"تكلموا لغتكم"! مي زيادة

زبيدة فيصل


"إنها جارت أكتب الكتّاب الأوروبيين.. وإذا كان بعض استعاراتها مقتبساً من لغات أوروبية فذلك ليس بدعاً في العربية، بل قد سبق إليه جماعة من أساطين الكتّاب مثل الجاحظ والصابي، وابن المقفع وابن خلدون فزاد في غنى العربية بما أضافوا إليها".

يعقوب صروف، عن مي زيادة في مقدمة كتابها "باحثة البادية".

 

مي زيادة، الأديبة العربية وإحدى الشّخصيّات التي برزت في تاريخ الأدب العربيّ، فكانت عَلماً مشهوراً في النصف الأول من القرن العشرين؛ عاشت طفولتها بين فلسطين ولبنان، وفي بداية شبابها حطت رحالها في مصر التي حملت جواز سفرها؛ فكانت مزيجاً من الانتماءات، وهو ما عبّرت عنه في إحدى مقالاتها: "ولدت في بلد وأبي من بلد، وأسكن في بلد وأشباح نفسي تنتقل من بلد إلى بلد، فلأي هذه البلدان أنتمي"؟

هي شاعرة وأديبة كتبت الشعر والرواية والمقال الأدبي الأخّاذ، أجمع كبار الأدباء على الإعجاب بأسلوبها واستحسان ما فيه من تجديد، وقد وصف المفكر المصري منصور فهمي أسلوبها في الكتابة: "إنني أعد الطريقة التي جرت عليها مي في كتاباتها مثالا للكتابة الراقية"، وأضاف: "كان لهذا الأسلوب المتميز، المختارة ألفاظه المنمقة عباراته، جرس جميل في أذن السامع ووقع حسن في نفس القارئ، وكثيراً ما كانت توفق مي في هذا السبيل".

أثارت مي زيادة أنظار الرأي العام والمثقفين إليها، بعد فتحها صالوناً أدبياً عام 1912، عُرف باسم «صالون الآنسة مي»، يعقد يوم الثلاثاء، ويؤمه أعلام الفكر والأدب، وممن ينتمون إلى طبقات اجتماعية مرموقة من المفكرين والمبدعين، وبقي هذا الصالون زهاء العشرين عاماً، احتفظ بأجمل المطارحات الأدبية والأحاديث التي خلدت أصحابها، وأسس لغيرهم أدباً وعلماً أضاء الطريق وأحيا التراث، حتى قيل عن الصالون: "لو جمع ما ذكر فيه لكون مكتبة كبيرة تشبه ما جاء في الأغاني للأصفهاني أو العقد الفريد".

حظيتْ مي بتقدير وإطراء حاضري الصالون لفراستها وتمكّنها من إدارة الصالون ببراعة فذة وبلباقة أسلوبها، يزينها تهذيب جم وتواضع كبير، فقال عنها العقاد: "ووُهِبتْ ما هو أدلّ على القدرة من ملكة الحديث، وهي ملكة التّوجيه، وإدارة الحديث بين مجلس المختلفين في الرأي والمزاج والثّقافة والمقال"، إلا أن من بين أهم ما تميّزت به مي هو حديثها الذي كان في غالبه باللغة العربية الفصحى، من غير أن يشعر أحد من سامعيها في الصالون بأن حديثها أقل سلاسة أو أظهر تكلفاً من حديث المتكلمين باللغة العامية أو المتكلمين بأي لغة من اللغات الحية الراقية في ذلك الوقت، فصالون الآنسة مي كان رواده خليط من السوريين واللبنانيين والمصريين، وكذلك من المستشرقين الأوروبيين، ومن أشهرهم: الأب انسطاس الكرملي، وماسينيون المستشرق الصوفي وغيرهم، يتحدثون فيه بلغات مختلفة، ولهجات عربية متعددة، ومن أهم الموضوعات التي ناقشها صالون مي، هو طريقة تطوير اللغة العربية.

أحبت مي اللغة العربية حباً كبيراً فشغلت نفسها لفترة طويلة بمسائلها ومشكلاتها، مقترحة وسائل لإصلاحها وجعلها لغة متمشية مع مقتضيات العصر وتطور الزمان، فكتبت مقالا بعنوان: "حياة اللغات وموتها، ولماذا تبقى اللغة العربية حية"؟ تعرضت خلالها لحضارات اليونان والرومان والعرب، وذكرت أن كِلا اللغتين اليونانية واللاتينية عدتا في صف اللغات الميتة منذ سقوط مدنيتهما، وأن العربية احتفظت بحياتها بعد زوال مدنية العرب بسبعة قرون، وردت ذلك إلى القرآن الكريم الذي كان باعثاً على تكوين المدنية العربية، والذي ما زال حافظاً لها وللغة العربية إلى اليوم.

وقد بلغ حب مي للعربية أنها كتبت مقالا تحت عنوان: "تكلموا لغتكم" ناقدة فيه نقداً رقيقاً فرقتها، ولائمة وعاتبة بلطفها المعتاد، بعد أن سمعت رجلاً عربياً يزعم أن اللغة العربية ثقيلة على لسانه، وأن بعض حروفها كالحاء والخاء يؤذي السمع والحلق! وهي التي أدركت منذ نعومة أظفارها أن بقاء أية أمة من الأمم، وحياة أية حضارة من الحضارات، هي بإحياء لغتها، التي بها تتكون بها ثقافتها، ويتواصل أبناؤها، وبها يُخلد مجدها؛ فقد عنت بتوجيه هذا الرجل وجمهور العرب عموماً إلى لغتهم، للاهتمام بها، والرجوع إليها، فكتبت في المقال بأسلوب ساخر هازئ: " إن من الطراز الحديث المكرر ثلاثاً، فتح فاه فتحة أنيقة تليق بالقرن العشرين.. وطفق حضرته يتكلم الفرنساوية جاعلاً الراء منها غيناً"، وأضافت متعجبة: "كيف أن أناسًا ولدوا في جرود لبنان، أو في أنجاد سوريا، أو في سهول مصر، يجدون اللغة «خشنة يا إلهي! تمزق الحلق»؟! تكلموا ما شئتم من اللغات يا بني أمي! ولكن لا تنسوا لغتكم"، وعتبت مي على المجمع اللغوي لركود دوره ونشاطه، فقالت: "وصلنا إلى المجمع اللغوي الذي تتخاصم صحف العاصمة لأجله وهو في غيبوبة أحلامه".

في سنة 1919 وإثر ما تعرضت له اللغة العربية من مؤامرة بأنها صعبة التعلم، وأن العامية أصلح للتعبير وأقدر على الأداء عبرت مي عن بالغ استيائها في كتابها "بين الجزر والمد: صفحات في اللغة والآداب والفن والحضارة"، فقالت: "الإصلاح ليس الهدم دواماً بل هو في الغالب تبديل، وصقل وتكييف إذ ليس في صالح الأمة إنكار الماضي الزاخر بالأمجاد الأدبي والحكمة"، وقالت بعد ذلك: "أما نبذها -تعني العربية- والاستعاضة عنها باللغة العامية، فاعتراف بالعجز والخذلان، لأن اللغة تنتعش بانتعاش الأمة وتجمد بجمودها"، وكان الأستاذ سلامة موسى، الذي أسس عام 1914 مجلة "المستقبل"، وأغلقتها الحكومة المصرية لدعوتها إلى الإلحاد، ففتحت له مي أبواب جريدتها "المحروسة" رغم البون الشاسع بين أفكاره ومُعتقداتها، كما منحته شرف وضع مقدمة لكتابها "بين الجزر والمد" عام 1924، كتب ضمن المقدمة: ".. وإنه لمن أوضح البراهين على صحة نهضتنا أن تجد آنسة مسيحية مثل مي تدافع عن العرب واللغة العربية، كما يرى القارئ في إحدى مقالات هذا الكتاب.. إننا نغبطها جميعاً لذكائها وسعة ثقافتها، ونود أن نجد عدداً كبيراً من فتيات سوريا ومصر يقتفين أثرها في خدمة الحياة القومية العربية والعمل على رقيها ورفعها".

مي زيادة التي أتقنت لغات عدة؛ حيث عملت في بداياتها بتدريس اللغتين الفرنسية والإنكليزية، وتابعت دراستها للألمانية والإسبانية والإيطالية، وفي الوقت ذاته عكفت على إتقان اللغة العربية وتجويد التعبير بها، ثم تابعت دراساتها في الأدب العربي والتاريخ الإسلامي والفلسفة في جامعة القاهرة، أدركت لاحقاً كأديبة ومثقفة ذكية أن الّلغة العربية مثلها مثل أية لغة وحضارة، عانت من فترات ضعف تقلصت وانزوت وأصبحت بلا روح، ولكنَّها رُغم ذلك ظلت اللغة الوحيدة التي حافظت على حياتها وسط موت كثير من اللغات، بفعل ما أسمته "بين الجزر والمد".

ورغم أن مي رأت في العامية خطراً على الفصحى، إلا أنها كانت على يقين بأن اللغة العربية قادرة على التصالح مع اللهجات واللغات الأخرى لتتواءم مع اللسان العربي كما تهاجر إليها، وتحتفظ للألفاظ بكل خصائصها وسماتها، فأظهرت اعتدالها في قولها: "وما نطمع فيه ويعمل له التعليم والتهذيب، هو رفع العامة إلى فهم أوسع وأحذق والنزول ببعض الخاصة إلى ميدان أسهل ليتم في اللغة ما هو تام بين المراتب ومن التمازج".

وأخيراً.. كان اسمها "ماري زيادة" فاختارت لتوقيع كتاباتها اسماً عربياً "ميّ"، وقد لصق بها هذا الاسم، في اللغة العربية، وفي جميع اللغات التي انتقلت إليها آثار "ميّ".
 


المصادر:
•  بين الجزر والمد: صفحات في اللغة والآداب والفن والحضارة"، مي زيادة.
•  مي زيادة: أديبة الشوق والحنين، غريد الشيخ.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها