يُعدّ الأديب والناقد عبد الملك مرتاض علامة من علامات النقد الأدبي، منذ تشكيلاته الأولى حيث شهد تحولات الحركة النقدية بمناهجها ورؤاها، وأسهم مساهمة فعّالة في ترسيخ قيم نقدية في مشهدنا النقدي الأدبي العربي، سواء على مستوى التنظير النقدي الذي ارتهن إلى فهم ووعي نقدي للنظريات النقدية العربية الراسخة في تراثنا العربي، أو على مستوى التطبيق النقدي الذي شكل محوراً من محاور الفعل النقدي للدكتور مرتاض.
ويبدو واضحاً في مسيرة الدكتور مرتاض النقدية ذلك التنوع الكبير لاستعمالات المناهج النقدية السياقية، على غرار المنهج التاريخي والمنهج الاجتماعي، والمنهج النفسي، حيث وفق مرتاض في توظيف مختلف المناهج السياقية في كتاباته النقدية أو الأدبية وحتى الإبداعية، ما شكل إضافة واضحة في هذا المجال، وجعل من كتاباته النقدية وأسلوبه النقدي في تناول النظريات والنصوص بصمة فارقة في المشهد النقدي العربي.
الدكتور مرتاض المحاضر والمنظر والمحلل واللغوي ترك لنا إرثاً نقدياً وأدبياً ينوف عن الثمانين كتاباً، تكشف عن رؤاه العميقة، وتحليلاته الدقيقة، وفكره الثاقب.
قضى كل حياته متنسكاً في محراب العلم، والمعرفة، ولعب دوراً حاسماً في تألق الأدب، والفكر وازدهار المعرفة الأدبية، ويتميز الدكتور مرتاض بالموسوعية في الإنتاج، والنأي عن التخصص الدقيق في مجال دون آخر، من مجالات العلم، والثقافة، ولذلك فهو يشكل امتداداً لجيل من الرواد الكبار من بُناة النهضة الفكرية، والأدبية، والثقافية في الوطن العربي، كما يعد من أكثر النقاد اهتماماً باللغة العربية وتشكيلاتها الجمالية، سواء في أحاديثه أو في كتاباته المختلفة التي تتوزع على أكثر من جنس أدبي رواية وقصة ومسرحاً ونقداً. ويقول عن اللغة العربية: "اللغة العربية عندي هي لغة الجنة، والقرآن، لذا لا بد من إعطائها حقها، ومكانتها التي تستحقها".
الدكتور مرتاض ناقد متفرد في منهجيته، يرتهن إلى مقولة أستاذه أندري ميكائيل، وهي أن المنهج هو اللامنهج، ومن هنا لم يجد في المنهج التكاملي بغية النقد الحقيقي، مفنداً ما يدعيه أصحاب هذا المنهج من أنه يأخذ من كل المناهج ليقدم منهجاً جديداً متكاملاً، ليرى أن المنهج التكاملي منهج قاصر وحسير، من هنا كان يبحث مرتاض عن رؤية نقدية لا تسلك قيادها إلى منهجية خاصة؛ وإنما إلى منهجية مفتوحة على النص الأدبي، كما هي مفتوحة على مستويات تلك النصوص سواء المستوى البلاغي أو مستوى اللغة، أو مستوى الأسلوب وغيرها من المستويات، والتي كانت تمثلها دعوته الصريحة في "التحليل الجديد للشعر"، إلى تطبيق ما يسميه (المنهج المستوياتي). الذي يقوم على المعالجة التحليليّة باتّخاذ سبيل المستويات، فهو يرى أن غاية النقد هي فهْمُ نصّ أدبيّ ثمّ تفهيمه وتبيينُه للمتلقّين، والمنهج مجرّد إجراء لقراءة نصّ بطريقة جماليّة وفنّيّة، يجب أن يكون قابلاً للتجدّد والتعدّد أيضاً، والناقد الذي لا يجدّد أدواتِه النقديّةَ في كلّ كتابة بالنسبة إلى ما سبقَها، - كما يرى مرتاض - أولى له أن يصنَّف في التقليديّين، حتّى لو كان يزعم للناس أنّه من الحداثيّين حتّى النّخاع. فالنقد إبداع فنّيّ ينهض على جمال المعرفة، لكنّه يظلّ يَنشُد في مسيرته الأفضل والأمثل والأكملَ أبداً.
ولد مرتاض سنة: 1935م بتلمسان. حفِظ القرآن العظيم، وتعلّم مبادئ الفقه والنّحو في كُتّاب والده، التحق في عام 1954 بمعهد ابن باديس بقسنطينة؛ ثم التحق بجامعة القرويّين بفاس عام 1955، وبكلية الآداب جامعة الرباط سنة: 1960، وسجّل في كلية الحقوق والعلوم السياسية، ومعهد العلوم الاجتماعية، بجامعة الرباط، 1961، نال درجة دكتوراه الطّور الثالث في الآداب من جامعة الجزائر عام 1970؛ ثم نال سنة 1983 درجة دكتوراه الدّولة في الآداب بمرتبة الشّرف من جامعة السّوربون الثالثة بباريس.
من أهم أعماله، ودراساته النقدية: القصة في الأدب العربي القديم، نهضة الأدب العربي المعاصر في الجزائر، فن المقامات في الأدب العربي، العامّية الجزائرية وصلتها بالفصحى، النّص الأدبيّ من أين وإلى أين؟ الثقافة العربية في الجزائر بين التأثير والتأثّر، فنون النثر الأدبيّ في الجزائر، بنية الخطاب الشعريّ، القصّة الجزائرية المعاصرة. الجدل الثقافي بين المغرب والمشرق -الميثولوجيا عند العرب- تحليل الخطاب السردي - في نظرية الرواية، بحث في تقنيات السرد، الكتابة من موقع العَـدَم، السبع المعلَّقات، نظام الخطاب القرآني، التحليل السِّيمائي للخطاب الشعري، في نظرية النقد، نظرية القراءة، تأسيسات للنظرية العامة للقراءة الأدبية، الإسلام والقضايا المعاصرة، طلائع النور، لوحات من السيرة النبوية العطرة، قضايا الشعـريات، نظرية النص الأدبي، نظرية البلاغة، نظرية اللغة العربية، معجم موسوعي للمصطلحات الأنتربولوجية، متابعة لمصطلحات العَلاقات والعادات والتقاليد في المجتمع العربي منذ القدم، كما أنتج في المسرح مسرحتين "نساء للبيع، زواج بلا طلاق"، وفي الرواية العديد من الروايات منها: "رباعـية الدم والنار– ثنائية الخنازير ثنائية- ثلاثية الجزائر - الحَفر في تجاعيد الذاكرة (سيرة ذاتية). أما في القصة القصيرة فلديه مجموعة واحدة هي "هشيم الزمن".
هكذا رحل الدكتور عبد الملك مرتاض بصمت العارفين ليدخل في الغياب، لكنه الغياب الذي يزداد حضوراً كلما تقادم الزمن عليه، بما ترك من إرث إبداعي ونقدي أصيل.