سينما من أجل الإنسانية؟!

أفلام الجونة "أنموذجاً"

حجاج سلامة

باتت قضايا البشر المُتعبين هي الأكثر حضوراً في سينما اليوم، وصار الجيل الجديد من صناع الفن السابع، أكثر انحيازاً لما بات يُعرف بـ"السينما الإنسانية".. في ظل أجواء من الحروب والصراعات، وتزايد لأعداد المهاجرين، وانتشار للأفكار العنصرية.
ومع تفاقم الأزمات الإنسانية، تزايد الإقبال على إنتاج أفلام تُعبر عن الهَم الإنساني.. وصارت المهرجانات السينمائية تخصص مسابقات للأفلام التي تنتج من أجل الإنسانية، وتلك التي تتناول قضايا الحريات، مثل مهرجان الجونة السينمائي، ومهرجان الأقصر للسينما الإفريقية.
وصارت الأفلام التي تحمل قصصاً إنسانيةً، وتجسد معاناة الناس، وتقترب من متاعبهم وترصد لحظات الألم، وترصد انكساراتهم وانتصاراتهم، وصراعهم اليومي من أجل الحياة.. صارت تلك الأفلام هي الأكثر حضوراً في المهرجانات السينمائية، وصار الألم الإنساني هو القاسم المشترك لأغلب الأفلام في شتى قارات الأرض.

 



وإذا عدنا لمجموعة الأفلام التي شاركت بالدورة الأخيرة لـ مهرجان الجونة السينمائي في نسخته الرابعة، فسوف نلاحظ أن ما بات يعرف اليوم بـ"سينما من أجل الإنسانية" هي الأكثر حضوراً بذلك المهرجان، الذي شهد تقديم خمسة وستين فيلماً، تنتمي لاثنتين وأربعين دولة من مختلف القارات.

وقد امتد ذلك الحضور الإنساني، من مهرجان الجونة السينمائي، والذي أصبحت أفلامه أنموذجاً لما بات يُعرب بــ"سينما من أجل الإنسانية"، إلى مهرجان الأقصر للسينما الإفريقية، الذي سيطرت القضايا الإنسانية على غالبية أفلامه في معظم دوراته، وإلى أفلام سينمائية أخرى بقارات العالم.
ومن اللافت أن لجان التحكيم بمهرجان الجونة –على سبيل المثال– قد منحت جوائز المهرجان لأفلام تحمل قصصاً سوداوية، وتروي تفاصيل حكايات مأساوية.
وأفلام تدور في فلك المعاناة الإنسانية، وتكشف زيف الحياة في المجتمعات الفنية، وتعرض لعوالمها السفلية الخفية، وتعالج قضايا اللاجئين والمهمشين، والحروب والنزعات الطائفية التي تؤرق حياة البشر في كل يوم.
بجانب العديد من القضايا الاجتماعية مثل معاناة الشباب، والتحديات التي يواجهونها في عالم اليوم، والكفاح ضد الظلم ومقاومة قانون الغاب، والأوجاع الإنسانية، مثل الشعور باليأس والسير في دروب الحياة بلا هدف.





 

أوجاع في البوسنة

وجاءت قرارات لجان التحكيم بمنح جوائز المهرجان، لتكشف عن انحياز كبير لذلك النمط من الأفلام التي تُعالج أوجاعاً إنسانيةً.
وفي إطار انحياز لجان التحكيم بالمهرجان، لسينما الإنسانية، والأفلام التي تعالج أوجاعاً إنسانيةً، فقد ذهبت جائزة نجمة الجونة الذهبية في مسابقة الأفلام الروائية الطويلة، للفيلم الروائي الطويل ?Quo Vadis, Aida "إلى أين تذهبين يا عايدة" للمخرجة ياسميلا زبانيتش.

الفيلم تدور أحداثه بالبوسنة، وتحديداً في أحد أيام العام 1995، حيث تعمل عايدة مترجمة للأمم المتحدة في مدينتها الصغيرة سربينيتسا، ويحتل الجيش الصربي المدينة، وتهرع عائلتها للاحتماء مع آلاف المواطنين الآخرين في معسكر للأمم المتحدة، وتحاول عايدة إنقاذ عائلتها، ويتصاعد التوتر كلما تفشل طريقة ما للنجاة من بطش الجنود الصرب.
 

وذهبت جائزة نجمة الجونة الفضية للفيلم الروائي الطويل "حكايات سيئة"، للمخرجين داميانو وفابيو دينوسينزو.

سادية الآباء.. وغضب الأطفال المُحبطين

تدور أحداث الفيلم حول حكايات سوداوية، تحدث في مجتمع صغير بمكان ما من العالم، يعج المكان، الطبيعي ظاهرياً، بسادية الآباء وغضب الأطفال المُحبطين. وقد سبق لذات الفيلم "حكايات سيئة"، العرض بالدورة الـ70 لمهرجان برلين السينمائي الدولي، وفاز بجائزة الدب الفضي لأفضل سيناريو.

وذهبت جائزة نجمة الجونة البرونزية للفيلم الروائي الطويل "احتضار" للمخرج هلال بيداروف. وتدور أحداثه حول "دافود" الشاب القلق، الذي يُساء فهمه، ويحاول العثور على عائلته الحقيقية، والأشخاص الذين يحبهم ويمنحون معنىً لحياته، وعلى مدار يوم واحد، يختبر سلسلة من الحوادث الغريبة، يفضي بعضها إلى موت بشر، أو تُعيد أخرى إلى الذهن ذكريات خفية، وأحياناً تكشف عن سرديات غامضة، الأمر الذي يزيد من قلقه إزاء كل ما يحدث.
 

وذهبت جائزة نجمة الجونة لأفضل فيلم عربي روائي طويل إلى فيلم "الرجل الذي باع ظهره" للمخرجة كوثر بن هنية. وتدور أحداث الفيلم حول "سام" الشاب السوري الحساس العفوي، الذي فر إلى لبنان، هرباً من الحرب في بلاده، دون أن يحصل على إقامة رسمية، ويتعثر "سام" في الحصول على تأشيرة سفر لأوروبا، حيث تعيش حبيبته عبير.
 

أفلام إنسانية بكل الألوان

ولم تقف نجاحات الأفلام ذات الصبغة الإنسانية عند الفوز بجوائز الأفلام الروائية الطويلة، بل امتد ذلك النجاح إلى الأفلام الوثائقية الطويلة والقصيرة. ففي مسابقة الأفلام الوثائقية الطويلة، ذهبت جائزة نجمة الجونة الذهبية للفيلم الوثائقي الطويل "أيام أكلة لحوم البشر" للمخرج تيبوهو إدكينز.

وهو فيلم وثائقي معاصر، يحكي خلفية علاقة صينية إفريقية ناشئة حديثاً. تدور أحداث الفيلم في منطقة ريفية نائية في جنوب إفريقيا، وهي مساحة حدودية تشهد فيها قوانين المجتمع تغيّراً مستمراً. يمكن الإحساس بتأثير قوى الرأسمالية الجامحة، في أعماق تلك المجتمعات الريفية، خاصةً مع بدء تطور النظام الجديد. تبدأ الأسس القديمة في التفكك، ومع الوقت يترسخ قانون الغابة العتيد: إما أن تَأكُل أو تُؤكل.

وذهبت جائزة نجمة الجونة الفضية للفيلم الوثائقي الطويل، إلى فيلم "سوفتي" للمخرج سام سوكو. وتدور أحداثه حول "بونيفايس موانجي" الشهير بسوفتي، مصور صحفي مشهور، ومعروف بتواجده الدائم مع كاميرته في أماكن النزاعات المشتعلة في بلده كينيا، سوفتي سياسي ناشط، يناضل ضد الظلم في بلده، والذي يقرر الترشح للانتخابات النيابية الكينية، هل بالمثالية وحدها ستنجح حملته ضد الفاسدين، وهل سيُعَرِّض قراره، حياة عائلته للخطر؟ 

وذهبت جائزة نجمة الجونة لأفضل فيلم عربي وثائقي طويل إلى فيلم "جزائرهم"، للمخرجة لينا سويلم. وتدور أحداث الفيلم حول قرار جَدا لينا، الجزائريان عايشة ومبروك بالانفصال عن بعضهما بعد زواج دام اثنين وستين عاماً.. ويعرض الفيلم للكثير من المشاهد والأوجاع الإنسانية، التي تصاحب قراراهما بالانفصال.

وفي مسابقة الأفلام القصيرة، ذهبت جائزة نجمة الجونة الذهبية للفيلم القصير "أن أصبح أمي"، للمخرجة جاسمين ترينكا. وتجري أحداث الفيلم وسط حر صيفي لاهب، تبدو روما كمدينة مهجورة، حيث تتجول فيها أم شابة تحمل حقيبة سفر بصحبة ابنتها، وتمشيان بفرح يشوبه القلق، في دروبهما من غير هدف، في البداية يبدو الأمر محيراً، لكن ومع ظهور إيماءة بسيطة تتكشف عبرها عمق الروابط بين الأم وابنتها.

وذهبت جائزة نجمة الجونة البرونزية للفيلم القصير إلى فيلم "أقمشة بيضاء"، للمخرج مولي كين.

بين الشجاعة واليأس

ويدور الفيلم حول "سوزان" وما ينتابها من أفكار عشية زواجها، حيث تشعر بخليط من الشعور باليأس والشجاعة، وتحاول الشابة محو ماضيها، وتمر الدقائق بسرعة لتزيد من الضغط عليها، وذلك الضغط يسهم في تشكلها كامرأة.
 

وذهبت جائزة نجمة الجونة لأفضل فيلم عربي قصير إلى فيلم "ستاشر" للمخرج سامح علاء. وتدور أحداث الفيلم، حول آدم الذي يقرر خوض رحلة صعبة للعودة إلى حبيبته مجدداً بعد فراق دام اثنين وثمانين يوماً، وتتناول قصة ذلك المراهق -التي يعرضها الفيلم- الكثير من القضايا الاجتماعية والتحديات التي يواجهها الشباب. وقد سبق أن حاز على جائزة السعفة الذهبية كأفضل فيلم روائي قصير، من مهرجان كان السينمائي الدولي.

وذهبت جائزة يمنحها جمهور المهرجان لفيلم يُعنى بالقضايا الإنسانية إلى فيلم "200 متر"، للمخرج أمين نايفة.

ويحكي الفيلم قصة مصطفى وزوجته، القادمين من قريتين فلسطينيتين يفصل بينهما جدار عازل، رغم أن المسافة بينهما 200 متر فقط. تفرض ظروف معيشتهما غير الاعتيادية تحدياً لزواجهما. عندما يمرض ابنهما، يهرع مصطفى لعبور الحاجز الأمني، لكنه يُمنع من الدخول، وهنا تتحول رحلة الـ200 متر إلى أوديسا مُفزعة.

وتمثل جملة تلك الأفلام، التي استعرضنها من قائمة الأفلام الفائزة بجوائز النسخة الرابعة من مهرجان الجونة السينمائي، أنموذجاً لغلبة ذلك النوع من الأفلام على المشهد السينمائي العربي والعالمي، في ظل ظهور شخصيات فنية ومدارس سينمائية جديدة، تبشر بسينما جديدة، ترتكز على التقاط لحظات إنسانية لافتة، وقصص تبرز واقع الإنسان المعاصر، وتناقش قضاياه بشفافية غير مسبوقة، وصار جل نتاجها يحمل شعار "سينما من أجل الإنسانية".

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها