الشِّعرُ.. من طوع اللغة وسطوة الورق إلى عالم الفَنّ

حوار مع الشاعر عز الدين بوركة

حاوره: علاء محمد زريفة


يقدم لنا الشاعر المغربي عز الدين بوركة في مجموعته الشعرية (ولاعة ديوجين)، صورةً خاصة جداً عن ذاته الشعرية التي لا تتمثل إلا نفسها، بعيداً عن تأثر أيّ صوتٍ أو تجربة شعرية أخرى. محاولاً استعادة توازنه في عالم مقلوب، عالم الوحشة والضياع والعدم. وممارساً فعل الكتابة كمن يوّجه مسدساً صوب رأسه، لكنه لا يموت بقدر ما يُميت.
 

فالكتابة الشعرية عنده لا تنطلق من كونها مجرد آلية "تعويضية"، بقدر ما تشبه ما يذهب إليه تنكراز في كونها "توّضح عقدة الوجود، وعثرة الكينونة". معيداً تشكيل ثورية ديوجين كفيلسوف رفضي انعزالي، فلا يكتفي بأن يسكن إلى جرة طينه-جسده بل يذهب إلى أن يجعله مركز الوجود والطبيعة.

فللشاعر بوركة ديوجينه الذي يضرم النار في بنية الكون الهشة. وفي سبيل الاستجلاء والحفر عميقاً في فهم واستدراك المخفي في هذه المجموعة المميزة، طرحت مجموعة من الأسئلة، فكان لي معه هذا الحوار الذي أرجو أن يكون شيقاً وممتعاً في آن.
 


تعود في كتاباتك للبحث في جذور المأساة الإنسانية، وتستخدم رموزاً تاريخية ودينية للتدليل على ذلك، فهل تعتبر أن الحداثة الشعرية تنطلق من إعادة تفكيك ميكانيزمات هذه الذاكرة الجمعية؟ وهل تجرب إسقاط الميتافيزيقيا على الواقع أم العكس؟

لأكون دقيقاً في حديثي وجوابي عن سؤالك المهم هذا، والذي يذهب لنقطة مهمة في اهتماماتي الكتابية والشعرية؛ إذ إنّ المأساة عندي حاجة إنسانية وضرورة تطورية حضارية، بل لا تكاد تكون هناك حضارة دونما مأساة (تراجيديا)؛ أي تلك الحكاية الأسطورية التي يتمحور حولها وجود تلك الأمة أو الحضارة، وقد تأتي المأساة في صيغة تعدد وجمع: مآسي (تراجيديات).. ولا نقصد هنا المعنى الحرفي لهذه الكلمة المرتبط بالفواجع والويلات، بل تلك السردية التي تتأسس عليها كل أفكار وتصورات حضارة ما عن العالم والوجود والسماء –الآلهة- والأرض –الإنسان. وكم أهتم بالتراجيديات وحتى الكوميديات اليونانية، باعتبار أن السردية الإغريقية كانت شاملة وواضحة، بفضل التدوين وانتقال الأسطورة من الشفاهي إلى المكتوب. ما جعل كل الأساطير المشكلة للفكر والتصور الإغريقي عن الوجود والأخلاق والعالم سماءً وأرضاً، يخضع لعملية النقد من قبل اليونانيين أنفسهم... وللأسف لم نستطع، من حدود بحر العرب إلى ضفاف الأطلسي، ورغم المشترك والمد الإسلامي والعربي، أن نؤسس لمأساة، أن نُؤَسْطر حكاية ونجعلها سرديتنا المشتركة التي نبني عليها تصورنا للعالم.
 

تتكئ في ديوانك أيضاً على الفن التشكيلي والخروج من سطوة اللغة إلى ما يشبه الإيحاء والصورة، حيث لا تعطي المفردة الأولوية عكس البياض أو الفضاء اللامتناهي بعده الجمالي الخاص، حدثنا عن ذلك؟

تتلقّى وتتقاطع وتتناسل الفنون جميعها في خيمة واحدة، لا حواجز ولا حدود بين الفنون كلها وخاصة في الاشتغال المعاصر، حيث يصعب تجنيس المنجز في أحيان كثير، وجعله ينتمي لخانة أدبية أو فنية دونما أخرى. من هذا المعطى جاء اهتمامي بالفنون التشكيلية، إلى جانب اشتغالي في النقد والبحث داخل عوالم هذه الفنون.

لا يكتمل النص، العمل الفني إن أردنا التدقيق، دونما الاعتناء بجوانبه المتعددة.. فالنص الشعري لم يعد يقتصر على الكتابة العمودية والمتقطعة.. إذ بات البياض والهامش والحواشي جزءاً لا يتجزأ من مكوناته، دونما الإغفال عن الجسد.. من حيث إنه المفكر وأداة التدوين (القلم أو أزرار الحاسوب امتداد له) والباعث والمستقبل وحتى قناة التلقي.. إننا لا نوجد إلا من حيث إننا أجساد.. والنص بالإضافة لكونه نسيج من نسيج العالم فهو جسد حي ينبض بالحياة. ومن حيث إن النص الشعري جسد، كان ولا بد من الاهتمام بالفنون البصرية والتشكيلية، للتفكير في إخراجه في هيئات غير مسبوقة وغير مطروقة ومعاصرة.. هنا أتحدث عن البرفورمانس نموذجاً، إذ يغدو النص الشعري مجسداً ومؤدى في الميادين العمومية، ليخرج عن طوع اللغة وعن سطوة الورق والكتب.. فيصير حراً في جسد صاحبه أو المؤدين.. إذ في عالم الفن المعاصر نتحد عن المؤلف المساعد، المؤلف الثاني، اليد الثانية التي تكتب وتجسد النص، أي كل من هؤلاء الأشخاص الذين يؤدون النص أو يتقونه في تفاعل مباشر.

على الشعراء اليوم التفكير في آليات جديدة للكتابة بعيداً عن المألوف والنمطي، علينا إخراج الشعر إلى الشارع.

توازي في نصوصك بين الكتابة وفعل الانتحار والتلاشي، وتقلب نفسك بين أطوار الشاعر والبهلوان، فهل تعتقد أن أحد سمات الكتابة الشعرية انتصافها للحقيقة فلا يبق من أثر العالم سوى رماد العدم؟

لقد قلب جان فرنسوا بودريار طاولة ليبنتز وهايدغر من بعده، حينما عكس السؤال ليسأل: "لماذا هناك عدم (لا شيء) بدل شيء"؟ دائماً هذا الإغراء الشمولي للتوحيد، لتقليل الازدواجية، للقضاء على الشر، لإبادة أي شيء، نتخيله يخلصنا من غموض العالم. لكن لنتخيل لبرهة وجيزة أن هناك عدم (لا شيء)، انبثق منه "الكل"، ألا يغير هذا الأمر تصورنا للعالم، ونهرب من التصور الأرسطوي حيث الطبيعة تهاب الفراغ. فهل فعلا الطبيعة تملأ كل شيء؟ فبودريار هنا يريد أن يغير تفكيرنا وتصورنا تجاه العالم، الذي لا يذهب من أحسن إلى أحسن أو من أسوأ إلى أسوأ، بالتعبير السياسي.. فـ"الواقع لم يعد موجوداً"، لقد تم استبدال الأصل بالصورة المشوهة: السيمولاكر، وباتت كل النسخ هي الأصل في ذاته.. بل لم نعد نفرق بين الأصل والنسخة.. وبالتالي لم يعد هناك أسوأ وأحسن. فإن ذهب السفسطائيون قبل سقراط إلى القول بأن الثقافة هي التي تصنع مفاهيمنا حول الشر والخير، فهنا نحن رفقة بودريار، نقف إزاء تغيير بسيط وجوهري، مفاده أن الميديا (وسائل الإعلام) هي عينها التي تصنع مفاهيمنا حول الخير والشر.. وبالتالي فالنسخة التي تدل على النسخة لا الأصل، فيتم تغيير كل تصوراتنا حول العالم تبعاً لما تريده وسائل الإعلام، أن يكون. لقد تم استبدال الشيء بالعدم، ومن هذا الأخير تنبثق كل الأشياء كما تخرج العنقاء من الرماد.

فما الذي بقي لدينا إذن؟ الفن والشعر طبعاً، اللعب بالكلمات وبالجسد، كما يفعل البهلوان، أن نكون أحراراً في نسخنا المتعددة، أن نعيش في أجسادنا الافتراضية والحية المعيشة بتعبير ميرلوبونتي، أن نكون أجسادنا.. وكما الجسد كل شيء محكوم بالتلاشي والاندثار والزوال، ولا يبقى خالداً سوى الأثر –النسخة. على الشاعر أن يكون بهلوانياً لكن على حبل مشدود، وألا يهاب ركوب الأخطار.. لكي يدحر الانتحار ويتخطاه.. وأن يمجد الجسد صورته الوحيدة ونسخته الأكيدة.

تمتاز النصوص عموماً ببعدها الثقافي العميق والمتعدد بحكم عملك في هذا المجال فتبدو أحياناً نخبوية متعالية، فإلى أي قارئ تتوجه؟

أتوجه للكل وللاّأحد، أكتب وأنا أفكر في كل القراء.. وفي الوقت عينه أرغب في أن أتحرر من رقابة القارئ الذي فيّ. أفكر في القراء الذين عليّ جعلهم كتاباً يساعدون النص كتابة وأداءً.. وأتحرر من المراقب الذي يُشطب وينزع الكلمات والجمل باسم الأخلاق والمجتمع والثقافة.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها