فيسكونتي... والموت في فينسيا!

نهاية قصة البحث عن الجمال

د. السهلي بلقاسم

استطاع الفنان السينمائي الإيطالي الشهير لوتشينو فيسكونتي، أن يصل في فيلمه الموت في فينسيا إلى درجة من الكمال، الذي يستحيل أن يتحقق في الحياة الإنسانية الناقصة، وهذا هو هاجس الفنانين العظماء، الذين يسعون جاهدين من أجل تعوضينا عن الموت الذي ينتظرنا، وعن الحياة! وعن الجمال الكامن في دواخلنا!


إن الموت في فينسيا بالنسبة إلى فيسكونتي مثل فيلم (ساتيركون) بالنسبة إلى فلليني، وفيلم (الصحراء الحمراء) بالنسبة إلى انطونيوني. وهم الثلاثة الكبار من جيل الحرب العالمية الثانية في السينما الإيطالية، من حيث النضج الفني والفكري التي وصل إليها كل منهم1 في التعبير عن رؤيتهم للحياة وللعالم.

الباديات الفنية

لم تكن خبرة فيسكونتي محصورة في الفن السينمائي فقط؛ وإنما هي خبرة ممتدة في مجموعة من الفنون الدرامية، المسرحية منها والموسيقية، كالأوبرا والباليه والرقص، وكذلك تصميم الملابس وهندسة الديكور. وهي خبرة بالإضافة إلى غناها الفني وتنوع روافدها الثقافية، تمتد أيضاً إلى سنوات الصبا والشباب المبكر.

 نشأ لوتشينو فيسكونتي الذي ولد في عام 1906م في بيئة أرستقراطية مهتمة بالفن والثقافة، فقد كان والده منظماً لمعارض الفنون التشكيلة، وكانت والدته عازفة بارعة على العديد من الآلات الموسيقية، وسبق لفيسكونتي أن أكد في أكثر من مرة، إلى الدور المهم التي لعبته عائلته، في تحديد خيارته الفنية، وفي ثراء روافده الثقافية الأدبية والموسيقية والفكرية.

ومن أجل تعزيز رؤيته الفنية السينمائية، رحل فيسكونتي إلى باريس عام 1936م. ولقد شكلت هذه الرحلة إلى عاصمة الأنوار نقطة تحول مهمة في حياته الفنية، وبداية لرحلته الفنية في عالم الدراما. فعمل مساعداً للإخراج مع العديد من المخرجين الفرنسيين، رواد الواقعية الجديدة في فرنسا. وبعد سنة غادر إلى عاصمة السينما هوليود، غير أنه سارع إلى مغادرة هوليود والعودة إلى مدينته ميلانو، وأخرج أول مسرحياته الفنية... ولقد برر فيسكونتي هذا الهروب السريع من استوديوهات هوليود، إلى الجشع الرأسمالي للسينما الأمريكية، وكان هذا الموقف ولا يزال رأي أغلب المخرجين السينمائيين التقدميين الفارين من هوليود.

ربيع المسرح الإيطالي

في عام 1944م دشن فيسكونتي مرحلة جديدة من تاريخ المسرح الإيطالي، باقتباسه مسرحياته الفنية، والتي من أهمها (الآباء المتعبون)، و(الأهلة الجهنمية)، و(الحيوانات الزجاجية)، و(عربة اسمها الرغبة)، و(موت بائع متجول)، و(الخال فانيا )... إلى جانب أكثر من عشرين أوبرا وباليه، منها أوبرا (لاترافياتا)، وأوبرا (ماكبث)، وباليه (ماريو والسحرة)... وهي أعمال مسرحية فنية مقتبسة من روايات ومسرحيات أدبية، لكتاب ينتمون إلى المذاهب فنية المختلفة، كالمذهب الكلاسيكي والمذهب الواقعي.
وعلى الرغم من أن مجموع أعمال فيسكونتي المسرحية والسينمائية مقتبسة من أعمال أدبية، إلا أن الرؤية الإبداعية للمخرج الفنان، أخرجت هذه الأعمال من عالم الأدب إلى عالم السينما، بأسلوب واقعي مميز، بعيداً عن الفانتازيا والخيال. أسلوب اشترك فيه العديد من رواد السينما الواقعية الجديدة في إيطاليا مستلهمين هذه الرؤية، من النظرية النقدية الكبرى للماركسية من جهة، ومن الأوضاع المأساوية لمخلفات الحرب العالمية الثانية عام 1945م من جهة أخرى.

سينما الواقع الجديد

في الوقت الذي كان فيسكونتي يعيد تشكيل تاريخ المسرح والأوبرا والباليه الإيطالي العريق، عمل على إخراج العديد من الأفلام السينمائية التسجيلية منها، والروائية القصيرة والطويلة.
ففي العام 1942م أخرج أول أفلامه (وسواس)، وهو من أولى أفلام الواقعية الجديدة في إيطاليا، وهو الفيلم المقتبس من رواية الكاتب الأمريكي (جيمس كاين)2، وبهذا الفيلم حاول فيسكونتي تحطيم تقاليد السينما في إيطاليا، وفي أوروبا بأكملها. ولقد منعت الرقابة الإيطالية عرضاً لفيلم، لكن موسيليني3 شاهد الفيلم في عرض خاص، وأمر برفع الحظر عنه، لكن السلطات الفاشية عادت إلى إصدار قرار منع عرض الفيلم، وحرق جميع نسخه. ومن محاسن الصدف أن فيسكونتي كان يحتفظ بنسخته الخاصة من هذا الفيلم الرائد، الذي مثل إدانة واضحة للفساد المتفشي في إيطاليا الفاشية، ومرحلة تحول مهمة للسينما الإيطالية، باتجاه موجة السينما الواقعية الجديدة.

الموت في فينسيا ... من الأدب إلى السينما

اقتبس الفيلم من رواية الكاتب الألماني (توماس مان)4، وهي رواية لا تحكي فقط قصة لحظات من حياة فنان قلق، في عصر مضطرب؛ وإنما تعبر عن فلسفة الإنسان، ورؤيته للموت والحياة. كما تعبر عن موقف الفنان من الواقع الاجتماعي في عصره. لقد كان فيسكوني مدركاً تمام الإدراك حين إخراجه لفيلم الموت في فينسيا، الأبعاد الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية الفكرية لعصره. لقد كان موقف الفنان من واقعه أوضح في فيلم فيسكونتي منه في رواية (توماس مان). لقد اختار المخرج عام 1913م كزمن موضوعي للفيلم، باعتباره زمناً للغليان الذي سبق الانفجار، لقد اندلعت الحرب العالمية الأولى عام 1914م، والثورة الشيوعية 1917م، ومخاض نهاية القرن الثامن عشر وبديات القرن التاسع عشر.

إن جحافل الجنود الذين يسارعون الخطى تائهين في شوارع فينسيا، لا تدري إلى أين؟ والوباء الذي حل بالمدينة!! وفشل محاولات المسؤولين إخفاء سر انتشار الوباء اللعين، حفاظاً على الانتعاش السياحي في المدينة!! وتلاشي الجسد في البحر مع شمس الغروب، كلها مشاهد درامية تشير إلى سقوط الحضارة البرجوازية الأوروبية. إن فينيسيا رمز الحضارة والحياة والجمال، تموت من القبح القادم من كل أنحاء أوروبا.

إن فيلم الموت في فينسيا بالنسبة لفيسكونتي قصة نهاية البحث عن الجمال... فالجمال بالنسبة له شيء مطلق، لا يمكن العثور عليه خارج الحياة، حيث لا يوجد غير الموت. وينتهي الحب والجمال بنهاية الحياة. واكتسب جمال الحياة بعد الموت عند فيسكونتي لون الغروب، لون الماضي المتداخل مع الحاضر. ففي الفيلم يعود بنا المخرج إلى الماضي العديد من المرات، وهو لا يعود إلى الماضي من أجل العودة إلى الماضي فحسب؛ وإنما يعود بنا إلى الماضي، من أجل الحاضر والمستقبل معاً، عندما يدرك (جوسستاف) أن الموت يحاصر المدينة، ويذهب في الخيال حالماً ناصحاً والدة (تادزيو) بالرحيل قبل اشتداد الوباء الفتاك. كما يحاول البطل (جوسستاف) العودة إلى شبابه، لكنه ينهار في شوارع فينسيا بين أكوام القمامة المشتعلة في كل مكان، ويسقط على الأرض الغرقة بالمياه المختلطة بالسوائل البيضاء، المستعملة لإيقاف انتشار الوباء، وهو في حالة هستيرية بين الضحك والبكاء..

 وأخيراً نرى جوستاف يتقلب على فراشه، وصدى صوت (الفريد) يطارده:
الحكمة الحقيقية... والكرامة الإنسانية كلها انتهت.
ليس هناك ما يمنع من أن تدخل القبر ومعك موسيقاك.
الرجل والفنان.. معاً إلى القاع.

وتبدو شخصية (جوسستاف) الشخصية الرئيسية في الفيلم، وهي في الحقيقة أقرب أن تكون الشخصية الوحيدة، فجميع الشخصيات الثانوية هي صدى للشخصية الرئيسية، فشخصية (الفريد) هي العقل الباطن، حيث الهواجس والظنون والأسئلة؟ وشخصية (تادزيو) تعكس الفن والجمال والحياة.

لقد استجمع فيسكونتي خبرته الهائلة في الفن، عبر خمسة وثلاثين عاماً، وأودعها في هذا الفيلم عام1971م، والذي يعتبر نموذجاً من نماذج الأفلام السينمائية الكلاسيكية الخالصة المتزنة، التي توحي بطبيعة العصر، عن طريق لغة سينمائية غنية بمفردات التعبير السمعي البصري. من خلال استخدام إضاءة تأثيرية متدرجة الألوان، من الألوان الفاتحة مع شروق الشمس وبداية الحياة، إلى الألوان الغامقة مع غروب الشمس في نهاية الفيلم، وبين اللون الأبيض والأزرق.. وهما الألوان الأكثر كآبة حين يمزجان معاً، عندما يأتي الموت مع غروب الشمس والظلام على وشك الهبوط.

مشاهد ولقطات مختلفة الأحجام، من اللقطات البعيدة التي استخدمت للتعريف بزمان ومكان الأحداث، إلى اللقطات القريبة والقريبة جداً، التي تتابع تطور نمو العلاقة بين الشخصيات، وإظهار ردة الفعل النفسية. مع حركة الكاميرا السلسلة، من أجل خلق الإيقاع التراجيدي الهادئ في الفيلم، والإيحاء بالواقعية. كما وظفت حركات الكاميرا في الفيلم كوسيلة من وسائل التأمل والاندماج في العالم المرئي إلى أبعد الحدود.. من وجهة نظر ذاتية معبرة عن أفكار المخرج وتأملاته.

 لقد أبدع المخرج الفنان سيمفونية بصرية سمعية، بتوظيف موسيقى (غوستاف مالر) الموسيقي النمساوي البوهيمي المولود عام 1860م، والمتوفى عام 1911م، في كل مشاهد الفيلم، وبمستويات إيقاعية مختلفة تتناسب مع طبيعة الفعل الدرامي، من القلق إلى التأمل، من الفرح إلى الحزن، ومن الجمال إلى القبح بأسلوب واقعي يستخلص الجوهر من المظهر، حيث رسم فيسكونتي المتوفى عام 1976م لوحة فنية مدهشة عن الزمن المعاصر، من خلال تحليله العالم الداخلي لبطله المعذب، الذي هو على نحو ما العالم الداخلي لفيسكونتي نفسه، مما جعل فلم الموت في فينسيا قطعة من روح فيسكونتي، وتحفة سينمائية أخرى من تحف السينما العالمية.


هوامش: 1. يمثل المخرجان فيديريكو فللّيني، ومايكل أنجلو أنطونيوني أهم أقطاب الواقعية الجديدة في السينما الإيطالية.2. جيمس ماكين: أديب وروائي أمريكي 1892م-1977م. 3. ينيتو أندريا موسيليني: 1883م - 1945م، حكم إيطاليا ما بين العام 1922م والعام - 1943م. 4. بول توماس مان: 1878م-1955م، أديب ألماني حصل على جائزة نوبل 1926م، كان متأثراً بفلسفة شوبن هاور ونينشة، أدان في روايته الموت في فينسيا البرجوازية الألمانية.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها