المريضة الصامتة

رواية الحفر النفسي والتشويق غير المجاني

جلال برجس


هل يمكن للعوالم النفسية أن تتبدل على نحو مفاجئ، بحيث تُقْدم امرأةٌ على قتل زوجها الذي تحبه، ولا تتصور الحياة بعيدًا عنه؟ هل هذا الإقدام مفاجئٌ حقًا؟ أم أن له جذوراً مخفية في طبقات النفس؟ سؤالان تطرحهما رواية المريضة الصامتة للبريطاني (أليكس ميكايليدز)؛ إذ تحكي قصة فنانة تشكيلية معروفة تدعى (أليسيا بيرينسون)، تزوجت من (غابرييل) رجل يجمعه بها مجال العمل نفسه، فهو من أشهر رسامي الأزياء وعارضيها في العاصمة البريطانية لندن. ضمهما منزل كبير يطل على حديقة رائعة في واحدة من أكثر المناطق المرغوبة في لندن. لا يعرف الناس عنهما شيئًا سوى ما يرونه من وراء نوافذهما، إلا أن الحقيقة مختلفة تمامًا. تفتتح الرواية بتهمة قتل (أليسيا) زوجها، وإثر هذه الجريمة تمنى بعواقب نفسية مضافة جعلت منها إنسانة عنيفة، لكن يخيم عليها صمت يخبئ وراءه مشاعر كثيرة، وبالتالي آلت بها حالتها إلى أن تكون نزيلة مستشفى (ذا غروف) للأمراض العصبية. لم تفصح (أليسا) بشيء فيما يخص مقتل زوجها سوى تلك اللوحة التي رسمتها لنفسها، ووقعتها باسم (ألسيستيس)، وهو اسم مشتق من أسطورة إغريقية لامرأة ضحّت بحياتها لأجل زوجها.


يقرر المعالج النفسي (ثيو)، بعد خمس سنوات من مقتل (غابرييل) التطوع لمعالجة (أليسا)، بعد أن سمع بقصتها، عبر فهم تلك اللوحة، وما وراء ذلك التوقيع المستوحى من الأسطورة، سعيًا إلى فهم ومعالجة مريضته التي ترقد في مستشفى (ذا غروف)، وفق تحدٍ كبير سيخوضه مع مريضة صامتة ينتظر منها أن تفرج عن الحقيقة هل هي القاتل؟ أم هناك جانٍ آخر؟ وإن كانت هي القاتلة، ما الدوافع وراء فعلتها خاصة أن يومياتها تؤكد على أنها تحبه جدًا، وأنه كان سندها الوحيد في عز أزمتها النفسية القادمة من طفولتها، وأنه الذي خلصها من كثير من آلامها.

إن أكثر الروايات قربًا للقارئ في هذه المرحلة هي التي تمتلك أدواتها في الغوص نحو مجاهيل النفس البشرية، لأن تعقيدات المرحلة الإنسانية الحالية باتت ترمي بثقلها السلبي على البشر، وبالتالي تؤدي إلى كثير من الأزمات النفسية، والتوترات التي أصبحت تعيق سلاسة مسير اللحظة اليومية، والمعيش الطبيعي. ومن هنا فإن رواية (المريضة الصامتة) ألقت الضوء على جانب مهم في طيات حياتنا، إذ تطرح جملة من الأسئلة أهمها: هل يمكن للطبيب النفسي أن يحتاج طبيبًا نفسيًا للخلاص مما يعانيه؟ إذ إن المعالج النفسي (ثيو)، وبالتوازي مع سعيه لعلاج مريضته، وفهم سرها القابع وراء صمتها، كان يسعى للتداوي عبر معالجة نفسية، يسترشد بما تقوله له، وفي الوقت نفسه يحاول فهم مريضته؛ فطفولته لم تكن سوية، تمامًا مثل طفولة مريضته؛ فقد عانى كثيرًا من معاملة والدته القاسية، وعانى جراء خيانة زوجته له، حين اكتشف رسائل إلكترونية بينها وبين عشيقها.
 

في هذه الرواية عاد بنا (أليكس ميكايليدز) إلى الطفولة، المنطقة الأولى في التشكلات البيولوجية والنفسية، مستفيدًا من طروحات وآراء (فرويد) في تفكيك خفايا النفسية البشرية، إذ حاول (ثيو) أن ينتهج (التداعي الحر) طريقة (فرويد) في استكشاف ما تداريه مريضته لكن ذلك لم يكن سهلًا. مع ذلك أخذت المسافة تقصر بينه وبين مريضته، لكنها كادت تقتله حين هجمت عليه في إحدى الجلسات. تتطور العلاقة بين (ثيو) و(أليسا) وتعطيه دفتر يومياتها، وبالتالي بات ينقب في عوالمها الخلفية، كما لو أنه يجري تحقيقًا بوليسيًا معها؛ إذ يلتقي بعدة أشخاص لهم علاقة بالمريضة من دون أن يعلموا أنها كتبت عنهم في يومياتها، من هذا المنطلق تعاين الرواية كيف يمكن للإنسان أن يزور الحقيقة؛ إذ تنظر الرواية للشخصيات الأخرى من زاوية ترابطية بالشخصية الرئيسة، ومدى أثرها على أزمتها النفسية، التي بطيعة الحال لم توجد هكذا بلا سبب ومسبب؛ فقد انتقى المؤلف شخصيات حمَّلها جذور الأزمة كمنطلق لتداعياتها، فهناك الجارة النرجسية، وابن العمة التي ترهقه الحياة، وشقيق الزوج الذي تعكر صفو علاقته بشقيقه غيرة مرضية، يؤمن جراءها بامتلاك ما جناه أخوه، ويشعر برغبة دفينة بإيذاء زوجته، وصديقها الذي يهتم بأعمالها الفنيّة. تكشف الرواية في هذا المفصل منها كيف يمكن للمحيط الاجتماعي أن يصبح عامل تهشيم للمكون النفسي الطبيعي، وما هذا إلا نتاج أعطاب نفسية تلوي عنق الاستقرار البشري في كثير من المجتمعات؛ إذ تكشف الرواية كيف انتحرت والدتها حين تعمدت وهي تقود السيارة بسرعة قصوى أن ترتطم بجدارٍ صلب، في الوقت الذي كانت (أليسا) تجلس إلى جانبها، لكنّها نجت بأعجوبة. اللافت في هذه الحادثة أن والد (أليسا) تمنّى أن تكون هي من ماتت وليس أمها، الأمر الذي هشم مكونها النفسي، وأصابها بأزمة لازمتها باقي أيام حياتها، بعد أن منيت إضافة إلى قسوة أبيها بقسوة عمّتها التي تكفّلت بالعيش في منزلها وتربيتها إلى جانب ابنها.

لقد حفر (أليكس مكايليدز) عميقاً في النفس البشرية، وسلط الضوء على التحولات النفسية، وكيف لها أن تنطلق من الطفولة، وتطبع الحياة بطابعها الموجع. إن الإنسان حسب ما تراه هذه الرواية، قابل لاحتواء الظلام في داخله إذا ما حدث خلل ما، ولكن ليس مستحيلًا أن يتلاشى ذلك الظلام. لكن وحسب فرويد: "قبل أن تقرّر أنّك مصاب بالاكتئاب النفسي أو الإحباط تأكّد إن لم تكن محاطاً بالأغبياء".

اتخذت هذه الرواية من عناصر التشويق نقطة جذب قرائية مهمة، ستجعل القارئ يركب شظاياها ليصل إلى ما تود الرواية قوله، وهو يجاهد لمعرفة القاتل. وقامت على وعي نفسي كبير بدواخل الشخصيات، وسبل العلاج النفسي الأكثر نجاحًا، خاصة العلاج السلوكي بعد أن نجح (ثيو) بإقناع الأطباء بلا جدوى الدواء.

إن هذه الرواية واحدة من الروايات التي يمكن لها أن تعيد من أصابتهم غفلة القراءة إلى لذتها من جديد، فهي قادرة على أن تضع القارئ في بؤرة النص، بحيث يصبح شريكًا في العمل، فهو يعيش الحدث كما لو أنه جزء مهم منه؛ فالروايات المهمة هي التي يشعر القارئ أنها تعنيه وحده، وبالتالي ستعيش في ذاكرته.

لقد صاغ (أليكس ميكايليدز) روايته هذه بوعي روائي لافت، لم يترك للقارئ فيه مجالًا للملل، بل وضعه في مسار تشويقي غير مجاني، بحيث يصدم القارئ وقد كسر أفق توقعاته بالقاتل الحقيقي لزوج أليسا، حينها سيتأمل القارئ نفسه، وما حوله، وأحداث الرواية، ومؤشراتها النفسية عالقة في باله.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها