الدمية أداة العرض

معرض مسرح الدمى بمولان الفرنسية.. تجارب رائدة

الزبير مهداد


كلمة "ماريونيت Marionnette" التي تعني في فرنسا مسرح الدمى، تقابلها في اللغة العربية عدة تسميات: "مسرح الدمى"، "مسرح العرائس"، "الكراكيز"، "الأراجوز"، وأحياناً "خيال الظل" وألفاظ أخرى. كلها تعني ذلك المسرح الذي تشكل الدمية الشخصية الرئيسة لعروضه.
 

خلافاً لما هو قائم في البلاد العربية، ففي أوروبا يحظى هذا الفن المسرحي النبيل بعناية خاصة، وله جمهوره وعشاقه من الصغار والكبار على السواء، ورجاله المتفرغون للتأليف فيه، والإخراج، ومهندسوه، ومصممو شخصياته، بل ونشأت شركات كبرى متخصصة في العمل في هذا الحقل الفني. ودعماً لكل هذه الجهود، ومشاركة في تأطيره، وتطويره، أحدث الأوروبيون معاهد عليا، وطنية ودولية تعنى بهذا الفن. ففي فرنسا مثلا تم افتتاح مركز التوثيق والمجموعات منذ عام 1981، مع إنشاء المعهد الدولي للدمى، وهو بمثابة دعم مستعرض لقطبي "البحث والابتكار" و"التدريب" مع المدرسة الوطنية العليا لفنون الدمى (ESNAM) و"خدمة التعليم الفني والثقافي". وهو مفتوح للاستشارة للجميع، المتخصصين والهواة على حد سواء، بكل اللغات الأوروبية.

يحفظ مركز التوثيق والمجموعات رصيداً وثائقياً ثميناً، يتألف من أكثر من 1500 دمية مسرحية متنوعة، تقليدية ومعاصرة، من جميع القارات. تم بناء المجموعات وتوسيعها على مر السنين من خلال المشتريات والهبات، إلى جانب الدمى التي صنعها الطلاب والأساتذة المحاضرون في المدرسة الوطنية العليا للفنون في شعبة مسرح العرائس (ESNAM)، فضلاً عن رصيد الأرشيف والوثائق الكثيرة حول هذا الفن. حين زرته خلال شهر سبتمبر، رفقة مجموعة باحثين في مسرح الأطفال، أصر مديره على دعوتنا لزيارة معرض الدمى، مؤكداً بأن المعرض مكسب لفن المسرح، ولن تكون الزيارة مضيعة للوقت، وكذلك كان، فالمعرض كان مفاجأة لم نتوقعها ولا خطرت بالبال.
 

المعرض

هذا الرصيد الثمين، أُتيحَ للعرض أمام المهتمين والخبراء وهواة هذا الفن، من خلال معرض مفتوح طيلة أزيد من خمسة أشهر (27 مايو – 6 نوفمبر 2023) أقيم في مدينة مولان الفرنسية، عنوانه "الدمى: أداة المسرح"، بفضل مبادرة المركز الوطني لأزياء المسرح CNCS بالشراكة مع المكتبة الوطنية الفرنسية، بمشاركة عدد من المؤسسات: منها مكتبة فرنسا الوطنية، والمعهد الدولي للدمى، والمدرسة الوطنية العليا لفنون الدمى، والمركز الوطني لأزياء المشهد، ومتحف المعهد المجري لتاريخ المسرح، مؤسسة دوبوفيه، إلى جانب المشاركة الفعالة والثمينة لبعض الفنانين والشركات المسرحية. أما المعروضات، فهي عينات ونماذج الدمى المسرحية، والصور الثابتة، ومجسمات عروض مسرحية، ومقاطع الفيديو، وبطاقات ودلائل تتضمن نصوصاً توضيحية وشارحة. كانت مساهمة المكتبة الوطنية الفرنسية بارزة ومهيمنة، بأزيد من مائة دمية مسرحية، وعدد كبير من الوثائق ذات القيمة التاريخية والفنية، التي تلقي أضواء كاشفة على تاريخ هذا الفن، وتتابع تطوره، واتجاهاته، وأعلامه، وأهم تجاربه. والأهم أن بعض الدمى المسرحية المعروضة، وعددها عشرون دمية، تعد تحفاً فنية ثمينة، لأنها من صنع بعض رواد هذا الفن قبل عدة عقود. ويشرك المعرض الجمهور في مواكبة ذلك، والاستمتاع به، والاستفادة منه، بطريقة تواصلية تفاعلية لطيفة ومؤثرة، تعتمد التكنولوجيا الحديثة، التي تسمح بسهولة الغوص في دهاليز وكواليس عالم الدمى المسرحية الإبداعي، منذ العقود الأولى للقرن الماضي إلى اليوم.

وزعت مواد المعرض على خمسة عشر رواقاً موضوعياً (15)، لكل رواق لوحة تضم عنوانه، ولمحة عن مكوناته ومحتواه، والتي إلى جانب تعليمات العروض الكثيرة، توضح الاتجاهات الجمالية في فن الدمى الإبداعي، خاصة في فرنسا، والتقنيات السائدة فيه، والإضافات التي أغنته بفضل اجتهاد رواده وابتكاراتهم. وتسمح للزائر بوضع قطع الدمى المعروضة في سياقها الدرامي الرائع. فالدمى تتمتع بفضل مرونتها، ومن خلال العاطفة والخيال الذي تثيره، بقوة إيحائية سحرية. تستحوذ على عاطفة الجمهور، وتنقله من حال إلى حال، في غضون لحظة قصيرة. فالدمى كائنات جامدة، إلا أن المسرحي الماهر يُقَوِّلُها الكثير، ويضفي عليها طابعاً بشرياً مؤثراً.

في ورشاتهم وغرف التدريب، يتخيل محركو الدمى وفرقهم الفنية أدوات مذهلة. ويستعينون بكافة التقنيات التقليدية والحديثة، في تحريك دماهم القفازية أو الخيطية أو الورقية أو غيرها، وفي عملية الإبداع بالورشة، تصبح الدمية نفسها مصدرًا للإلهام، وتشكل مع مصممها والجمهور ثلاثيًا ديناميكيًا، يفضي إلى ظهور عروض متعددة. لذلك من الممكن، كما تشرح إحدى اللوحات، "أن يطير الممثل بجناحيه، ويتلاعب بالمادة، ويصل إلى الجوهر، ويتجه نحو التجريد، ويجعل كل شيء مسطحًا، ويكون كل شيء، مع مسرح الأشياء".

غنى محتويات المعرض

لعله ما كان لهذه الإمكانات الوفيرة أن تتحقق وتصبح مشهدًا إلا إذا وجدت مكانها، في غرفة عرض، أو مسرح صغير، أو أعيد تحريكها بيد محرك ماهر متخف عن الأنظار. لكن المعرض، وحتى بدون محركي الدمى، أفلح إلى حد بعيد في تحقيق ذلك، بفضل حسن التدبير والتنظيم. يحكي القائمون على المعرض كيف تم تصميم دعامات الأعمال، ثبتت عليها العرائس، لكن بشكل يسمح بتحريكها كما في العرض المسرحي، وللقيام بذلك، تمت دراسة أوضاع الأعمال، وطريقة عرضها، بحيث تكون ممتعة للزائر عند النظر إليها أثناء تسليط الضوء على الدمية؛ مع الحرص الشديد من المنظمين على ضمان سلامتها من كل تلف قد تتعرض له، خاصة وأن بعض العرائس ذات قيمة تاريخية وفنية ما يجعلها بمثابة أعمال فنية نادرة، كما تم ترميم ومعالجة بعض الدمى، وأشرف على كل العمليات التقنية الدقيقة فريق من الخبراء، كان بعضهم يعامل العرائس بعطف خاص، كما يعامل أبناءه.

الدمى العشرون التي أعارها "المعهد العالي الوطني لفن مسرح الدمى" ESNAM للمعرض، مصدرها مجموعتاه التعليمية والتراثية، والتي يبلغ عددها 400 و1000 دمية على التوالي. وقد تم إنتاجها ضمن أنشطة منسوبي المعهد، باستثناء الدمى الورقية التي استعيرت من مجموعة محرك الدمى الفرنسي إيف جولي (1908-2013) الذي انضم إلى المعهد عام 2017:
1. دمى الطاولة Marionnettes sur table التي صنعها طلاب الدفعة السابعة في مدرسة إسنام لمسرحية "إنه عيد ميلاد ميشيل لكنها اختفت" تأليف فيليب مينيانا (2008).
2. دمى القفازات والدمى الاصطناعية المجسمة التي أنشأها باولو دوارتي وطلاب الصف العاشر من ESNAM للمشاركة بها خلال عرض نهاية العام الثاني (2016)، تحت إشراف Eloi Recoing.
3. دمى العصي Marionnettes à tiges التي صنعها إيف جولي لعرض Tragédie de papier (1957).
4. الدمى التي صنعها طلاب الدفعة الأولى لعرض "مخطوطة وجدت في سرقسطة" للمخرج رومان باسكا (1989).

أروقة غنية

إن المعرض، من خلال أروقته، يجسم ويعيد إحياء وبعث اللحظات التي تميزت بابتكارات في مسرح الدمى، وشكلت لحظات فارقة في تاريخه.

يشكل رواق السينوغرافيا نقطة انطلاق لكل الأروقة، ومفتاحاً لفهم مسرح الدمى والأطراف المتدخلة فيه، ليصحح الفهم السائد لهذا المسرح، الذي يوحي بأنه مسرح الممثل الواحد، والمنشط الواحد، فالرواق يستعرض المراحل التي تمر منها مسرحية الدمى، بدءاً من الكاتب ومكتبه وأدوات الكتابة، وانتهاء بالمتفرج، فالعرض لا يقتصر فقط على بناء دمية في ورشة عمل كما قد يتصور بعض الأشخاص. فالمسرحية يعالجها المؤلف، والمخرج، ومصمم الدمية، ومصمم الزي، وعامل الإضاءة، والأجهزة الصوتية، والديكور، وغرفة بروفة المؤدي، وكلهم يتدخلون في إنتاج عمل درامي يعتمد الدمى. والسينوغرافيا الحديثة أضحت تعتمد على عدة علوم وفنون متداخلة، كالتشكيل، والنجارة، والحدادة، والموسيقى، والتصوير، والأداء، وغير ذلك، كلها يمكن توظيفها واستثمار إمكاناتها، لإنتاج عمل درامي خليق بالمشاهد، صغيراً كان أو كبيراً.

أما رواق صنع الدمى، فيستعرض عدداً من الدمى المصنوعة من مواد مختلفة، فهناك دمى من ورق، وأخرى من شمع، أو رغوة، أو جبس، أو خشب، أو معدن، أو أقمشة، أو غير ذلك، وهناك دمى يدخل في تصنيعها عدد من المواد، بعضها يُكَوِّنُ الهيكل، وأخرى لتسوية الجسم وإكسابه شكله النهائي. إلى جانب خيوط أو أجهزة التحريك. بل يعرض الرواق دمى من ثلج ابتكرتها إيميلي فالانتين لتشخيص مسرحية "السيد" التي ألفها الكاتب الفرنسي كورنيل، هذه الدمى تذوب مع تقدم الحبكة.

تجارب رائدة

يحيي المعرض ذكرى عدد من رواد مسرح العرائس، الذين أسهموا في تطوير هذا الفن والنهوض به، ونشره، وتجويد أداء المشتغلين به، وتيسير استفادة واستمتاع الجمهور. سواء بفضل جهودهم كأفراد، أو من خلال المؤسسات الفنية التي أنشأوها، نذكر منهم:

إيف جولي Yves Joly (1908-2013) تميز إسهامه بتغيير الخلفية المزخرفة بأخرى سوداء، تبرز أشكال وألوان الدمى. واعتمد في عمله على استغلال الظلال التي تعكسها شخوصه المصممة بالورق المقوى، والاعتماد على الحركة، واستبعاد الحوار والكلام. ولاقت التجربة نجاحاً وإشادة، أهلته للفوز في مسابقات مسرح الشباب عام 1948، في مواجهة منافسين أقوياء. وكانت الجائزة اعترافاً بفن مسرح الدمى وقيمته في حد ذاته. وتميز أيضاً بتبسيط الدمى، وأشكاله الورقية، بحيث كان يمكن تقديم العروض بدمى القفازات، وأحياناً باعتماد اليدين مجردتين من أي دمى، مكتفياً بالظلال التي تعكسانها. وفي عام 1958، نال إيف جولي اعترافاً دولياً بحصوله على الجائزة الكبرى للأصالة والخيال، في المهرجان العالمي للدمى في بوخارست، الذي نظمته مارغريتا نيكوليسكو وجمع شركات من 16 دولة.

جيزا بلاتنر، مجري الأصل، فرنسي الإقامة. يعد أبا لمسرح العرائس الأوروبي الحديث، اشتغل في أعماله الأولى في "خيال الظل" على شخوص مسطحة يحركها بالخيوط. ثم انتقل إلى الدمى الخيطية المجسمة. لعرض La Tragédie de l'homme، في عام 1937، طور أداة تحريك الدمى، فابتكر تقنية مفاتيح، تشغلها أصابع اللاعب، ليحرك بها أطراف الدمى ببراعة، وبجودة عالية.

بينما أعاد آلان ليكوك في الثمانينيات اكتشاف القدرات والإمكانات الهائلة التي يتيحها استعمال الورق.

في حين أسهم جان بيير ليسكوت في إعادة اكتشاف الظل في أحد عروضه الرمزية، Taema ou la fiancée du Timbalier، الشخصيات، المجسمة من الورق المقوى، لها رؤوس ذات خطوط رسومية للغاية بينما تكون أجسامها القماشية مرنة وشفافة للغاية.

وطوّر جورج لافاي، الملقب بـ"أينشتاين العرائس"، في الخمسينيات ما أسماه مسرح "التحريك"، واستخدم تقنية "المسرح الأسود" الذي يعطي وهم إسقاط عروض سينمائية ذات أشكال هندسية وتجريدية، مثل Grand Combat أو Tempo أو Dérisoire Opera.

في عام 1973، ابتكر جان دوبوفيه مع كوكو بازار لوحة رسوم متحركة، وهي عبارة عن عرض، تتحرك وتندمج فيه العناصر الزخرفية والدمى المسكونة بالممثلين والأدوات العملية المفصلية.

وخصص رواقان لمساحات الدمية ومكان الفنان، مخفياً أو ظاهراً، من مسرح الدمى وأشكاله الرمزية إلى الدمية على الطاولة أو المسرح العاري. أحد الرواقين يستعرض تجربة المخرج المسرحي غاستون باتي Gaston Baty الذي طور شغفه بفن الدمى، فصمم بعد الحرب العالمية الثانية في منزله مسرحاً مصغراً، باستخدام مواد بسيطة، عرض فيها مسرحية "فاوست" التي تميزت بدمى ذات الرؤوس الخشبية المنحوتة بشكل معبر.

ورواق يستعرض علاقة مسرح الدمى بفن السيرك الذي أفلح جاك تشيسنيه بشكل باهر في تشخيصه في عرض مسرحي أبطاله من الدمى الخيطية، كشف خلاله عن مهارة فائقة في التحكم في تحريك الدمى. تستجيب خفة الشخصيات لروح الدعابة والخيال في السيرك.

إن ما يجمع بين هؤلاء الذين اختلفت أصولهم الجغرافية، فعاشوا في مدن وفترات مختلفة في فرنسا، هو أنهم كلهم يشتركون في كونهم متعددي المواهب، فهم فنانو تحريك الدمى، ومخرجون، وكتاب نصوص، وسينوغرافيون، ومصممو ديكور، ورسامون، وباحثون أيضاً في مسرح الدمى، خلف أكثرهم كتباً ودراساتٍ مهمةً، تنم عن تكوين عميق في هذا المجال، وإلمام واسع بحقوله وميادينه وتقنياته (خيال الظل، القفاز، العمود، الخيط إلخ). فلم يحصروا اهتمامهم ومعرفتهم بحقل معين، وسعة المعرفة التي تمتعوا بها، وتنوع مواهبهم جعلهم يستثمرونها في فنهم، ما مكنهم من الإسهام في تطويره.

أثر التكنولوجيا الحديثة

وفي العصر الحديث أثر التطور التقني على كل الميادين، ففي النصف الثاني من القرن 20 اعتمد لافاي على مصادر الأشعة فوق البنفسجية ووظفها في مسرحه، ومع تسارع التطورات التكنولوجية، خاصة في مجال التواصل وعلوم الكمبيوتر، تم توظيف كثير من التقنيات الحديثة في المسرح، باعتماد تكنولوجيا الحاسوب، والروبوتيك، ومواد متطورة ومرنة كالسيليكون، وابتكار دمى إلكترونية، تحاكي الأجساد الحية الطبيعية، يتم تحريكها بطرق تقنية معقدة، هذه المبادرات قادتها في أغلب الأحيان شركات تنشط في مجال مسرح الدمى. وترصد لذلك موارد بشرية هامة، لم تكتف بالاشتغال على نصوص مسرحية موجهة للصغار، بل تعدت ذلك إلى التعامل مع نصوص مسرح الكبار مما كتب موليير ونوفاريتا، وغيرهما.

إن هذا المعرض الذي سيواصل فتح أبوابه في وجه عشاق فن مسرح الدمى إلى غاية 6 نوفمبر 2023، يدعو الزوار بمحبة، إلى الانغماس في عالم الإبداع المسرحي، من خلال إعادة تشييد عوامل، وإعادة بعثها من سباتها، وإحياء ما اندثر منها، وتسليط الضوء على اتجاهاتها وتطورها.

إن المعرض الذي تكتظ أروقته بالزوار كل يوم، كباراً وصغاراً، على اختلاف طبقاتهم، واهتماماتهم، ومهنهم، يعكس عشق وتقديس الأمة للفن، ونظرتهم إلى أعلامه، وتقديرهم للإبداع، ويكشف عن المهارة التدبيرية والتنظيمية التي يعالجون بها الفنون، وطريقة عرضها لنشر الوعي بأهميتها، وترسيخ محبتها في الجمهور، وتلبية حاجة عشاقها إلى معانقتها بكل حرية وتلقائية ومحبة.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها