يوسف شاهين (1926–2008)

السينما بين سيرة الذات وجدلية التاريخ والخيال

محمد سليمان الرجب



يُعدّ يوسف شاهين من أهم المخرجين العرب الذين لعبت أفلامهم دوراً مهماً في ترسيخ وعي سينمائي مختلف، يثير الجدل والتأمل والسؤال؛ لأنها أفلام مشغولة بالعلاقات الإنسانية، بمستوياتها المختلفة، كما هي مشغولة بهوية الفرد والمجتمع، والعلاقة مع الآخر، مكوناً بذلك سينما تحرض الوعي، وتحفزه سواء اتفقت مع رؤيته أم اختلفت، لا تملك إلا أن تضع عبقريته الإخراجية في مقامها اللائق في المشهد السينمائي العالمي.
 

فمنذ أول أفلامه "بابا أمين" إلى آخر أفلامه "هي فوضى" الذي شاركه في إخراجه تلميذه خالد يوسف، استطاع يوسف شاهين أن يرسخ ريادته وتأسيسه لسينما مصرية مختلفة، سواء على مستوى الفكرة والأطروحة الثقافية، والفكرية، اجتماعياً وسياسياً وتاريخياً، أو على مستوى المعالجة الدرامية، والرؤية الإخراجية، برهاناتها المفتوحة على التعدد والتجريب بكل آلياته ومفرداته الجمالية والفنية، لتقديم رؤية إخراجية وفكرية وثقافية مغايرة للمألوف.

لذلك كان التجريب هو السمة الأساسية التي وسمت سينما شاهين، في ارتياد مناطق تعبيرية وجمالية جديدة، وذلك ليس بفعل المثاقفة والتفاعل مع مستجدات السينما العالمية واستلهام تجاربها الطليعية؛ لتطوير لغته السينمائية وتثوير تقنياته في الكتابة والإخراج، وتنويع الثيمات وتعميق التفكير في الذات والآخر والعلاقات والعالم والهوية والاختلاف، بل أيضاً بتلك الرغبة الذاتية في ترسيخ نهج سينمائي متفرد، بعيداً عن الأساليب الفنية المعهودة في السينما المصرية الكلاسيكية التي كانت سائدة في ثلاثينيات القرن الفائت، ما جعل أفلامه بكل أشكالها وأساليبها، مثيرة للقلق والسؤال والجدل، والاستكشاف المستمر والشمولية الفنية والتعبيرية، بارتكازه على عدة محاور وعوالم تمثلت في الانفتاح على الذات ومجاهل الوجدان الفردي. فضلًا عن الأطروحة الاجتماعية برصد التحولات التي طرأت على المجتمع المصري، كما هو الانفتاح على المستجدات السياسية والثقافية والحضارية إلى جانب الرهان على التاريخ، والموضوعات الإثنوغرافيا في أكثر من رهان فني جمالي في أفلامه، عبر تغيير مواقع الارتكاز في السينما المصرية، ما تطلب تغيير الأساليب الفنية التي ارتهنت إليها سينما شاهين.

وإذا أردنا أن نتوقف عند أهم الملامح التي وسمت أسلوبه السينمائي، فيمكن أن نشير إلى بعض تلك الملامح التي لا يغفل عنها المتابع لمسيرته السينمائية، التي قاربت 37 فيلماً على مدى خمسين عاماً، ومن هذه الملامح الرهان على توظيف الكثير من المعطيات الثقافية الإثنوغرافية النوبية أحياناً، وذلك لتوسيع فاعلية السياق الدرامي، عبر التركيز على جاذبية الفضاءات والأمكنة، ودورها في تشكيل الأمزجة والحساسيات واتجاهات السلوك، وغير ذلك من الفضاءات التي كان يختبرها شاهين في سينماه.

ومن ملامح سينما شاهين أيضاً، استشرافها لآفاق جديدة مشتركة مرتكز على الهويات والحريات وحوار الثقافات والحضارات وأطروحات العولمة، وأثرها على الفرد والمجتمع، والعلاقات الإنسانية، فضلًا عن أطروحاته حول أزمة الذات الفردية، وتحولات المجتمع، كما في فيلم المصير وغيره، فضلًا عن استنطاقه للتاريخ وخفاياه، والمسكوت عنه فيه، وزواياه المعتمة، حيث كان التوجه إلى التاريخ من أبرز سمات وملامح سينما يوسف شاهين، منذ فيلمه (جميلة) الذي كان فاتحة الرهان على إعادة إنتاج التاريخ، لتتالى بعدها أفلامه التاريخية "المهاجر - المصير - الناصر صلاح الدين - الوداع يا بونابرت - جميلة بوحريد - علّي صوتك.." مرتهناً إلى التعامل مع الأطروحة التاريخية برؤية جديدة ومختلفة، درامياً، وإخراجياً وفنياً، مطوعاً التاريخ لمعطيات الخيال السينمائي، بما ينسجم مع الحاضر، ومتطلبات الدراما، وملابساتها، بتكييف ذلك مع رؤية إخراجية متفردة.

لقد تنقل شاهين بين العديد من الأساليب والأنماط السينائية مثل "الميلودراما، الكوميديا الخفيفة، الفيلم التاريخي، الفيلم السياسي، المأساة الغنائية، السيرة الذاتية، والأفلام التسجيلية والفانتازية". وحسب النقاد فالسينما لديه لم تكن ترتهن إلى بلاغة اللغة الأيديولوجية؛ وإنما كان رهانها الأكبر على ملامسة قضايا الفرد والمجتمع والعالم ملامسة مستكشفة وناقدة، حيث تنوعت أفلامه في مواضيعها وأطروحاتها فاختبر الصراع الطبقي في أفلام صراع في الوادي -الأرض- عودة الابن الضال – كما اختبر الصراع الوطني والاجتماعي في أفلام -جميلة- وداعاً بونابرت، والصراع النفسي المرتبط ببعد اجتماعي في أفلام "باب الحديد - الاختيار - فجر يوم جديد"، كما اختبر السيرة الذاتية في رباعيته السينمائية في أفلام" إسكندرية... ليه؟ - حدوتة مصرية - إسكندرية كمان وكمان - إسكندرية – نيويورك".

فسينما شاهين هي سينما الجدل والمساءلة، للذات والتاريخ، مرتهناً إلى قيمة الفن، كمرجع ومعيار لهذه التساؤلات، عبر أعمال يتماهى فيها الذاتي بالموضوعي، الأنا والآخر، الثقافي والسياسي، السيرة الذاتية والتاريخ، السرد واللّاسرد، الروائي والوثائقي... محاولا الكشف عن المسار التعددي للمجتمع، ثقافياً ومعرفياً وسياسياً واقتصادياً.

كما عمل يوسف شاهين على توظيف كل الفنون التعبيرية المتاحة في أكثر من فيلم، لتقديم أعمال سينمائية ذات كثافة درامية، وذات غنى فكري وفني وجمالي، محاولًا أن يوظف الموسيقى والغناء والرقص، والتوثيق والفضاءات الموحية، ما جعل سينماه تحقق الشمول الفني، برهاناته المختلفة. أسلوباً ومعالجةً ورؤية فنية جديدة.

ما زالت سينما يوسف شاهين قادرة حتى الآن على إثارة الجدل، فهي أفلام تمتلك استمرارية؛ لأنها لم تكن ترتهن إلى مقولة ضيقة، بل كان رهانها الأوسع الحفر في الرؤى الإنسانية الواسعة، وهذا الأمر هو الذي جعل النقاد يختلفون حول مشروع يوسف شاهين الفني فمنهم من يراه مخرجاً عبقرياً، وآخرون اعتبروا أفلامه غامضة غير مفهومة للعامة، وأن رؤيته الفنية معقدة وغير واضحة.

ولعل هذا الجدل ذاته إنما هو تأكيد على أهمية يوسف شاهين كعلامة فارقة في السينما العربية، أخلص للسينما إخلاصها له، موقناً أن الفنان الملتزم هو الذي يتقبل مسؤوليات اختياره بسلبياته وإيجابياته. فالمعيار لديه هو الجمهور وخيارات المتعة التي يحاول أن يوصلها للمشاهد، سواء عبر الحدوتة، أو عبر الصورة، أو عبر التشكيل السينمائي كخطاب له رهاناته وخياراته، ومفرداته الفنية الجمالية، التي تلبي احتياجات الجمهور العام، كما تلبي احتياجات السينما ذاتها إلى مسار جديد حداثي مختلف.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها