاتمةُ لمقطعٍ، أو لقصيدةٍ.

وقد اتسع الفضاءُ النَّصيُّ فِي الشِعر المعاصر لكثيرٍ مِن الجُسور، والحُقول الدلاليَّة، والبُؤر التناصيَّة والاستدعائيَّة، التي يكون لِحُضورها أثر فِي إغناء المُتلقي عن التخبُّط والتحيُّر والتردُّد، وهي بصفةٍ عامةٍ تعملُ إلى جانب عناصر النصِّ المحيط على كشف مَغاليق النصِّ الشعريِّ، وتُؤدي إِلى قراءته قراءة صَائِبة، تزيد من انفتاحه، ونماء دلالاته.

 


هوامش: 1. محمد بنيس: الشعر العربي الحديث- بنياته وإبدالاتها، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، ط2، 2001م.ج1، ص: 76.2. جميل حمداوي: شعرية النص الموازي، ط:2، 2016م، ص: 9.3. جيرار جينيت: طروس، الأدب على الأدب ضمن محمد خير البقاعي دراسات في النص والتناصية، مركز الإنماء الحضاري، حلب، ط1، 1998م، ص: 127.4. روفية بوغنوط: شعرية النصوص الموازية في دواوين عبد الله حمادي، جامعة منتوري - قسنطينة، الجزائر، رسالة ماجستير، 2007، ص: 41.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها