الفلسفة العبثية.. سوء الفهم المُتعمّد

مينا ناجي

 

الصورة الشائعة

أول ما يلاحظه المرء حين ينظر إلى الفهم، أو لنكن أكثر دقَّة "سوء فهم"، المتداول لفلسفة كامو "العبثية"، سواء داخل منشورات الصفحات الأدبية والفلسفية على وسائل التواصل الاجتماعي، أو المقالات التي تتناوله، أو في الحوارات والتعليقات الحياتية التي تذكر اسمه، هي أنها، في معظم الحالات، تشير إلى "عدمية" كامو و"لا اكتراثية" مُرسو بطل "الغريب"، الذي يبدو في الوعي العام كمعادل أدبي لشخصية "جيفري" الشهيرة من فيلم "ليبوسكي الكبير".
 

في الاستعادات المستمرة لكامو وفلسفته نجد ما يمكن تلخيصه في الآتي:

الحياة عبثية بلا معنى، العبث هو الطابع الغالب على الأمور لا المنطق. لا تحاول فهم شيء لأنه لا يوجد شيء له معنى، الفعل الوحيد "المنطقي" هو الاستمتاع دون أي قيود أخلاقية أو مجتمعية، بجانب بالطبع الانتحار.



مسلسل "فارغو Fargo": نكتة رجل فرنسي

كمثال لكيفية تناول هذه "السوداوية الفرنسية" داخل الثقافة الشعبية، يمكننا تناول مسلسل "فارغو" الأمريكي ذائع الصيت، فهناك خط مخصَّص داخل موسمه الثاني (الذي عُرِض عام 2015) يتعاطى مع فلسفة كامو؛ نورين هي كاشير في محل جزارة في مقتبل عمرها، تقرأ لكامو خلف الكاونتر أثناء عملها، ونشاهد في الحلقة الخامسة حوارًا دالاً بينها وزميلها "إد" مساعد الجزار:

نورين: شخصيًا لستُ متأكدة لما تفعل كل هذا المجهود.

إد: سأشتري المحل، وأصبح رئيس نفسي.

نورين: و؟

إد: وماذا؟ هذا هو الحلم الأمريكي

نورين: ما النقطة؟ ستموت على أيّة حال.

إد: ماذا تعنين؟

نورين: يقول كامو معرفتنا أننا سوف نموت تجعل الحياة نكتة.

إد: ماذا إذًا؟ فقط.. فقط تستلمين؟

نورين: يمكنك قتل نفسك، وتنهي الأمر.

إد: حسنًا، هذا.. هذا ليس.. أعني، هيا، عليكِ.. عليكِ المحاولة.

نورين: لا.

إد: تذهبين إلى المدرسة، تحصلين على عمل، تنشئين أسرة.

نورين: تموت.

إد: هذا.. هل تسمحين بالتوقف عن قول ذلك؟

لا نعرف كمشاهدين إذا كان هذا فهم الشخصية (فتاة مُراهقة في بلدة بسيطة)، أم فهم صُنَّاع العمل لكامو. لا يبدو ذلك واضحًا. في الحلقة التالية نشاهد حوارًا آخر يذكر كتاب كامو بين نفس الشخصية "إد"، وشخصية الشرطي "لو":

إد: هذا كله جنوني تمامًا. ولا أستطيع التوقف عن التفكير في هذا الكتاب. كتاب نورين. إنه، كما لو كان، ملتصقًا برأسي.

لو: ماذا؟ أيّة كتاب؟

إد: إنه عن هذا الرجل الذي، كل يوم، يدفع هذه الصخرة إلى أعلى هذه التلّة. مثل جلمود كبير. ثم كل ليلة تسقط مرّة أخرى لأسفل. لكنه لا يتوقف. تعرف، إنه فقط، إنه يستمر. ويستيقظ كل يوم ويبدأ في الدفع.. بهذا أظن أنني، أنني أقول لا يهم بم يقذفونني، سوف أتعامل مع ما يخصني.

يظهر كامو بنفسه في الحلقة الثامنة، كطيف في خيال زوجة "إد" يشبهه إلى حد كبير، ليقول لها من ضمن كلامه: "فكري أو كوني، لا يمكنك فعل الاثنين معًا." وفي الحلقة العاشرة والأخيرة، يبدأ مشهد بكتاب "أسطورة سيزيف" بين يدي نورين، أمام زوجة "لو" المصابة بالسرطان في مرحلة متقدمة، على سريرها وفي حضنها طفلتها. ويدور الحوار التالي بينهما:

نورين: يقول كامو معرفتنا أننا سنموت تجعل الحياة عبثية.

بتسي: حسنًا، لا أعرف من هذا. لكني أظن أنه ليس لديه طفلة في السادسة من عمرها.

نورين: إنه فرنسي.

بتسي: آخ، لا يهمني إذا كان من المريخ. لا أحد عنده أي منطق سيقول شيئًا بهذا الحمق. نحن نوضع على هذه الأرض من أجل تنفيذ مهمة، وكل واحد فينا يحصل على الوقت الذي يحصل عليه لتنفيذها. وحين تنتهي هذه الحياة وتقفين أمام الرب... حسنًا، حاولي أن تخبريه أن الأمر كله كان نكتة رجل فرنسي.

يوحي النظر بشكل عام على العمل أن هذا الفهم أقرب إلى أن يكون الفهم الخاص بصنَّاع العمل أنفسهم. يعضد هذا الترجيح غياب أي إشارة في العمل إلى فهم آخر لكامو، سوى الفهم الشائع والمتداول له في الثقافة الشعبية، بجانب الخط "العبثي" في الموسم نفسه، الذي يستعرض وسط "قصة حقيقية" ظهورات لكائنات فضائية، دون أي تفسير أو معنى لها. العمل يقدم كامو بصفته سوداوياً فرنسياً له نظرة عدمية للحياة تدعو للانتحار.. لكن هل كان كامو هكذا فعلاً؟


معنى "العبثي"

في "أسطورة سيزيف" الذي يعتبر إنجيل الفلسفة العبثية، وبيان فلسفة كامو المبكرة (لقد صدر كتاب "أسطورة سيزيف" وهو في التاسعة والعشرين من عمره!)، يأخذ "العبثي" معنيين؛ العبثي كواقع حال، وكوعي مُدرك بشكل واضح هذا الحال: الشخص "العبثي" هو من لا يتردد في الوصول إلى الاستنتاجات الحَتمية من "حالة العبثية" الموجودة في الحياة. هذا الازدواج في المعنى هو نفسه حين نقول "الفراعنة" على البشر الذين عاشوا في عصور الحكم الفرعوني، وعلى الحكّام أنفسهم.

أما معنى "العبثي" فهو ببساطة "المتناقض"، مثلما نقول "الأمر عبثي!" حين نواجه موقفاً لا تتناسب فيه القصدية مع الواقع. يعطي كامو مثالاً بمن يواجه حاملي مسدسات بسيف في يده: هو يقصد أن يحمي نفسه وينتصر عليهم، لكن هذا يتناقض مع الواقع بأنه مستحيل أن يحقق ذلك.

بمعنى فلسفي "العبثي" هو المسافة -غير القابلة للتجاوز- بين رغبات الأساسية للإنسان والوجود؛ يطمح الإنسان مثلاً أن يكون خالدًا لكنه مع ذلك كائن فان، ولا يوجد حل لهذا التناقض. وفق كلمات كامو العبثي هو: "هذا الطلاق بين العقل الذي يرغب والعالم الذي يُحبِط، حنيني إلى الوِحدة، هذا الكون المتفرّق، والتناقض الذي يربطهما سويًا".

لذلك لا يقبع "العبثي" في الإنسان أو في العالم بحد ذاتهما، بل في حضورهما معًا. يتجلى هذا "العبثي" في الصدفة، والموت وفي عدم قدرة الإنسان على القبض على الحقيقة نظرًا لخفائها الأساسي، ولا نهائية تعدد المعلومات المطروحة للوصول إليها. يستعرض كامو في الكتاب كيف إن "العادة" أي الحياة الروتينية المكرَّرة، ووسائل "التلهي" بأشياء نفعلها أو نعتقدها كي نشتَّت أنفسنا، تغطي "عَدَم الإنسان، ضياعه، عدم ملائمته، عجزه وفراغه".

يوافق كامو على قول الوجوديين بأنه لا يوجد معنى متأصل للحياة، لكنه ينتقد فكرة استطاعة الإنسان للوصول إلى (أو بالأحرى خلق) معنى: "لا أعرف إذا كان هذا العالم له معنى يتجاوزه، لكني أعرف أني لا أعرف هذا المعنى، ومن المستحيل لي في هذه اللحظة أن أعرفه". ما الذي يقدمه كامو، إذًا، بديلاً عن طرح حل الوجودية الذي كان شائعًا في عصره؟
 

حل كامو.. أو المراحل الثلاثة


يمكننا تقديم طرح حل كامو في برنامج من ثلاث مراحل: الاكتشاف – التمرد – القبول.

المرحلة الأولى "الاكتشاف": وهي تحدث على مستوى الوعي، حيث يتجلى للإنسان "العبثي" في الحياة، ويصبح هناك "وعي مُعذَّب بغير الإنساني"، عبر تأمل وإدراك هذا البعد العبثي وانتفاء المعنى.
المرحلة الثانية "التمرُّد"، ميتافيزيقيًا وحياتيًا معًا: تمرُّد ميتافيزيقي، ضد عدم وضوح الرؤية والفكر، يمدّ هذا الوعي الذي حدث في لحظة الكشف السابقة إلى كامل التجربة الإنسانيّة، وذلك عبر الانتباه المستمر من قِبل الإنسان لنفسه ولوضعه، و"التيقّن من القَدَر الساحق، دون انسحاب"، و"الهروب من نوم الحياة اليومية". يصف كامو هنا حالة أقرب إلى الغريزية، حالة حيوانية حيث يوجد "لا مبالاة تجاه المستقبل والرغبة في استفاذ كل ما هو مُعطى". وهذه المرحلة أيضًا تمرُّد حياتي، فهي، عمليًا، فترة تراجع عن الحياة الروتينيّة اليومية وأخذ مسافة منها لمجابهة النفس والوجود، حتى يصل الإنسان بذلك إلى ما أسماه كامو "الحرية العبثيّة"، وهي مفتتح المرحلة التالية والأخيرة.
المرحلة الثالثة "القبول": فيها "يبصر الإنسان العبثي بالتالي كونًا حارقًا وشديد البرودة، شفاف ومحدود، حيث لا شيء ممكن لكن كل شيء مُعطى وما خارجه أنقاض وعدم. يمكنه إذًا أن يقرّر أن يقبل هذا الكون ويستمد منه عزيمته". هذه المرحلة هي قبول فقدان المعنى الأليم للحياة، وقبول خيرها وشرها الحتميين، وذلك عبر الابتهاج بما تقدمه الحياة بشكل فعَّال "الإنسان العبثي يقول "نعم" ويصبح جهده من هذه اللحظة بلا انقطاع". ففي هذا الاتحاد مع الطبيعة كدح من الإنسان ليصل إلى الكرامة والسعادة. أما نجاح الإنسان في استمداد "عزيمته" من الكون، بعيداً عن الأذى والصدفة والموت، فهي مسألة حظ بالنسبة لكامو، و"على الواحد فقط أن يقدر على الرضا بهذا".

يمكننا بتحليل خطاب كامو أن ندرك أنه طبيعاني Naturalist، حيث "قبوله" هو فعل طبيعي للاندماج في الكون أو الطبيعة، التي هي مُسكِرة وخطرة معًا. هناك فيض من الأمثلة لهذا الأمر في الكتاب: "يتراجع الدليل المجرَّد أمام شِعر الأشكال والألوان". و"الرجل العبثي، حين يتأمل عذابه، يُسكِت كل الأوثان. في الكون الذي رجع فجأة إلى صمته، تصعد الأصوات الصغيرة الهائمة التي لا تُحصى للأرض. نداءات، دعوات سرية ولا واعية من كل الوجوه".
 

وفرة الأمثلة هذه موجودة أيضًا في روايته الأولى "الموتُ السّعيدُ" التي لم تُنشر إلا بعد وفاته، والتي كتبها قبل "أسطورة سيزيف" ببضع سنوات، ومنها المقطع التالي حين دخل بطل الرواية المرحلة الثالثة، وكان الطقس ممطرًا وكئيبًا حوله، لكنه مع ذلك: "أراد أن يسحق نفسه في هذا الطين، أن يعاود دخول الأرض بغمر نفسه في هذا الحصى، أن يقف على هذا السطح اللامحدود الذي يغطيه الوحل، ممددًا ذراعيه إلى اسفنجة السماء المُسخَمة، كما لو كان يواجه الرمز الفائق واليائس للحياة نفسها، ليؤكد تضامنه مع العالم في أسوأ حالاته، ليعلن نفسه شريك الحياة حتى في جحودها ووسخها". (الجزء الثاني، الفصل الثاني).
 

سوء فهم متعمَّد؟

نرى، إذًا، أن قراءة كامو توضّح بشكل جلي بُعد فلسفته العبثية عمّا يشار إليه حين التحدث عنها أو باسمها. وأنها أبعد ما تكون عن كونها عدمية مُستسلمة تدعو للانتحار.

في التمهيد الذي كتبه كامو لـ"أسطورة سيزيف" عام 1955، أي بعد صدوره بثلاث عشرة سنة، يقول بشكل واضح عن سؤال "الانتحار" المركزي للكتاب: "الإجابة، المتضمنة أو الظاهرة خلال المفارقات التي يغطيها، هي هذا: حتى لو كان لا يؤمن المرء بالله، الانتحار غير مشروع (...)، هذا الكتاب يعلن أنه حتى داخل حدود العدمية، من الممكن إيجاد الوسائل للمضي في تجاوزها (...)، الكتاب يلخص نفسه بالنسبة لي كدعوة صريحة للحياة والإبداع، في وسط قلب الصحراء".

يبدو أن سوء الفهم هذا قد صاحب الكتاب منذ نشره؛ لأننا نراه يكتب في صدارته: "لكنه من المفيد التنويه في نفس الوقت أن العبثي، حتى الآن، مأخوذًا كنتيجة، يعتبر في هذه المقالة كنقطة بداية. سيوجد هنا فقط توصيف، في حالة نقية، لمرض فكري. لا ميتافيزيقا، لا معتقد متضمن فيه للحظة. هذه هي حدود والانحياز الوحيد لهذا الكتاب. بعض الخبرات الشخصية دفعتني لتوضيح هذا".

لكن حالة "سوء الفهم" الحالية تتمايز عن سابقتها التي تزامنت مع ظهور كتابات كامو، فقد سمح له الوقت أن يوضّح وجهة نظره وفلسفته، بل أن يحوز على جائزة نوبل للآداب ليكون ثاني أصغر كاتب ينالها في تاريخها. كما أن مجمل تاريخ انخراط كامو كرمز في عصر الالتزام الوجودي والسياسي، وانتقاله إلى المستوى الجمعي-السياسي في مراحله الفكرية التالية، يجعل من حضوره في الوعي الجمعي الحالي، لو نقدر أن نقول، عبثيًا!

ما هو شائع حاليًا عن فلسفة كامو هو الجانب السلبي -بمعنى النقدي والمفكِّك- منها، الذي يكشف "عبثيّة" الحياة ويواجه الإنسان بواقعه وزيف "حياته اليومي" الروتينية التي توارثها بلا تفكير أو قرار، دون أي ذكر للجانب الإيجابي والملتزم من فلسفته "المرحلتين الثانية والثالثة".

بغض النظر عن صحة ودقة رؤية كامو العبثيّة -والتي قال هو نفسه أنه تراجع عن بعض جوانبها بعد ذلك- يحق للواحد التساؤل، هل سوء الفهم الحالي هذا -الذي يكاد يكون عكس ما يريد إيصاله من فلسفته- مُتعمَّد؟

التعمُّد ليس الكلمة الصحيحة بالطبع، لكن يمكننا القول إنه سوء فهم "مُمنهَج"، ناتج عن امتصاص إيديولوجيا "ما بعد الحداثة" المهيمنة لكل ما يناسبها، مُهذِّبة إيّاه، عبر وسائلها الخاصة، لكي ترسخ من عدميتها الاستهلاكيّة، وهو ما يمكن أن يفسر لنا لمَ يكثُر ذكر كامو و"عبثيته" في عصرنا الحالي.

يمكن لما بعد الحداثة تنفيذ ذلك عبر آلية الإحالات المبتورة، والاقتباسات المجتزأة عن سياقها. فثقافة "الاقتباسات" والملخصات السريعة في المنشورات الإلكترونية، عندها قدرة فائقة على الانتقائية للعناصر التي يشجعها المناخ العام. وبذلك يتحول كامو كفيلسوف فرنسي من أصل جزائري يسعى لتجاوز العدمية التي تفشَّت أثناء الحرب العالمية الثانية، ونزع مخالب الحياة اليومية الحديثة؛ كي يتحرر الإنسان المعاصر، ويعيش بعمق دون توهمات ومُشتِّتات، عبر الكدح والالتزام، إلى فيلسوف سوداوي عدمي يميل إليه المراهقون الذين يفشلون في إيجاد معنى لحياتهم في سياق سائل وقاس، لا يستطيع أن يتيح لهم معنى متماسك، رغم توفيره لظروف من المفترض أن تجعلهم يعيشون حياة رغيدة، وبمشاركة أقاويل مجتزأة له يشعرون بالتمايز، ويصنعون "صورةً" لإحساسهم العميق بالرغبة في التخلص من تلك الحياة التي يعانون في تناقضاتها الأليمة: معطف ثقيل، سيجارة في الفم، شعر ناعم، ووجه مكتئب.
 

التوليف الذكيّ

تواجه الإيديولوجيا الما بعد حداثيّة مشكلة في هذا الموقف، وهي أن تفشي عدميتها والتركيز على تلميع رغبات السوداوية والانتحار، يُضعِف زخم الإنتاج، والأهم، الاستهلاك. فلا يوجد أحد سوداوي عدمي يرغب في العمل أو "استهلاك" مباهج الحياة. ولذلك قامت ما بعد الحداثة بحل توليفي ذكي، يمكننا مشاهدة كيفية عمله في مسلسل "فارجو" الذي تم تناوله في أول المقال.

صنع المسلسل تضاد درامي بين "العبثية الفرنسيّة" و"الحُلم الأمريكي"، كما يتجلى في خط آخر يصل لذروته في خطبة الشرطي "لو" عن حادثة الحرب في الحلقة الأخيرة. قدّم المسلسل "الحُلم الأمريكي"، كما مُثَّل تاريخيًا بصفته إيمانًا بقيم كبرى، مُصاغًا في شكله السياسي في خطبة ريجان في الحلقة الخامسة، والذي سخر منه المسلسل بعدها (ما بعد الحداثة تحطم وتسخر من هذا الأمر بالذات)، ومجسدًا في الطموح الساذج والدامي للزوجين "إد" و"بيجي"، ثم انتقل بتطور وعي الشخصيات عبر أحداثه إلى "نسخة مطوَّرة" من "الحلم الأمريكي" واعية على عبثية الحياة (الصدفة، مرض السرطان، الموت المفاجئ، كائنات فضائيّة... إلخ)، ليصبح في النهاية شبيهًا بالمرحلة الثالثة من فلسفة كامو.

تحدث هذه القفزة إلى المرحلة الثالثة، تحديدًا، دون المرور على "التمرُّد"؛ أي التفكير المُعمَّق للوضع الإنساني: "فكري أو كوني، لا يمكنك فعل الاثنين معًا." كما قال شبح كامو في المسلسل (لأن ذلك قد يجعل الواحد يترك التزاماته المهنية والاجتماعية)، أو الاتحاد الداعم مع الطبيعة (المدن الحديثة هي انفصال جذري عن الطبيعة)، أو حتى "الحرية العبثية" التي تحدث عنها كامو الحقيقي. بل يصبح الإنسان من خلال "الحلم الأمريكي" في نسخته المعولمة الما بعد حداثية، فجأة، سيزيفًا مُعاصرًا، يتحرك بصخرته بلا كلل ولا أمل ولا سعادة إلى الأمام؛ لأنه "فقط يستمر. يستيقظ كل يوم ويبدأ في الدفع." كما تقول شخصية "إد"، ولأن "الصخرة التي ندفعها جميعًا كرجال، وندعوها حِملنا، هي في الحقيقة امتيازنا" كما يقول الشرطي "لو" في نهاية خطبته في الحلقة الأخيرة، في سياق تحمل الأعباء الأسرية، موجهًا كلامه لـ"بيجي" زوجة "إد" التي أرادت تفعيل ما يوازي المرحلة الثانية بهجر حياتها اليومية الجبرية والحياة وفق رغباتها الدفينة، لتؤذي وتَقتل في سبيل ذلك، قائلة لـ"لو" في نفس المشهد إنها أرادت فقط "أن تصبح شخصًا ما".

وبذلك يصبح مُدمرًا وخطيرًا لسيزيف الما بعد حداثي السعي نحو حياة عميقة، يكدح فيها وفق رغباته الخاصة ضمن الحدود المتاحة له، عليه فقط أن يمضي ويمضي في الحلقة المفرغة للإنتاج والاستهلاك، دون أي أوهام أو معتقدات كبرى تعطل سَير العمل العبثي لحياته التافهة المكرَّرة. هذه هي الطريقة التي يتم بها امتصاص ما هو "مفيد" عند كامو، مع تجاهل ونسيان ما هو جوهري وإيجابي في فكره، وفهمنا لهذا الأمر منفصل عن اتفاقنا أو اختلافنا معه.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها