العقدة الأمريكية في الأدب الياباني

عبد السلام فاروق



كيف يشعر المهزوم القوي بمرارة ما بعد الهزيمة؟

الأدب الياباني خلال فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية التي توقفت في أعقاب إلقاء قنبلتي هيروشيما وناجازاكي واستسلام اليابان، لا بد أنه نوع من الأدب الكاشف لحقيقة شعور اليابانيين، أولاً بالانتصارات المبدئية التي حققوها، ثم الهزيمة المفجعة التي راح على إثرها آلاف الضحايا وتشوَّه مثلهم.. تلك الهزيمة التي تركت ندبة عميقة في نفس كل ياباني، رغم التقارب الذي حدث بين اليابان والولايات المتحدة الأمريكية في أعقاب الحرب.. تلك الفترة تحديداً، فترة ما بعد الحرب، كانت مادة خصبة للأدب الياباني القصصي والروائي، تناولت مشاعر متناقضة بين الألم والأمل، وبين الهزيمة والعزم، وبين خيال القادم ومرارة الحاضر.. وهو نوع من الأدب الصادق غير المتكلف.. لهذا السبب وغيره بات الأدب الياباني في فترة ما بعد الحرب، ونظرة الأدب الياباني لأمريكا موضوعاً هاماً لأبحاث علمية في الجامعات المصرية.
 

دكتوراه في الأدب الياباني

تحت عنوان: (صورة الأمريكي في الأدب الياباني ما بعد الحرب) جاءت رسالة الدكتوراه للباحثة (وفاء أحمد عبد المعطي إبراهيم)، المدرس المساعد بقسم اللغة اليابانية وآدابها بكلية الآداب بجامعة القاهرة، لتقدم تحليلاً مفصلاً حول الدوافع النفسية والمشاعر الإنسانية التي شكلت وجدان أدباء اليابان وقتذاك.
 هذه الرسالة الأكاديمية التي حازت بها الباحثة (وفاء عبد المعطي) درجة الدكتوراه، تتألف من مقدمة وثلاثة أبواب، وسجل زمني لحياة وأعمال كل من الأديبين "ياسو أوكا شووطارووه"، و"كوجيما نوبوأوه"، وكذلك جدول للجوائز التي حصلا عليها أو رُشّحَا لها.

الباب الأول من هذا البحث المهم جاء إجمالاً للرواية اليابانية المعاصرة، متحدثاً عن ظروف نشأتها وتطورها، كما تناول الحديث عن التيارات الأدبية في الأدب الياباني الحديث، ونبذة عن أدب الحرب وما بعد الحرب، لينتهي بالحديث عن أدباء الجيل الثالث الذين ينتمي إليهم الأديبان موضوع البحث.

الأديب "كوجيما نوبوأوه" هو موضوع الباب الثاني من البحث. وله روايتان كانتا من أسباب شهرته وظهوره الإبداعي، هما روايتا: "عناق الأسرة"، و"المدرسة الأمريكية". وقد خصصت الدكتورة وفاء عبد المعطي هذا الباب لتناول حياة الأديب لفهم العوامل والظروف الاجتماعية والنفسية المؤثرة على أدبه، مع تحليل تفصيلي لروايتيْه الشهيرتين، ثم بيان الصورة الذهنية للأمريكي في هذه الأعمال الروائية، وكيف تعامل اليابانيون مع الأمريكيين بعد الحرب، ونظرة كل منهما للآخر.

الباب الثالث والأخير من الدراسة تناولت فيه الباحثة وفاء إبراهيم سيرة حياة الأديب "ياسو أوكا شووطارووه"، وقدمت شرحاً وافياً للعوامل والظروف التي ساهمت في تشكيل حياته وأثرت على كتاباته، وكذلك تحليلاً تفصيلياً لأشهر رواياته: "الوسام العسكري"، و"الحذاء الزجاجي" للوقوف على الحالات التي احتك فيها اليابانيون بالأمريكيين، وتجلت منها المفارقات التي أظهرت انطباعات ونظرة كل منهما للآخر، وبيان أثر كل هذا على المجتمع الياباني ككل.

وفي الخاتمة عرضت الباحثة نتائج التحليل التفصيلي للروايات من مواقف وشخصيات وأحداث، واستخلصت إطاراً توضيحياً لصورة الأمريكي التي حاول الأديبان رسمها، واتخذت لبحثها طريقة المنهج الوصفي التحليلي.


أمريكا واليابان.. بين التأثير والتأثر

خرجت اليابان من عزلتها التي استمرت نحو 250 عاماً فرضتها عليها حكومة (طوكوجاوا باكفو( الإقطاعية في الفترة 1601 -1851م، وحينها تلقت صدمة حضارية قوية لما واجهت المدنية الغربية، فانفتحت اليابان على الغرب والأمريكان، وزارها العديد من الشخصيات الغربية والأمريكية، أيضاً كانت الأفكار الغربية والمعرفة الغربية والأنظمة والعادات الغربية موضع إعجاب وتأييد، وبُذلت الجهود لتقليدها لإيجاد ثقافة جديدة والالتحاق بالمدنية. فالانقلاب الجذري في الميدان العلمي والتكنولوجيا، وتقليد الغرب في المناهج النظرية والتطبيقية. ومثل ذلك قد تحقق أيضاً في مجال الأدب، فقد اعتقد كثير من المفكرين أن الخروج بالأدب من التقوقع والعزلة التي نزل فيها منذ القدم لا يتحقق إلا بالأخذ بالنظريات الأدبية الغربية، ودخلت التيارات الأدبية الجديدة، والأفكار الغربية التي لا عهد لها بها من قبل.

ومن هنا تعددت المحاولات والتجارب الفنية في الشعر والرواية والقصة والنقد والمسرح، وظهرت التيارات والاتجاهات والمدارس والجماعات والحركات الأدبية التي تأثرت بالمدارس والتيارات الأدبية الغربية.

يقول الناقد الياباني كينجي ساتو: إن كلمة "أدب الحرب" قد تتبادر إلى الذهن أقرب إلى كونها "الأدب المناهض للحرب"، وقد يتبادر إلى الذهن إطار مفهوم "ما بعد الحرب". إن أدب ما بعد الحرب هو أدب من الانهيار والتحرر والاضطراب الاجتماعي والتغيرات الجذرية التي سببتها الهزيمة في 1945، وكيف انتقلت اليابان من عهد قوة وسيطرة عسكرية هيمنت خلالها على إقليم منشوريا بالصين عام 1931 إلى عهد استسلام وانهزام، بعد أن لعقت مرارة الحرب وخسائرها البشرية والمادية العسيرة، وكيف لاقى اليابانيون الأمرين جراء هذا التحول الكبير. بل قل كيف تحولت علاقتهم بالأمريكيين من احترام وتقدير وتقليد إلى عداء وحرب، ثم إلى تقارب حذر وتعاون على أساس المصلحة لا على أساس الندية وتعادل القوى.
 

أدباء الجيل الثالث

بحسب الباحثة المصرية؛ فإن الناقد "ياماموتو كينكيتشي" في مجلة عالم الأدب هو الذي أطلق على أدباء الجيل الثالث هذا الاسم؛ بسبب خصائصهم الأدبية المشتركة ومنها: أنهم قضوا فترة شبابهم أثناء الحرب، معظمهم كتب عن حياته الخاصة كسرد لسيرة ذاتية ولكن داخل العمل الروائي، تتضمن كتاباتهم رداً مجازياً على مزاعم التعافي الاقتصادي الذي نجم عن الصراع الياباني الكوري .. ولعل أهم ما يميز أدباء الجيل الثالث أنهم تجمعهم صفة التأثر بالحرب، وإظهار فظائعها في أعمالهم الأدبية عن طريق سرد معاناتهم اليومية؛ لأن معظمهم قضى فترة شبابه أثناء الحرب وبعضهم شارك فيها بالفعل. لعل أهم هؤلاء الروائيين: ياسو أوكا شووطارووه، وكوجيما نوبوأوه، ويوشيوكي جون نوسكيه، وإندوشوساكو، وجاواهيرويوكي، وشوونوجونزو، وسونو أياكو.

ويعد أدباء الجيل الثالث مدرسة أدبية ذات طابع خاص فالكتاب المنتمون إليها منهم من اهتم بالكتابة عن سيرته الذاتية بشكل مباشر أو غير مباشر وشديد التفصيل، مثل الأديب ياسو أوكا شووطارووه (1920: 2013)، والذي تعمق في سرد تجربته الحياتية دون خجل أو تردد أو وجل من ذكر بعض أدق التفاصيل، ومنهم من أراد توصيل رسالة للقارئ داخل رواياته من بين السطور، وقد تكون هذه الرسالة في بضع كلمات في بداية أو نهاية الرواية بشكل متعمد، وقد يعتبره بعض النقاد إقحاماً في غير مكانه.
 

الروائى كوجيما مثالاً

الأديب الروائي الياباني كوجيما نوبو Nobuo Kojima من مواليد فبراير 1915م، حصل عام 1995م على جائزة أكوتاجاوا للأدب الروائي عن روايته "أميريكان سكول" التي نشرت عام 1954م، والتي تمتلئ بالقلق الوجودي والفكاهة السوداء، والتي كانت أهم أسباب ظهور كوجيما في عالم الأدب.

بدأ نبوغ كوجيما الأدبي في السطوع في سن 17 من عمره، حين كان في المدرسة الثانوية، حيث نشر أول قصة له في مجلة تعليمية، ونالت استحساناً كبيراً. انتقل عام 1935م إلى العاصمة طوكيو ليلتحق بالمدرسة العليا قسم الثقافات، وفي هذه السنة ورغم أنه لم يكن يتجاوز عشرين عاماً صار عضواً في مجلة أدبية تعرف من خلاها في مقتبل حياته مع مجموعة أدباء ونقاد مرموقين. وبعد ذلك بدأ بتكثيف نشاطه الأدبي، حيث نشر العديد من الأبحاث الأدبية والمقالات النقدية.. ثم التحق بجامعة طوكيو الامبراطورية، وصار مدرساً للغة الإنجليزية في مدرسة إعدادية خاصة. في عام 1942م تم تجنيد كوجيما وهو في سن السابعة والعشرين، وتم ترحيله إلى الصين ليكون ضمن قوات الاحتلال الياباني هناك. التحق كوجيما بسلاح الإشارة وتم نقله إلى موقع جديد بالعاصمة بكين، لعل تلك المرحلة هي التي صارت الفترة الفارقة في حياته الأدبية.. حيث تم تعيينه بعدها أستاذاً مساعداً بجامعة ميجي، وبعد ذلك تمت دعوته على منحة روكفلر للتدريس بالولايات المتحدة. ثم حصل كوجيما على جائزة تانيزاكي عام 1966م، وكان أول حائز على ذلك النوع من الجوائز وذلك عن رواية "عناق الأسرة". ولقد استمر كوجيما بالكتابة على مدى السبعينيات والثمانينيات وأصدر العديد من القصص. كما فاز كوجيما بجائزة يوميوري للآداب في عام 1997م. وتوفي بعد إطلاق عمله الأخير "الشفق" عام 2006م.

أذكر منذ سنوات أن أحد المسلسلات اليابانية اشتهر لدى المشاهدين في مصر، وكان حينها يمثل نوعاً جديداً من الدراما المليئة بالعاطفة؛ لهذا استهوى الكثيرين مشاهدته. إننا اعتدنا متابعة الدراما والسينما في أمريكا لكن ليس اليابان، فحبذا لو تعرفنا على الأدب والدراما والفنون بأشكالها المختلفة لا من اليابان وحدها بل من شتّى بقاع الأرض، فهكذا يمكننا الحكم على ثقافات العالم المختلفة من خلال آدابها ورؤاها الإبداعية.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها