امتزجت عمارتها بين الأصالة الإسلامية والإبداع البُرتغالي

الجَدِيدَة.. عروس الشواطئ المغربية وجوهرتها الأطلنتية

محمد العساوي



تعتبر مدينة الجَدِيدَة واحدة من أبرز الحواضر التاريخية في المغرب، بفعل مجموعة من العوامل والمؤهلات التي تزخر بها، سواء على المستوى الجغرافي أو الطبيعي أو الاقتصادي أو السياحي، الشيء الذي أهلها لتكون محطّ تنافس بين العديد من الحضارات والدول عبر مختلف الفترات التاريخية، فهذه المدينة تتوفر على موقع متميز منفتح على المحيط الأطلنتي من الجهة الغربية، وعلى مدينتَيِ آزمور والدار البيضاء من الشمال، وفي شرقها توجد مراكش، وتحدها جنوباً مدينة آسفي، أما من الناحية الديمغرافية فبلغ عدد سكانها حسب آخر إحصاء (2014م) حوالي مائتي ألف نسمة، ومعظمهم ينتمون لقبيلة دُكَّالَة العربية.
 

وقد حملت الجديدة العديد من الأسماء على مر التاريخ، حيث أطلق عليها الرومان اسم "رُوزِيبِيسْ"، وسميت أيضا بـ"البْرِيجَة" تحريفاً لاسم "برج الشَّيْخ"، وهو برج قديم كان يعتكف فيه أحد المتصوفة، ومع الاستعمار البرتغالي في بداية القرن (16م) حملت لأكثر من قرنين من الزمن أحد أشهر أسمائها "مَازَغَانْ"، وإبان القرن (18م) ونتيجة للتخريب والهدم الذي طالها بسبب خروج البرتغال منها، سُميت بـ"المَهْدُومَة".

وانطلاقاً من سنة (1832م) أمر السلطان العلوي عبد الرحمان بن هشام بإعادة إعمار المدينة من جديد، فتم ترميم المهدوم منها فبعثت من جديد، ودبت فيها الروح وأطلق عليها اسم "الجديدة" لجدتها آنذاك، غير أنه مع فرض نظام الحماية الفرنسية على المدينة سنة (1912م) عادت مرة أخرى لاسمها القديم "مازغان"، لكن عندما عانق المغرب استقلاله سنة (1956م) عادت مرة أخرى لاسم "الجديدة" الذي ظل يلازمها إلى يومنا هذا.

أما تاريخها فهو ممتد وعريق يرجعه المؤرخون وعلماء الآثار إلى غاية حقبة الإمبراطورية الرومانية، لكن الاهتمام بها بشكل كبير يعود للبرتغال انطلاقاً من سنة (1514م)، حيث وضعوا لبنتها الأولى بإنشائهم قصبتها التاريخية، وعدة منشآت مدنية وعسكرية، وبدأ إعمار المدينة من مختلف القبائل المجاورة، كما خضعت للاحتلال الإسباني ما بين (1580-1640م)، وعادت من جديد للبرتغال إلى أن استطاع السلطان العلوي سيدي محمد بن عبد الله بطردهم بشكل نهائي سنة (1769م).

وفي النصف الأول من القرن التاسع عشر الميلادي عرفتْ مدينة الجديدة ازدهاراً كبيراً مع السلطان عبد الرحمان بن هشام، الذي حاول أن يضفي عليها خصائص العمارة الإسلامية، مثل باقي المدن المغربية العريقة كفاس ومراكش والرباط... وفي المقابل استمرت المنشآت العمرانية البرتغالية في الوجود، وابتداء من سنة (1912م) دخلتْ المدينة تحت نظام الحماية الفرنسية، والتي لم تشهد خلالها تغيرات كبيرة، وبقيت على حالها إلى أن حصل المغرب على الاستقلال، لتدخل في مرحلة التأهيل والتطوير.

تزخر مدينة الجديدة بتراث ثقافي غني ومتنوع، ومنفتح على العديد من الحضارات والدول التي تعاقبت على حكمها، فعلى مستوى التراث المادي فتشتهر بالحي البرتغالي الذي يعد جوهرة معمارية تعود للقرن السادس عشر الميلادي، والتي تم تصنيفها كتراث إنساني عالمي من طرف منظمة اليونيسكو في سنة (2004م)، ويزخر هذا الحي بمِسْقَاة تُعرف محلياً بـ"صهريج مازغان"، بُنيت تحت الأرض على طول (35 متراً) وعرض (33 متراً)، وقد خُصصت في بداية الأمر لتخزين المؤن والأسلحة، وتحولت فيما بعد لتخزين مياه الأمطار التي كان يستفيد منها السكان.

كما تضم الجديدة القصر الأحمر الذي بُني ما بين (1925-1930م) من طرف المستثمر الإسباني (كليسُون)، إضافة إلى مجموعة من الأبواب التاريخية مثل الباب الرئيسي، والباب الصغير، وباب البحر... دون أن ننسى وجود العديد من المعالم الدينية التي تُبرز بجلاء تعايش مختلف الأجناس التي توافدت على المدينة.

أما إذا انتقلنا إلى التراث اللامادي، فتتميز الجديدة بكونها عاصمة لألعاب الفروسية في المغرب؛ إذ ينظم بها معرض دولي سنوي يتم فيه عرض أجود أصناف الخيول وكذا لباس وعدة الفرسان، وتقام فيه عروض للفروسية ويزوره العديد من السياح سواء من داخل المغرب أم من خارجه، ومن الموروثات اللامادية للجديدة كذلك نجد فن "العَيْطَة" باعتباره أحد أشهر الأنماط الغنائية الشعبية في المغرب.

وعلى مستوى التراث الطبيعي، فتزخر بالعديد من الشواطئ التي تستقطب الآلاف من الزوار والمصطافين، من أهمها شاطئ "سيدي بُوزِيد"، وشاطئ "الحَوْزِيَّة"، وشاطئ "مْرِيزِيقَة"... وهو ما يجعها وجهة سياحية مفضلة لدى أغلب عُشاق السياحة البحرية.

وإلى جانب المؤهلات المذكور سالفاً، فالجديدة هي بمثابة مسقط رأس العديد من الأسماء البارزة في مختلف الميادين، ففي الميدان الفكري أنجبت الفيلسوف وعالم المنطق "طه عبد الرحمان"، الذي بصم على أزيد من ثلاثين مؤلفاً من قبيل: "روح الحداثة"، "سؤال المنهج"... كما حاز على عدة جوائز محلية وعالمية مثل: جائزة المغرب الكبرى للعلوم الإنسانية (1988م)، وجائزة الإيسيسكو في الفكر الإسلامي والفلسفة (2006م).

كما أنجبت عالم الاجتماع والروائي "عبد الكبير الخَطيبي" (1938-2009م)، الذي أبدع بدوره في تأليف العديد من الأعمال مثل: "الرواية المغاربية"، "صور الأجنبي في الأدب الفرنسي"، "النقد المزدوج"... دون أن ننسى "إدريس الشرَايْبِي" (1926-2007م) الذي يعد أحد رواد الأدب الفرنكفوني المغاربي المكتوب باللغة الفرنسية، وله أيضاً العديد من الإصدارات، أهمها روايات: "الماضي البسيط"، "التيوس"، "الحضارة أمي".

ومن أعلامها كذلك المؤرخ "محمد بن شْرِيفَة" (1932-2018م)، الذي يلقب بعميد الباحثين في الدراسات الأندلسية، وقد تقلد عدة مناصب عليا، من ضمنها محافظ على الخزانة العامة بالرباط، كما ترك عدة كتب في التاريخ والتحقيق، مثل: "تاريخ الأمثال والأزجال في الأندلس والمغرب"، "الذَّيلُ والتكملة لكتابي الموصول والصِّلة".

وختاماً؛ يمكن القول بأن مدينة الجديدة بمؤهلاتها التاريخية والطبيعية، ورجالاتها المتألقين في مختلف الميادين، استطاعت أن تحفر لنفسها مكاناً متميزاً ضمن أشهر الحواضر المغربية، بل وأصبحت في الفترة الراهنة من الوجهات المفضلة للكثير من الزوار سواء من داخل الوطن أو من خارجه.

 


المراجع المعتمدة:
- الجمعية المغربية للتأليف والنشر، موسوعة معلمة المغرب، سلا: مطابع سلا، 1998م، الجزء. 09، مادة "الجديدة -تاريخ-"، محمد الشياظمي.
- محمد الراجي، "الحي البرتغالي بالجديدة ... معلمة تاريخية تتطلع إلى نفض الغبار"، مجلة هيسبريس الإلكترونية، المغرب، 5 نونبر 2018.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها