بين سطوة الأسطورة وحضور الواقع، وامتداد الذاكرة عبر مساحة الوطن الجريح. وحين يصبح الترحال من غربة إلى غربة.. واقع مرير لا مفرَّ منه، وتحمل على ظهرك دجلة والفرات، وعمالقة العراق بنخله وتاريخه، وحريق بغداد والكتب. واستباحة دم المكتبات على الأرصفة.
لعلّك توقن أنّك بحاجة للشاهد الذي رأى!
وساجدة الموسوي كانت شاهداً حيّاً رقنت شهادتها في ديوانها مستفتحةً: بالبيت الأول من ملحمة جلجامش، والذي يقول "أنا الذي رأى كلَّ شيءٍ فغنّي لي يا بلادي"
فالبلاد آلت للخراب.. ونينوى ما زالت تمر من خاصرة الأرض إلى خاصرة السماء.. ولكن من يوثق هذا التاريخ؟
وهنا تكمن معضلة السؤال، ولا تقوى سوى اللغة عليه؛ لأنها مفتاح التوثيق والتغيير. وهي سخيّة تجود حسب حاملها.
وصاحبة هذه اللغة امتلكت ناصيتها منذ ريعان الصبا. فأتقنت سماع الأهازيج والمواويل وقصص الليل وأحاديث الحيّ والحرب الصاخبة. ومضت في مشوار شعري بهيّ أثمر إلى الآن سبعة عشر ديواناً شعرياً.. متضمناً المعنى والمغزى في الإشارة والدلالة داخل النّص الأدبي والذي يقضّ مضجعك حين تقرأه.
وحين تبوح الشاعرة المرأة العاشقة، والأم الحنون والنخلة الشامخة بالحنين تبكي، ونبكي معها، وحين تدوّن قصائدها وتَسِمُها بـ"أنا مَن رأى" تستيقن أنّك أمام امرأة شاهدة، عبرت مِن ضفاف دجلة وخرجت منذ حريقها إلى تخوم الأرض، فما وسعتها الأرض وإن رحبتْ، وبقيت كطائر جريح يقضُّ مضجع القصائد حين تنام فيُلهب نارها من فينة لأخرى، وتوقّع على صكوك الغربة والهجرة لنا، ولهم نحن الذين أتخمنا وجع الأوطان.

تتراوح أساليبها بين النداء إلى الاستفهام والحوار، واستخدام الإخبار بأسلوب قصصي وبالإخبار المُعلن مسبقاً. في قصيدة حنين:
سرى صوتها في عروقي
فأذكى الحنين
قلتُ يا أمُّ قد رابني منك هذا البكاء
وهذا النشيجُ الحزين
لم تجبْ.. وتأمّلتُ ما فقدت
وماذا بقي
فأدركتُ أنّ الدموع الغوالي
لم تكن عبثاً
بل رذاذاً لقلب تشظّى
على وطنٍ وبنين
والمرأة حين تكون شاهدة تُصبح عملاقاً يقضُّ مضجعنا.. فلا تفكُّ عن البكاء ولا عن الذكرى، ولا تطفئ شموع المقابر.
لقد اتكأت على جلجامش الأسطورة لندرك زعيق الأرواح التي ما علمنا بها، وهي تتكأ على موتها.
فماذا رأيت يا صاحبي حين مررت بشارعه/ شارع المتنبي/ وأدركت أنّه بكل جبروت شعره الذي مرّ عبر الزمن وقف باكياً حين/ رأى/ حريق الكتب وهي تطقطق روحها تحت أزيز النار. وماذا رأيت من سجانّك حين كنت وإياه في نفس السجن تعيدان كتابة الحكاية من جديد.
وفي زمن ما كنتُ وإيّاكَ وإيّاكِ من ساكني أرصفة الكتب. في دمشق وبغداد.. ولكنهم سرقوا تلك الأرصفة وما زلتُ: أقول لو ولو أنني حملت أذرعا أربعة لكنت حظيت بقراءة ذلك الديوان أو ذاك! فبقي مني ومنك دمع نازف على تلك الأرصفة والتي كانت تحمل تاريخ وذاكرة الأوطان.
لقد أدركت الشاعرة ساجدة الموسوي هذا الدمع النازف على وطن كان تاريخه المكتوب في صهيل الأرجل التي دبّت على الأرصفة في شارع المتنبي، وقد أبدعت في قصيدة/ أنا من رأى/ والتي ترثي فيها أمة كاملة حين تُعيد لنا في كل سانحة ذكرى وكأنها تعيد حريق المغول. لتذكرنا أن حرائق أوطاننا هي من الداخل أيضاً. وتكون الشاهد الحي.. إذ تقول في قصيدتها:
أنا من رأى
قم فاقرأ الألواحَ
لا ما قالت الأخبار.. لا الصُّحفُ
ينبئْك فيها الطّين:
أنا منذ آلافٍ هززتُ الأرض كي تعطي
...
وشرعتُ أكتبُ للدنيا أناشيدي
وأنصرفُ
فماذا قد جرى للأرضِ.. للتاريخِ.. للدنيا؟
دمي يجري ولا مَنْ قال للدنيا كفى
ولا مَنْ قال يا أسفُ!
أدركتُ لا عتبى على أحد..
لملمتُ جرحي
وها إنّي بكل العزم ِ ألتحفُ
وها قمتُ
وها أسرجتُ خيلَ الرّوحِ كي أعدو فلا أقفُ
ولي فوق احتمال العادياتِ السّود
صبرٌ
منه أغترفُ
...
وأنا السجينُ أرى الأغلال
في أعماق سجّاني
...
ظلامٌ في سما عينيك يا دنيا
وهم إن يُذكرِ اسمي كلّهم رجفوا
أنا الفتّانُ.. أنا الربّانُ..
أنا القانونُ والميزانُ
...
قريباً كلُّ ما خبأتُ ينكشفُ
قريباً كلُّ ما خبأتُ ينكشفُ
وهنا ندرك الدور الذي ينوط بالنص الشعري المُتنبئ والذي يتنبأ كما العراف العارف بحركة الشارع.. ويغدو الشاعر -كما شاعرتنا- عرافاً نعم سيدتي يكشف الطريق القادم. قريباً.. حتى لو كنا نجلس فوق وجوه المقابر ونضيء بدمعنا أشرعة الذين عبروا. فطوبى للقادمين على أشرعة النّصر. وطوبى للذين يقضون مضاجعنا كي لا ينام الدمع. وطوبى لك تحملين وطناً في لغة يعزّ علينا أن نقرأها بصوتنا؛ كي لا نجرح روحك فيها.
تأتي بقصائدها وهي تقض مضجعنا إلى النور، ويصبح من حق ساكني أرصفة الكتب التوقف والتدبر والقراءة من جديد. وقد أشارت في قصيدتها "كان ياما كان" إلى ما سيقوله الرواة بعد زمان طال أم قصر؛ فهي رؤيا مستقبلية لديها يقين بها:
كان يا ما كان
وفي سالفِ العصرِ عصرِ الجنون
أنَّ سوقاً ببغدادَ قيل احترق
نفيسُ ذخائرِهِ ليس ماساً ولا ذهباً
هو أغلى
...
أي عاشقة للوطن ترى هي ساجدة؟
إنّك تدرك ذلك حين تقرأ قصة مولد عشق بينها، وبين العراق في قصيدة "أحبك":
هبطنا من الزّمن البابليّ
على الأرضِ مَنّاً وسلوى
عقدوا حبل سرّي بسرّك
فصارَ دمي من دمك
وقابلتي البابليّةُ مرّت
بمِرودها الذّهبي
بين عيني وعينك
فصرتُ أرى ما ترى
...
أيكفيك قلبي الصغير
يا أميرَ الدّنا
يا عراقي الحبيب؟
خذهُ قطرةَ ماءٍ
على وردِ كفك
خذهُ نجمةَ صبحٍ على هامِ نخلك
وأبقى أحبك"
ما أدهشني -كقارئة- تلك الريح الناعمة، وهي موسيقى النصوص الداخلية التي كانت تعصف بروحي كلما مضيت قدماً في القراءة. والتي كانت تشدني منذ الدّفة الأولى وروح القصائد التي كانت تغريني بالمضي قدماً نحو داخل البحر بلا هوادة. كانت تنقلني في لحظة عابرة من الخاص إلى العام، فأجلس معها وهي تدندن باللهجة المحلية وتضعها ببراعة في نصها الشعري، فتسمع الأمهات يثرثرن بالقصيد في شعرها، وتسمع الطرقات تنثر لهيب شوقها لأقدام الذين عبروا.. أمضي مما يجعلني في حيرة أثناء القراءة. ترى أنحن أمام رثاء عزيز قريب؟ أم رثاء وطن عزيز يشترك الجميع بفقده؟
كنت أعي وأنا أقرأ أن الشاعرة تشتغل على نصها بوعي وذاكرة تاريخية، تريد التوثيق عبر النص الأدبي، فلا تمر مرور الكرام على السطح، بل توظف الأماكن والأسماء كي يبحث القارئ عنهم.
ترى مَن هم؟ أمي أم أمها؟ إخوتي أم إخوتها؟ وطني أم وطنها؟ انظر ما تقوله لأسيل / ابنتها:
أسيل الرّوح
"إلى ابنتي الغالية أسيل"
أطلّي على غربتي نجمةً
في ليالي انتظاري.. اذكريني
أفيضي على لهفتي مطراً
جفَّ وردُ اصطباري
أما تمطريني؟
كما وثقت في قصائدها جغرافيا الوطن بين المدن التي حملتها في ذاكرتها/ بغداد/البليدة/ جيبول/ بيروت.. وبين الأشخاص الذين كما أسلفت هم جزء من حكاية الوطن: يوسف الهويني/ شريفة الشملان/ زها حديد.
ساجدة تعيد ترتيب الزمن كما تراه من منظورها الشعري، تدخل بلا وجل إلى عالم سقراط وجلجامش، وتطير فوق المدن غير آبهة بعسرة جواز السفر الذي يعيق رحيقها كفراشة شعر من زهرة إلى زهرة، فتقول في قصيدة "وتسألني":
وتسألني:
أما زال كلكامشُ الأمسِ يبحثُ
عن عشبةٍ للخلود
أما زال يغزلُ من وهج ِالشّمسِ
أشرعةً ويشدُّ على أظهر الخيلِ راياتهِ
للبعيد.. البعيد
أحقّاً تموت الرّياحين في كفّهِ
ويعود يواصل مشواره للخلود
وتحمل مغامرة استخدام تقنية الحوار في النص الشعري بعض المخاطرة؛ لتعدد الصوت الشعري عند المتحاورين وقدرة الشاعر على الاختباء خلفهم بصوته الشعري. وقد أدهشتني نمنمات الحوار في قصيدة طفلة ودمعة: فالحكاية بدأت بفاجعة السؤال: لماذا تبكين يا أمي؟ ونحن نعرف كيف تبكي الأمهات دمعها النازف. وهنا مرّرت بيسر كل أوجاع الأمهات على موائد السلاطين.
ما هذي الدمعةُ يا أمّي؟
هي قطرةُ ماءٍ من قلبي
يا قرّة عيني وسنيني
هل يبكي قلبك يا أمّي؟
ولماذا لا يبكي والدنيا أجمعُها تبكي؟
ونذير الأخبار يهزُّ عواصم
حين يموت الناسُ بداءٍ ملتبسٍ مجنونٍ
وتصير بيوت الناس سجوناً..
عصرٌ مرتبكٌ لاهٍ
لا ندري هل هو مخمورٌ
أم نائم؟
حائرةٌ روحي تتفكّرُ في أمر الدنيا
الجوعُ طواحينُ عذابٍ لا ترحم
والبرد يفتت أكباد الأطفال الفقراء
في كلّ شتاء!
وسلاطين المال بها صمم وعماء
شحَّت أفئدة الخير ومات ضمير العالم
ولم تترك تقنية القص أيضاً جانباً في هذا الديوان، فكان للقص نصيب في شعرها، فالقصة في النص الشعري تقنية جميلة ولكنها تحيلك إلى البعد الحقيقي لتلك القصة ولتلك اللعبة وتشي بالعبرة، تحيرك كقارئ بين الموسيقى والقصة إنها/ قصة لعبة الأم والذئب/ وتوظفها هنا لنقول عبرتها/ لقد ظل الذئب يمزقنا:
لعبة الأمّ والذّئب
أتذكّرُ كنّا في الحيِّ صغاراً
نلعبُ معركة الأمّ مع الذّئبِ
وكنّا
...
مرَّ زمانٌ
ما عدنا نتذكّرُ تلك اللّعبةِ
حتى جاء زمانٌ آخرُ... ذئبٌ آخر
ذئبٌ من حقدٍ.. جشعٍ.. نهبٍ
ذئبٌ من إثمٍ.. زورٍ.. كذبٍ
وجرائمَ يصعُب أن تُذكر
هو ذاتُ الذّئبِ المتوحّشِ
ذاتُ السّاحةِ
لكن لا أمَّ اليوم لنا تحمينا
قد رحلت تلك الأمُّ
وظلَّ الذّئب يمزّقُ فينا
كلما أعيد قراءة الديوان أكتشف المزيد فلله درك من مليحة القول والشعر.
ختاماً؛
مدهشة في الغزل هي صبية مليحة القول، وسيدة الفصول الأربعة في قصائدها.
فهل يحق لنا أن نقول إن لغة الشاعرة حملت قضية الوطن. وتمكنت من نقد قرارات السلاطين وكؤوس نبيذهم المترعة من دمع الأمهات، ودم العذارى المنتظرات على مشارف المدن.