الموسيقى والغناء في التراث العربي الإسلامي

د. محمد عماري



لقد اشتهر العرب منذ القدم بحب الموسيقى والغناء، ويعود ذلك بشكل أو بآخر إلى الشعر وما يتميز به من إيقاعات بسبب الأوزان والقوافي، والناظر في كتب التراث سيجد دلائل ومعطيات كثيرة، على مدى اهتمام أجدادنا بهذه الصنعة، وكيف نظروا إليها نظرة إجلال واحترام، وكيف حظي المجيدون فيها بكل تقدير وعناية، وكيف شغف بها الخلفاء والأمراء والقضاة والفلاسفة، وأعطوها حقها من الرعاية والتقدير.


وقد زاد من اهتمام العرب بالموسيقى والغناء كون الإسلام لم يمنعهما؛ يقول ابن عبد ربه الأندلسي في كتابه (العقد الفريد): "عندما جاء الإسلام، لم يمنع الغناء والموسيقى، وإن كان العرب أول أمرهم لم يهتموا بهما، لانشغالهم بالفتوح، ولكن تغير ظروف المجتمع العربي الجديد من الخشونة إلى الترف أظهر نواة نهضة غنائية موسيقية في بلاد العرب حتى اشتهرت بوجود أمهر المغنين فيها".

لقد شاع الغناء في الدولة العربية الإسلامية، وراجت بضاعته باتساع أسباب الحضارة والرخاء، وتكاثر المغنون لما شاهدوه من رغبة الخاصة في الغناء، فظهر جماعة من المهرة الموسيقيين، الذين أتقنوا هذه الصناعة وآلاتها اتقاناً حسناً.

وذروة تطور هذا المجال ستكون مع العصر الأموي حيث ظهرت الأغنية الفردية التي كانت تؤدى بمصاحبة العود، وأصبحت دمشق عاصمة للغناء والفنون العربية المختلفة، حتى إن الخليفة سليمان بن عبد الملك كان يجري المسابقات بين المغنين ويجزل لهم العطاء، وتذكر الكتب التاريخية أن الخليفة الوليد بن عبد الملك كرّم المغني "معبد" في حياته إكراماً بالغاً، ولما مرض آواه في قصره ليباشر علاجه أطباء الخليفة، ولما مات شيّعه بنفسه.

ومن أشهر المغنين في العهد الأموي الذين أتت على ذكرهم كتب التراث وخصصت لهم صفحات طويلة "سائب خاثر"، فقد كان أول من أسبغ الروح العربية على الغناء الفارسي وأول من استخدم العود بدل القضيب في الغناء، وقد تتلمذ على يديه "ابن سريج" الذي يعد من أعظم المغنين والملحنين في هذا العصر. ومن المغنين أيضاً الذين ذاع صيتهم في العصر الأموي هناك "معبد بن وهب"، والذي يعد أشهر من جمعوا حسن الصوت إلى البراعة في الغناء مع المقدرة على الضرب بالعود، وهناك أيضاً "ابن محرز" الذي قيل عنه إنه جمع كل النغمات في الغناء، و"ابن مسجع" الذي وصف بأبي الموسيقى العربية القديمة، حيث كان أول من وضع قواعد العزف والأداء والتلحين. أما من النساء فلمع اسم كل من "عزة الميلاء" و"حبابة" و"سلّامة" و"جميلة" وغيرهن.

أما فيما يخص الآلات الموسيقية في العصر الأموي فقد تسيدها العود، ثم يأتي من بعده في المرتبة الثانية الطنبور الذي كان شائع الاستخدام في سوريا والحجاز، كما استهدى الفنانون في هذه المرحلة التاريخية إلى استخدام الآلات الهوائية الخشبية كالمزمار، وكذلك استخدموا الطبل والدف لتمييز الإيقاع، فبدأت تلوح في الأفق بوادر تكوين الفرق الموسيقية.

أما في العصر العباسي فقد بلغت الموسيقى مرحلة أكثر تقدماً لاسيما في عهد هارون الرشيد الذي اقترن اسمه بالفنون والآداب؛ فقد كان مولعاً بالغناء والموسيقى حتى آثرهما على جميع شهوات نفسه، وكان ممن جعلوا للمغنين مراتب وطبقات، وقد سار على دربه ابنه الخليفة الأمين الذي كان بلاطه مكتظاً بالمغنين وذوي المواهب الفنية.

ومن أشهر المغنين في هذه المرحلة "إبراهيم الموصلي"، "ابن جامع"، "حكم الوردي"، "زلزل"، "إسحاق الموصلي"، "يحيى المكي"، "إبراهيم بن المهدي" وغيرهم، بل إن من الخلفاء العباسيين من كان يجيد الضرب على الآلات الموسيقية وله ولع شديد بالغناء؛ فالخليفة الواثق على سبيل المثال كان يتقن الغناء إتقاناً لم يسبقه إليه خليفة ولا ابن خليفة، وقد وضع بعض الأصوات والأنغام الجديدة، يقول السيوطي في كتابه (تاريخ الخلفاء): "كان الواثق أعظم الخلفاء بالغناء، وله أصوات وألحان عملها، نحو مائة صوت، وكان حاذقاً بضرب العود ورواية الأشعار والأخبار".

في العصر العباسي إذن يمكن أن نقول بأن الاهتمام بالموسيقى والغناء ساعد على نمو الذوق العام، وإقبال الناس على هذا الفن الجميل، وهذا ما أكده الأصفهاني في كتابه (الأغاني) حيث صرح: "أن الناس شغفوا بالغناء، حتى ليغني مغن على الجسر، فيجتمع حوله السامعون، ويخاف من سقوط الجسر بهم، وحتى كان بعضهم يكاد ينطح العمود برأسه من حسن الغناء".

هكذا إذن؛ يتبين لنا أن الموسيقى والطرب في الحضارة الإسلامية كان لهما حضور قوي في العهدين الأموي والعباسي، وهذا الحضور سيكون أكثر بروزاً في الأندلس بعد سحب البساط من بغداد لصالح قرطبة التي أصبحت مركزاً موسيقياً وثقافياً بارزاً. وقد اشتهر في هذه المرحلة المغني "زرياب" الذي تتلمذ ببغداد على يدي إسحق الموصلي ودرس في حلقاته الموسيقى الفارسية والعربية الشرقية، لكنه اختلف معه فاضطر إلى الرحيل نحو بلاد الأندلس والغناء في بلاط عبد الرحمن بن الحكم الذي أكرم وفادته وأعلى من شأنه، فاستغل "زرياب" الفرصة ليجعل من قرطبة حاضرة للفن تنافس ما كان يقام في بغداد، بل أكثر من ذلك صار "زرياب" من الذين أثروا في الموسيقى الأوربية آنذاك، سواء من خلال البعثات التي كانت تفد إلى مدينة قرطبة لتنهل من علمه وفنه الموسيقي، أو من خلال الجواري اللائي كن يتعلمن في مدرسة زرياب ثم يرسلن كهدايا لملوك وسادة البلاد الأوروبية.

وقبل الختم لا بد أن نشير إلى أن التطور الذي عرفته الموسيقى بالبلاد العربية الإسلامية رافقته عملية كبيرة من التأليف والنشر في هذا المجال، حيث ظهرت مجموعة من المصنفات التي تمت ترجمتها إلى لغات متعددة والتي لا زال الباحثون يشهدون بأهميتها وبقيمتها، من هذه الكتب نذكر: كتاب (الموسيقى الكبير) لمحمد أبي نصر الفارابي، وكتاب (محاسن الألحان) لابن سينا، وكتاب (الكافي في الموسيقى) لابن زيلة، وكتاب (الأغاني) ليونس الكاتب، وكتاب (الأغاني الكبير)، وكتاب (أغاني المعبد)، وكتاب (النغم والإيقاع)، وكتاب (الرقص والزمن) لإسحاق الموصلي. وكتب يعقوب بن إسحاق الكندي عدة مؤلفات نذكر منها: (رسالة في خبر صناعة التأليف)، (المصوتات الوترية من ذات الوتر الواحد إلى ذات العشرة أوتار)، (رسالة في الإيقاع)، (رسالة في أجزاء خبرية في الموسيقى)، (رسالة في الأخبار عن صناعة الموسيقى)، و(رسالة في اللحون والنغم) وغيرها.

لقد ازدهرت الموسيقى وتطورت في الحضارة الإسلامية إلى الحد الذي أصبحت فيه مؤثرة في نظيرتها العالمية؛ فقد كان للموسيقى العربية فضل السبق في وضع قواعد السلم الموسيقي وتحليله ودراسته بفضل جهود الكندي، والفارابي، وإسحاق الموصلي، وزرياب وغيرهم، عدا عن الآلات الموسيقية وتعدد أصنافها والتي عرفها العرب قبل الغرب بقرون عديدة؛ يقول المستشرق الإنجليزي هنري جورج فارمر Henry George Farmer في كتابه (تاريخ الموسيقى العربية حتَّى القرن الثالث الميلادي): "إن الآلات الموسيقية العربية الأندلسية تفوق الحصر، ويتعذر علينا أن نأتي على ذكر عشرها. لقد أوصل العرب الموسيقى وصناعة آلاتها إلى مرحلة الفنون الجميلة، وكتبوا عدة كتب ورسائل في كيفية ممارستها وتأديتها على أحسن ما يكون".

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها