اللغة العربية.. وجدلية الأصل

د. خالد صلاح حنفي محمود



ترى موسوعة إنكارتا و ويكِبيديا والموسوعة الملكية السويدية أن اللغة العربية هي أكثر اللغات تحدثاً ونطقاً ضمن مجموعة اللغات السامية، وإحدى أكثر اللغات انتشاراً في العالم، حيث يستخدمها أكثر من 467 مليون نسمة، ويتوزع متحدثوها في الوطن العربي، والمناطق الأخرى المجاورة كالأحواز، وتركيا، وتشاد، ومالي، والسنغال، وإرتيريا، وإثيوبيا، وجنوب السودان، وإيران.


وهناك على الأرجح أكثر من خمسة آلاف لغة منطوقة في العالم اليوم، ثلثها في إفريقيا، لكن العلماء يجمعونها ضمن أُسَرٍ لغوية قليلة نسبيًّا، ربما أقل من 20 أسرة. وترتبط اللغات بعضها عبر الكلمات أو الأصوات أو البُنَى النحوية المشتركة، وبحسب النظرية السائدة، فإن كل أعضاء مجموعة لغوية واحدة انحدروا من لغة واحدة أقدم؛ أي من سلف واحد مشترك تطورت منه اللغة وتغيرت تدريجيًا بمرور الوقت، ويتضمن أصل اللغات والأُسر اللغوية وتشعباتها.

وتعد اللغة العربية أقدم اللغات المعروفة، كما أنها تتمتع بخصائص تميزها عن اللغات الأخرى، مثل: الألفاظ، والتراكيب، والصرف، والنحو، والأدب، والخيال، والقدرة على التعبير عن مجالات العلم المختلفة، وتُعدّ اللغة العربية اللغة الأم لمجموعة من اللغات المعروفة باللغات الأعرابية، وهي التي نشأت في شبه الجزيرة العربية، أو العربيات المتمثلة بالبابلية، والحميرية، والآرامية، والحبشية، والعبرية.

وأقدم ما يعرف من نصوص اللغة العربية يصل إلى القرن الخامس الميلادي، وكانت النصوص الأدبية في تلك الفترة تمثل اللغة العربية في عنفوان اكتمالها، ويرى كثير من الباحثين أنّ تاريخ اللغة العربية ينقسم إلى قسمين: لهجات بائدة، وتتمثل بالثمودية، والصفوية، والليحانية، والقسم الآخر هو اللهجات الباقية، ومن أشهرها قريش، وطيء، وهذيل، وثقيف، وغيرها، وتعد لهجة قريش أفصح اللهجات على الإطلاق.

وافترض العلماء أن اللغة السامية الأم تشعبت في تطورها إلى سامية شرقية وغربية، وخرج من رحم السامية الشرقية عدة لغات منقرضة الآن، مثل الأكادية والبابلية والآشورية، في حين تطورت السامية الغربية إلى فرعين كبيرين ما زالا على قيد الحياة، هما السامية الوسطى والجنوبية. وتكمُن المشكلة بالنسبة إلى اللغة العربية في تحديد موقعها من مجموعتي السامية الوسطى والجنوبية، ففي حين تُظهر تركيبة الفعل العربي شَبَهًا باللغات السامية الوسطى مثل العبرية، فإن عديدًا من خصائص نظام الأصوات وعمليات تكوين الكلمات في اللغة العربية تبدو أقرب إلى المجموعات الإثيوبية والعربية الجنوبية الحديثة، وتدَّعي كلٌّ من المجموعتين اللغويتين أن اللغة العربية تنتمي إليها.

اللغة السامية الجنوبية

يمتد من اللغة السامية الجنوبية فرعان، اللغة الجنوبية العربية الحديثة، واللغات الإثيوبية السامية، والأخيرة هي اللغات المستخدمة في إثيوبيا وإريتريا. وقد تطورت اللغات الإثيوبية السامية على أرض إثيوبيا بسبب أشكال الكلام الخاصة بالمهاجرين الساميين من جنوب الجزيرة العربية. ومن أشهرها اللغة المهرية أو الأمهرية. ويعيش قرابة 200 ألف شخص في جنوب شبه الجزيرة العربية، وجنوب وشرق اليمن، وغرب عُمان، وحدود جنوب المملكة العربية السعودية، وهؤلاء ليست العربية لغتهم الأم، بل لغات أخرى من السامية الجنوبية الحديثة. وتختلف هذه اللغات عن العربية اختلافًا كبيراً، لدرجة تجعل التواصل والفهم بين من يتحدثون اللغات العربية الجنوبية الحديثة، ومن يتكلمون العربية مستحيلاً، وتُظهر هذه اللغات سمات مشتركة عديدة مع اللغات السامية في إثيوبيا كذلك.

اللغة السامية الوسطى

تعد اللغة العبرية أشهر لغات هذه العائلة، وهي لغة تمتد جذورها في عمق التاريخ اليهودي، وتعود بعض نصوصها إلى أكثر من ألف سنة قبل الميلاد، واستمرت في العصور الوسطى كلغة مكتوبة لليهود المتعلمين، ولعبت دورًا في الشعر الإسباني اليهودي. وقد ربط عديد من الباحثين اللغة العربية بفرع السامية الوسطى، مما يجعلها أكثر قربًا من العبرية، في حين اختار غيرهم عرض اللغة العربية كواحدة من اللغات التي تشكل المجموعة السامية الجنوبية، وبالتالي تكون أقرب إلى الأمهرية (الإثيوبية) واللغات العربية الجنوبية، لكن المسألة ما تزال جدلية.

ويرجع آخرون موطن تلك اللغات إلى أفريقيا، ومنها انتقلت إلى الشرق الأوسط، ويأخذ آخرون بنظرية أن موطنها جنوبي فلسطين والبحر الأحمر وشمالاً سورية والعراق، مع ملاحظة تشترك فيها جمهرة الباحثين وهو وجود الأكادية في العراق بوصفها أقدم لغة مكتوبة، وأنها أكثر لغات هذه الأسرة قربًا إلى العربية منذ أكثر من 4000 سنة.

وفي السنوات الأخيرة أطلق توماس ل. تومسن الباحث الأمريكي في كتابه "التوراة في التاريخ" الصادر عام 1999م نظرية جديدة حول أصول اللغة العربية، حيث يرى تومسن: أننا بحاجة إلى دراسة الأسلاف في شمالي أفريقيا الناطقين باللغات السامية. فهؤلاء الأسلاف عاشوا في الصحراء الخضراء حتى أواخر الألفية السابعة، أي إلى وقت حلول الجفاف المتواصل الذي أنشأ الصحراء الكبرى، فأجبر المزارعين والرعاة هناك على الهجرة من قراهم إلى أراضي البربر غربًا إلى اتشاد ومناطق أخرى جنوباً وإلى وادي النيل شرقًا، وأخيراً إلى عبور النيل نحو فلسطين عبر سيناء، ومنها إلى وادي الرافدين فالجزيرة العربية.

ومع مطلع الخمسينيات بدأ الباحثون الألمان يكتشفون التماثلات الوثيقة بين الأفعال في اللغة الأكادية وفي بعض لغات شمالي أفريقيا، وهو ما يتضح في لغة البربر بالشمال الغربي وفي ليبيا أيضاً.

وفي ستينيات القرن الماضي أوضح المزيد من دراسة العائلات اللغوية أن سمات اللغات السامية المبكرة تتصل اتصالاً وثيقاً بعدد من اللغات الأفريقية، ليس البربرية والليبية فقط، بل والمصرية القديمة والقبطية اللاحقة المنطوقة في مصر حتى اليوم.

وبدأ المؤرخون اللسانيون مع أواخر الستينيات بالنظر إلى شمالي أفريقيا بدلاً من الجزيرة العربية في بحثهم عن المتغيرات التي قادت إلى نشوء اللغات السامية، بين المزارعين المستقرين في سورية وفلسطين، أولاً ثم في قلب وادي الرافدين. ولوحظ أن اللغات العربية والأكادية والسامية الغربية تمتلك مفردات مشتركة ذات صلة بالزراعة وثقافة الرعي والماشية، ومفردات من هذا النوع لا بد أنها ترجع إلى مرحلة ما سبقت انقسام السامية الأم إلى لهجات محلية. واستنتج علماء اللغة أن المتحدثين بالسامية المبكرة الأم لا يمكن أن يكونوا بدوًا من الجزيرة العربية، ولا بد أن يكونوا مزارعين مستقرين. وبما أن وادي الرافدين لم يشهد سوى مرحلة استيطان قصيرة جداً قبل العصر البرونزي، فقد أصبحت سورية وفلسطين من المناطق الواعدة أكثر من غيرها في الكشف عن أقدم فترات نشوء اللغة السامية الأم.

ولا زال الجدل دائرًا حتى اليوم حول أصل اللغة العربية، وتتعدد النظريات، ويحاول كل فريق أن يدلل على صحة رأيه، لكن حتى الآن لا يمكن القول بإثبات صحة نظرية بشكل كامل ومتفق عليه، ويبقى الزمن كفيلاً بحل غموض تلك المسألة، حيث يحاول علماء الآثار البحث عن الأدلة بين الأحجار والمعابد، والنقوش التي تخلفت عبر التاريخ، ويبقى علينا نحن العرب الحفاظ على تلك اللغة وتقدير أهميتها ومكانتها وتميزها، والعمل على عودتها إلى مكانتها التي تستحقها بدلاً مما نراه اليوم من استهانة واستخفاف بها، وضعف في مستوى وقدرات المتحدثين بها، وهجوم عليها من أهلها رغم كل ما تحمله من مزايا وخصائص. ويبقى قول حافظ إبراهيم واصفًا اللغة العربية حقيقة يترنّم بها كل محب للغة الضاد:

 


المراجع ◂  1. آية علي (2017). بحث في أصل اللغة العربية، منشور على موقع، https://manshoor.com┇2. محمد الأسعد.. أين نشأت لغتنا العربية وشقيقاتها؟ مجلة العربى، العدد (716)، ص: 96-98.┇3. د. بليل عبدالكريم (23-1-2011)، "أصل اللغة"، www.alukah.net، اطّلع عليه بتاريخ 10-7-2018.┇4. د. عبدالعزيز بن سعد الدغيثر، "نشأة اللغة العربية وتطورها وثباتها أمام التحديات"، www.saaid.net، اطّلع عليه بتاريخ 10-7-2018.┇5. محمد مروان (2017). من أين أتت اللغة العربية؟http://mawdoo3.com

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها