بين الفرح بالإنجازات.. والخوف من النّهايات

ثَمـان تقنيات حرّرت البشر.. ودفعتهم لحافة الهاوية

طايع الديب


تمر كل الحقائق بثلاث مراحل؛ في المرحلة الأولى تُقابل بالسخرية، وفي الثانية تُعارض مُعارضةً عنيفة. أمّا في المرحلة الثالثة، فتُقبل كأنها بدهية مسلّم بها ".
 

بهذه العبارة لـ"مجهول"، يفتتح الأكاديمي والكاتب الأميركي ريتشارد إل كوريير Richard L. Currier، أستاذ علم الإنسان بجامعة مينيسوتا، كتابه "بلا قيود: تقنيات حرَّرت البشر ودفعتهم لحافة الهاوية"، الذي صدرت ترجمته العربية (ديسمبر/ كانون الأول 2020) عن "مؤسسة هنداوي" الثقافية بالقاهرة. والكتاب من ترجمة دينا عادل غراب، ومراجعة هاني فتحي سليمان.

يقول المؤلف: "كان هدفي من تأليف هذا الكتاب هو تحديد التحولات البيولوجية والثقافية الرئيسة، والتقنيات التي أفضت إليها، والتي وصل بها النوع الإنساني خطوة خطوة إلى حالة معيشية راقية في الوقت الحاضر، ولكنها محفوفة بالمخاطر". فعلى السبيل، يقول المؤلف، إن مخزون الأسلحة النووية الموجود في عالمنا اليوم، بحوزة تسع دول فقط، يوفر ما يعادل ثلاثاً وعشرين طِناً من المتفجرات لكل إنسان على وجه الأرض.

يُعيد "كوريير"، في كتابه الشيّق، اكتشاف ثمانية من أقدم الابتكارات، التي يسمّيها "تقنيّات"، كان من شأنها تحرير الجنس البشري طوال تاريخه الممتد لخمسة ملايين عاماً، من القيود التي سيطرت على جميع الكائنات الحية الأخرى.
ويتتبّع المؤلف على مدى فصول الكتاب، الصادرة ترجمته في ست وتسعين وثلاثمائة صفحة من القطع المتوسط، رحلة أسلافنا الأوائل وتطورهم عبر الزمن. تلك الرحلة الملحمية التي يختصرها الكاتب في ثمان تقنيات هي: اختراع الأدوات البدائية كالرماح والعصيّ، تسخير النار، استخدام الملابس وبناء الأكواخ، ظهور التواصُل بين البشر باستخدام الرموز الشفاهية والمدوّنة، نشأة الزراعة، إنشاء وسائل النقل الكبيرة مثل السفن العابرة للمحيطات والقارات في عصر الآلات البخارية، اكتشاف تقنية المحركات التي تعمل بالوقود بدل الاعتماد على القوة البدنية للجسد الإنساني وللدواب. أما آخر التقنيات الثماني، كما يعتقد المؤلف، فهو اكتشاف تقنية المعلومات الرقمية، التي جعلت بإمكان كل البشر الاتصال بعضهم ببعض في أي مكان على الكوكب الأرضي؛ في عصر الاتصالات والمعلومات الراهن.
 

نهاية التجوال.. بداية الحكمة

يقول المؤلف في مقدمة الكتاب: "على مدار خمسة ملايين سنة السابقة، غيّرت ثمان تقنيات العلاقة بين الجنس البشري والبيئة الطبيعية تغييراً بالغاً، محررةً إيّانا من قوى الطبيعة التي تحد حريات كل مجموعات الكائنات الحية الأخرى. وتدريجياً أحدثت كل من هذه التقنيات تحولاً، أو انسلاخاً كبيراً في حياة البشر؛ فطورت هذه التحولات بنية أجسامنا، ووسعت قدرات عقولنا، وأثمرت عن مجتمعات بشرية ليس لها مثيل في حجمها وقوّتها".
ويضيف: "لقد سيطر الجنس البشري في العصر الحديث على جميع بيئات الأرض الطبيعية تقريباً، وأحدث تحولاً جوهرياً في الكوكب بأسره، لتصبح الأرض وحدة إنتاج هائلة من أجل منفعته وحده. وأثناء هذا استولى الجنس البشري حديث التحرر من قيوده، على جزء كبير من البيئة الطبيعية، ولوّث تربة الأرض ومحيطاتها وغلافها الجوي، وجعل عالمنا على حافة كارثة".
ويتوقف "كوريير" بشكل خاص أمام اكتشاف الزراعة، معتبراً إيّاها واحدة من أهم الاكتشافات التي غيّرت وجه العالم، حيث يقول: "منذ عشرة آلاف عام، حرَّرتنا تقنية الزراعة من البحث الدائم عن الغذاء الذي يشغل اهتمام كل الأنواع الحيوانية. وفي أثناء ذلك لم نعُد مجبرين على التجوال بلا نهاية، الذي طالما كان مصيرنا حين كنا صيّادين وجامعي ثمار؛ فبدأنا نزرع غذاءنا، ونعيش في قرى، ونكدس كلاً من الثروة المادية والمعرفة والحكمة التي أورثناها إلى نسلنا".

التحولات السبعة الكبرى

يرى المؤلف أنه رغم ظهور ثورات عديدة واختفائها على امتداد التاريخ البشري، لم تمر البشرية إلا بسبعة تحولات رئيسة. سُميت بعض هذه التحولات "ثورات"، فكثيراً ما يُسمى التحول الخاص بالزراعة "ثورة العصر الحجري الحديث"، ويُعرَف التحول الخاص بالعلوم والصناعة على نحو شائع بـ"الثورة الصناعية".

وقعت التحوُّلات الثلاث الأولى، وفق الكاتب، منذ ملايين السنين فعلياً بين مجتمعات البشر الناشئة. وأدت هذه التحولات إلى صناعة أسلحة فتاكة، وتوسع السلوك الإنساني وتعزيزه، والتحكم في النار، وصناعة الملبس وبناء المسكن، واستحداث ذلك الابتكار الذي تفرد به البشر؛ وهو الأسرة النواة".

ومن ثم، حدثت التحولات الثلاث التالية منذ آلاف السنين، بين مجتمعات البشر الأحدث. وأدت هذه التحولات لاختراع اللغة، والتواصل بالرموز، ونشأة الهويات القبلية والعِرقية، واستئناس النباتات والحيوانات، وميلاد الحضارات الكبرى في وادي النيل وبلاد الرافدين، وتزامن ذلك مع حدوث زيادة ضخمة في سكان الأرض.

أمّا التحول السابع الذي أثمر عن الثورة الصناعية فوقع منذ عدة قرون، ولحسن الحظ تم توثيقه جيداً بفضل كم هائل من المصادر التاريخية. وعزز هذا التحول التقني قدرة البشر على إطعام ذريتهم وحمايتها بدرجة كبيرة، حتى إن الزيادة السكانية البشرية صارت الآن الخطر الأول المتربص ببيئة الأرض.

ويجري حالياً تحوّل ثامن، بدأته التقنية الرئيسة للاتصالات الرقمية؛ فلأول مرة في التاريخ الإنساني صار ممكناً لأي شخص على وجه الأرض أن يتواصل مع أي شخص آخر تقريباً على الكوكب، سريعاً وبتكلفة معقولة. وسيُحدث هذا التحول الأخير تغييراً كبيراً للمجتمعات البشرية في المستقبل القريب، بقدر ما تغيّر العالم بظهور تقنيات الماضي السبع الرئيسة.

العالم على المحك

"إن العالم مكان خطير للعيش فيه؛ ليس بسبب من يقترفون الشرور؛ وإنما بسبب أولئك الذين يرونهم من دون أن يحركوا ساكناً".

بهذه العبارة لعالم الرياضيات الأشهر في العالم ألبرت آينشتاين، يصدّر المؤلف الفصل قبل الأخير من كتابه، تحت عنوان تحذيري: "عالمنا على حافة الهاوية".

يعتبر الكاتب، في هذا الفصل، أن "مستقبل كوكبنا الفريد الذي ليس له بديلٌ تتهدّده الآن التقنيات نفسها التي جعلتنا بشراً، تهديداً خطيراً كما لم يحدث من قبل قط؛ فالكوارث البشرية من حروب وتلوث وتصحر وانقراض للأنواع وتغيُّر للمناخ، التي انبثقت كلها من براعتنا التقنية، جعلت العالم الحي على المحك".

ويسخر "كوريير" من الفكرة التي باتت شائعة في السنوات الأخيرة، حيث يُتصوَّر أن أجيال المستقبل من البشر سوف يهربون من مشكلات الأرض إلى الفضاء، لاستعمار كواكب أخرى باستخدام تقنيات متطورة. يقول: "لكن حتى إن تجاهلنا التحدي اللوجيستي الهائل المتمثل في إطلاق مئات آلاف الأطنان من المؤن والمعدات في الفضاء، وفكرنا فقط في الظروف البيئية التي نعلم بوجودها في كواكب أخرى، فلن يبدو هدف استعمار أجرام سماوية أخرى غير واقعي فحسب، بل متعذراً فعلياً بحكم الواقع".

ونظراً لـ"قسوة" بيئة الكواكب الأخرى في مجموعتنا الشمسية على كل أشكال الحياة المعروفة، يرشح المؤلف مكاناً آخر يبدو "مقبولاً" من وجهة نظره للاستيطان البشري، وهو قارة أنتاركتيكا القطبية. ولكن الناس عزفوا عن استيطانها؛ لأنها تفتقر -مع الأسف- إلى عنصر الرومانسية الخيالية الذي يلف الكوكب الأحمر.

ويستطرد الكاتب: "لا شك أنه سيكون حلاً عملياً أفضل بكثير -وأسهل- أن نستوطن قارة أنتاركتيكا الشاسعة غير المأهولة، حيث تتراوح درجات الحرارة بين 20 و50 تحت الصفر فحسب، وحيث الهواء قابل للتنفس وغني بالأكسجين، وحيث السماء زرقاء على الأقل".

أكبر مفارقة في التاريخ

يحذر "كوريير" من أن الدمار النووي الحراري يُعد أقرب الأخطار التي تهدد الأحياء العاقلة في تاريخ النوع البشري؛ فهناك الآن مئات القذائف الباليستية العابرة للقارات، والغواصات النووية، وقاذفات القنابل المزودة بآلاف الأسلحة الحرارية النووية، التي تستهدف المراكز السكانية الرئيسة في العالم بهدف محدد، ألا وهو القضاء عليها قضاءً مبرماً ونهائياً.

وفي تقدير الكاتب، أنه إذا استُخدمت هذه الأسلحة بالفعل من أجل الغرض المُحدد لها، فلا شك أنها ستقضي على الحضارة الإنسانية، وربما تُبيد النوع البشري، وقد تُبيد كل أشكال الأحياء الذكية الأخرى التي تشاركنا هذا الكوكب.

وبلغة الأرقام، يقول المؤلف إن تسع دول فقط تمتلك كل الأسلحة النووية في العالم اليوم، وهي: الولايات المتحدة وروسيا وبريطانيا وفرنسا، والصين والهند وباكستان، وإسرائيل وكوريا الشمالية. وتُمثل تلك الأسلحة مجتمعةً إجمالي القوة التفجيرية لـ160 مليار طن من مادة "تي إن تي"؛ أي بمعدَّل نحو 23 طنًّا من هذه المادة شديدة الانفجار لكل إنسان على كوكب الأرض.

ويشير إلى أن هذه الكمية المهولة هي "أكثر من كافية": لقتلك أنت وأفراد أسرتك، وتدمير منزلك، ودك مقر عملك، ومدارسك، والشركات التي تتعامل معها، وكل الأماكن التي ترتادها من أجل الطعام والترفيه والتأمل والعبادة. أي -باختصار- جعل العالم بتعبير الشاعر الإنجليزي الشهير ت. س. إليوت تلك "الأرض الخراب".

ويدعو الكاتب إلى أخذ التهديد النووي لعالمنا مأخذ الجد، قائلاً: "من المؤكد أن صناعة آلة الهلاك النووية، واستمرار صيانتها وتطويرها طوال السبعين سنة الماضية، كان أحد أفظع حالات الجنون الجماعي في تاريخ النوع الإنساني؛ فلم توجد قط طوال ملايين السنين التي سكن فيها البشر هذا الكوكب، تقنية قادرة على إلحاق القدر نفسه من الإبادة الذاتية الجماعية من على بُعد".

ويشير الكاتب إلى ما يعتبره أكبر مفارقة في تاريخ البشر، حيث تبنَّت البشرية آلة الهلاك كوسيلة "ضرورية" لتحقيق "الأمن" القومي، وقد عاش المجتمع الحديث طويلًا مع هذا الواقع الغريب حتى صار مُتراضياً بشكل غريب مع خطر الإبادة النووية. بيّد أن آلة الهلاك النووي واقع حقيقي؛ فهي نشطة وقابلة للعمل ومستعدَّة لتدمير البشرية جمعاء، وتستطيع أي قوة من قوى العالم النووية تفعيلها في غضون عدة دقائق.

من جانب آخر، يتطرق "كوريير" إلى أنه من بين جميع المخاطر التي أصبحت بيئة الأرض معرضة لها، والتي تشكلت في السنوات الأخيرة، ربما لم يُولّد أي منها قلقاً عالمياً عاماً، ودعوات عاجلة للعمل، بقدر خطر تغيّر المناخ.

ويستند هذا القلق، بحسب المؤلف، إلى حقيقتين بسيطتين. أولاً: أن هناك كميات متزايدة من ثاني أكسيد الكربون تنطلق في الغلاف الجوي، من احتراق الوقود الحفري في المجتمعات الصناعية الحديثة. وثانياً: يحتوي السجل الجيولوجي على أدلة وفيرة تؤكد أن الزيادة في تركيز ثاني أكسيد الكربون ارتبطت ارتباطاً وثيقاً بفترات طويلة من الاحترار في المناخات العالمية.
 

ويطل "كوريير" في ختام كتابه على المستقبل بنظرة مختلفة، وأكثر تفاؤلاً من نظرته التشاؤمية المسيطرة على الكتاب. إذ يقول في النهاية: "نحن الذين على قيد الحياة في القرن الحادي والعشرين نقف على قمة الإنجاز البشري، بينما نتأمل كارثة تلوح في الأفق من صنع أيدينا، إلاّ أن عبقرية الإنسانية لا تشي بأي علامة على اقتراب النهاية؛ فقد أظهرنا، عبر تاريخنا الطويل، قدرة خارقة على الارتقاء إلى مستوى التحديات التي تواجهنا، والتغلب على العقبات التي تقف في طريقنا".

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها