ابن بطوطة.. أمير الرحالة المسلمين

محمد العساوي

تعد الرحلة أحد أهم طرق التواصل والتعارف بين مختلف الشعوب والثقافات والأجناس على مرّ العصور، فقد عرفها الإنسان منذ ظهور سيدنا آدم عليه السلام، وفي هذا الإطار اعْتُبِر أدب الرحلات من أخصب الحقول التي برع فيها المسلمون في مختلف الحقب التاريخية، فهو من أهم المصادر الجغرافية والتّاريخية والاجتماعية، وحافل بالأبعاد الاثنوغرافية، وينقل لنا معلومات وحقائق من المشاهدة الحيَّة، وذلك بوصفه لطبائع الأمصار وعاداتهم وتقاليدهم، ناقلاً نمط وأسلوب عيشهم من خلال تسجيل الرَّحالة لكل ما وقعت عليه عينه، فتلك التجارب عَرَّفَتْه وعَرَّفَتنا على ثقافة عصره وطريقة تفكيره، كما كشفت لنا جوانب مختلفة من مظاهر حياته بمختلف أنواعها.
ومن أقدم نماذجه نجد رحلة ابن بَطُّوطة الموسومة بـ"تُحْفَة النُّظَّارْ في غَرائِبِ الأمْصَار وعَجَائِبِ الأسْفَارْ"، حيث استطاع هذا الرَّحَّالَة أن يأخذنا عبر سطور رحلته إلى أماكن ترحاله، ناقلاً آراءه وانطباعاته حول ما شاهده وما سمعه، كما تعتبر رحلته بمثابة صورة شاملة للعالم الإسلامي في القرن (الثامن الهجري/ الرابع عشر الميلادي)، نظراً لاتساع نطاقها المكاني والزماني، ولاشتمالها على شتى المعارف من تاريخ وجغرافيا وسياسة ومجتمع وفقه.

 


رسم توضيحي من كتاب ليون بينيت نُشر عام 1878 يُظهر ابن بطوطة (يمين) ودليله في مصر.


التعريف بشخصية ابن بطوطة

الاسم الكامل لابن بطوطة هو: "شمس الدين أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن محمد بن إبراهيم بن محمد بن إبراهيم بن يوسف اللواتي الطنجي"، ولد بمدينة طنجة المغربية في (17 رجب 703ه/ 25 فبراير 1304م)، وتوفي بها سنة (779ه/ 1377م)1، وهو ينحدر من أسرة ميسورة الحال، كانت تمتهن القضاء بالمغرب والأندلس على عهد الدولة المرينية، وقد أخذ ابن بطوطة العلوم الشرعية عن مشايخ بلده ونبغ بين أقرانه2، كما كان حافظاً للقرآن الكريم وعلى معرفة بعلوم الدين، ودَرسَ علوم اللغة العربية على يد والده الذي كان أمله أن يصبح فقيهاً أو قاضياً يسانده ويخلفه من بعده، إلا أنه آثر خوض مغامرة لم يقدم عليها أحد من قبله في عصره، وهو شد عصا الترحال ليمضي نحو المجهول، نحو طريق شاق وطويل غير مكترث لما سيلقاه من متاعب وأهوال3.

وكان قد تولى ابن بطوطة القضاء وهو في مقتبل العمر، إذ عُيِّنَ قاضياً لأول مرة في الرَّكب المتجه إلى الحجاز وكان ذلك في مدينة تونس، كما تولاه في العديد من المناطق والبلدان التي زارها من ذلك مدينة دلهي بالهند، وشغل بها هذا المنصب خمس سنوات، وخلالها تلقى الحظوة لدى سلطانها، وترأس وفداً ذاهباً إلى الصين بأمر من السلطان وبعث معه هدية لملكها، ومن خلال هذه المهمة بَيَّن لنا مكانة القضاء في بعض البلدان، فعلى سبيل المثال في بلاد الأتراك كانت ثاني طبقة مُقربة من السلاطين4.

إن المعلومات الشخصية لابن بطوطة مُستقاة من رحلته، أي أن سيرته الذاتية مأخوذة من رحلته بحد ذاتها، فبعد عودتنا إلى مختلف المصادر والمراجع، لم نجدها تخرج عن نطاق ما ذكره في رحلته، فكتب التراجم لم تُعط حقه في الوصف سواء هو أو عائلته، فالمعلومات التي تتعلق به جد محدودة من ذلك ما ورد في كتاب "الإحاطة في أخبار غرناطة" للسان الدين ابن الخطيب، حيث أوجز حياته في بضعة أسطر، مقارنة بالرحالة "ابن جُبَيْر" الذي أفرد له تسع صفحات5.

كما أن رحلته تبوئه المرتبة الأولى بين الرحالة المسلمين على الإطلاق، ولا وجه للمقارنة بينه وبين معاصره الرحالة الإيطالي "ماركو بولو" الذي ذهب من البندقية متجهاً إلى الصين حيث أقام ستة عشر سنة في ضيافة الإمبراطور المغولي "كُوبِيلاَيْ خَان" حفيد "جنكيزخان"، ثم عاد إلى بلاده عن طريق البحر، فابن بطوطة تفوق عليه بكثرة البلاد التي زارها وأقام بها، وبطول المدة التي قضاها في غيبته، وتفوق عليه بشيء آخر، وهو أنه مسلم استطاع أن يمتزج مع سكان البلدان التي زارها، إذ أكثرهم مسلمون واختلط بهم عن طريق المصاهرة والوظائف التي تقلدها، والاتصالات المختلفة التي أقامها مع أعيانها وعلمائها6.

السياق العام للرحلة

جاب ابن بطوطة الأرض شرقاً وغرباً (آسيا، وأوروبا، وإفريقيا)، فقطع مسافة لم يقطعها سائح في العصور الوسطى، حيث قُدِّرت بنحو مائة وعشرين ألف كلم، وفي مصادر أخرى مائة وخمسة وسبعون ألف كلم، وقد قضى ما يقرب من تسعة وعشرين عاماً في رحلاته الثلاث (725 – 754ه)7، وبهذا تكون قد دامت أكثر من ربع قرن، وفي عصر افتقد لوسائل النقل التي لم تتعد السير والركوب على ظهور الدواب، أو متون السفر.

دوافع الرحلة

لقد أجمع جل المؤرخين والدارسين لرحلة ابن بطوطة، على أنها انطلقت بدوافع متعدد، وهي كالآتي:
1- الرغبة في أداء فريضة الحج وزيارة الأماكن المقدسة: ويظهر ذلك جلياً في بداية رحلته إذ نجده يقول: "وكان خروجي من طنجة مسقط رأسي في يوم الخميس الثاني من شهر الله رجب عام خمسة وعشرين وسبعمائة، معتمداً حج بيت الله وزيارة قبر الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام...".
2- عشق ابن بطوطة للسفر منذ الصغر ورغبته في اكتشاف المجهول: ما حبب ابن بطوطة في السفر تلك الكتب التي تداولها العرب، وهذه الأخيرة تضمنت العديد من أخبار البلدان ومعالمها مثل: كتاب "المسالك والممالك" لابن خرداذبة، و"مسالك الممالك" للإصطخري.
3- حب المعرفة والرغبة في العلم وحرصه على لقاء المشايخ: عزم ابن بطوطة على إكمال دراسته في طريقه بحكم خروجه في سن مبكر، فحرص أن يتعلم المزيد عن ممارسة الشريعة في أنحاء بلاد العالم الإسلامي، وأن يكتسب معارفه من منبعها ومصدرها الأصلي، خاصة فيما يتعلق بأمور الدين كمكة المكرمة والمدينة المنورة، ومن ثمة بغداد التي كانت بالنسبة للعلماء والفقهاء مصدر العلوم لتوفرها على أكبر المكتبات والكتب8.

مسار الرحلة

انطلق ابن بطوطة في رحلته الطويلة ابتداء من ثاني رجب عام (725ه/ 13 يونيو 1325م)، فخرج من مدينة طنجة قاصداً مدينة تلمسان ومنها إلى مليانة، فإلى مدينة الجزائر، فبجاية فقسنطينة، فبونة، فتونس، فسوسة، فصفاقس، فقابس، ثم طرابلس، ووصل بعدها إلى الإسكندرية التي يطنب في وصفها، وبعد ذلك إلى القاهرة التي يسميها بـ"مدينة مصر" واصفاً إياها بـ"أم البلاد، وقرارة فرعون ذي الأوتاد، ذات الأقاليم العريضة، والبلاد الأريضة".
وانتقل بعد ذلك إلى الجنوب في أعالي النيل، فزار بلاد الصعيد وبعض المدن مثل: البهنسا ومنفلوط وأسيوط وإخميم، وتنتهي رحلته هنالك في عيذاب التي يقول حولها: "مدينة كبيرة كثيرة الحوت واللبن"، واتجه بعد ذلك إلى الشام فمر بفلسطين، حيث زار مدينة الخليل والقدس التي وصف معالمها الدينية، ووصل إلى لبنان فزار مدينة صوّر، فصيدا، فبيروت، فطرابلس، فحمص، فحماة، فحلب التي أفاض وصفها، ثم تحدث عن بلاد النصيريين ومدينة اللاذقية، ليصل إلى مدينة دمشق.
ومن الشام اتجه إلى المدينة المنورة، فدخل "الحرم الشريف" وخصص عدة صفحات لوصف معالمها ومزاراتها، واتجه بعد ذلك إلى مكة المكرمة التي أفاض أيضاً في الحديث عنها، واصفاً المسجد الحرام والكعبة وكسوتها والصفا والمروة وعرفة.
وفي (20 ذي الحجة عام 726ه/ 17 نوفمبر 1326م)، غادر ابن بطوطة مكة، متجهاً نحو العراق، حيث بدأ بزيارة مدينة النجف، ثم واسط، فالبصرة، ومن هناك توغل في بلاد فارس، فزار إقليم خوزستان، وفارس، حيث وقف طويلاً على مدينة أصفهان، ثم اتجه إلى شيراز التي وصفها بـ"مدينة أصيلة البناء، فسيحة الأرجاء، شهيرة الذكر منيفة القدر"، وبعد ذلك عاد أدراجه إلى العراق، فمر على الكوفة، ثم وصل إلى بغداد، وتحدث عن الخراب الذي أصابها، ووصف بعض آثارها كالمساجد وقبور الخلفاء والصالحين، قبل أن يتجه إلى الموصل.

واستقر بعد ذلك طوال ثلاث سنوات بالبقاع المقدسة من عام (727 إلى 730ه/ 1327 – 1330م)، وتجول في البحر الأحمر وزار اليمن، حيث أقام في ضيافة سلطانها وشاهد مدنها مثل: صنعاء وعدن وزيلع، ثم اتجه إلى الساحل الشرقي لإفريقيا، فزار مقديشو، وقد نزل أيضاً في ضيافة سلطانها، كما زار مراسي أخرى في إفريقيا الشرقية، ثم عاد أدراجه إلى البقاع المقدسة عن طريق عمان والخليج العربي فأدى حجة أخرى عام (732ه/ 1332م).
بعد ذلك قام برحلة ثانية إلى مصر فسوريا فآسيا الصغرى، حيث انتشرت الإمارات التركية في عدد من جهاتها وتقلصت رقعة الدولة البيزنطية، ووصل في تجواله إلى بلاد القفجق (Cosaques)، وبلاد القرم (Crimée) والبلغار وتجول في بلاد التتار، وزار القسطنطينية، عاصمة الإمبراطورية البيزنطية، واستطاع أن يحظى بمقابلة الإمبراطور"نكفور"، ثم اتجه بعد ذلك إلى بلاد خوارزم، وانتقل إلى ما وراء النهر فزار بخارى، وتحدث عن خرابها على يد التتار، كما زار أفغانستان.
وفي فاتح محرم عام (734ه/ 12 سبتمبر 1333م)، وصل إلى الهند وأقام بدلهي إلى غاية سنة (743ه/ 1342م)، أي أنه أقام بها تسع سنوات، وتوسع في ذكر معالمها وغرائبها، فوصفها بأنها "مدينة كبيرة الساحة، كثيرة العمارة"، وأفاض في وصف مسجدها المتميز بكبره وهندسته ومواد بنائه.
وزار بعد ذلك عدة جهات أخرى في الجنوب الشرقي لآسيا مثل جزر المالديف وسيلان والبنغال وأسام وسمارة، ثم وصل إلى الصين، وكانت أول مدينة نزل بها هي ميناء الزيتون، وزار مدينة شوان شوفو، وقد خرج بانطباعات مهمة عن تلك البلاد.
وفي محرم عام (748ه/ أبريل–ماي 1348م)، خرج من الصين واتجه إلى سوماطرة، ثم انتقل بعدها إلى ملابار، وكان في طريق العودة من رحلته الطويلة، حيث مر بالخليج العربي وزار بغداد مرة أخرى، ثم سوريا، ثم مصر وحج مرة أخرى، وأخذ الطريق من جديد ماراً بمصر، فالإسكندرية، فتونس، فجزيرة سردينيا، فالجزائر، فغرناطة، ففاس، وكان ذلك في سنة (750ه/ 1350م).

لكن ابن بطوطة لم يطل به الاستقرار أكثر من سنتين ونيف حتى اشتاق للرحلة من جديد، فخرج في محرم عام (753ه/ فبراير 1352م)، من سجلماسة رفقة قافلة، فقطع الصحراء وزار الأفارقة وملوكهم ورجالهم ودرس عاداتهم، ورجع في السنة الموالية إلى سجلماسة، وبذلك انتهت رحلات ابن بطوطة التي دامت تسعة وعشرين سنة9.


الهوامش
1. عبد الرحمن حميدة: "أعلام الجغرافيين العرب، مقتطفات من آثارهم"، دار الفكر، دمشق، ط.1، 1984م، ص:559.
2. علي إبراهيم الكردي: "الرُّحَّل في المغرب والأندلس"، مطابع الهيئة السورية للكتاب، سوريا، دون طبعة، 2013م، ص: 66.
3. منصورية بن عبد الله ثالث: "صورة المرأة في رحلة ابن بطوطة"، أطروحة جامعية لنيل شهادة الدكتوراه في الأدب الشعبي، إشراف الدكتور: شعيب مقنونيف، جامعة أبي بكر بلقايد، كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية، قسم التاريخ، تلمسان، الجزائر، السنة الجامعية: 2016/2017م، ص: 67.
4. المرجع نفسه، ص:71.
5. لسان الدين بن الخطيب: "الإحاطة في أخبار غرناطة"، تحقيق: محمد بن عبد الله عنان، مج.1، مكتبة الخانجي، القاهرة، مصر، ط.1، 1974م، ص:230-239.
6. الجمعية المغربية للتأليف والنشر، موسوعة معلمة المغرب، مطابع سلا، المغرب، 1991م، الجزء. 04، مادة "ابن بطوطة"، محمد زنيبر، ص: 1268.
7. فهمي توفيق محمد مقبل: "مآثر العرب المسلمين على الحضارة الأوربية: الفكر الجغرافي نموذجاً"، جامعة البترا، 2009م، ص: 37.
8. منصورية بن عبد الله ثالث: مرجع سابق، ص:84-85.
9. الجمعية المغربية للتأليف والنشر، محمد زنيبر، مرجع سابق، ص: 1268-1269.
الصور: https://en.wikipedia.org/wiki/Ibn_Battuta ©

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها