
الرّقة مدينة سورية تعدّ من أهمّ مدن الجزيرة التي تقع على الضفة الشرقية لنهر الفرات، على بعد حوالي 160كم شرق مدينة حلب. وتعني -حسب (ياقوت الحموي) في (معجم البلدان)– كل أرض إلى جانب وادٍ ينبسطُ عليها الماء، وجمعها رقاق، والرّقاق الأرض اللينة، قال الأصمعي فيها:
كأنّها بين الرّقاق والخمر ... إذ تبارين شآبيب مطرِ
حتى عام 1962 كانت الرّقة يطلق عليها اسم محافظة الرشيد، إلى أن صدر مرسوم في عهد الرئيس السوري ناظم القدسي بتاريخ 30/4/1962 بموجبه أُطلقَ عليها اسم محافظة الرّقة.
خاصرة الفرات
أَمَّا موقعها الهام، فهو الذي جعل منها محطة تجارية، بين الجزيرة الفراتية والشام والعراق وأرمينيا، وآسيا الصّغرى، والبحر المتوسط، وامتداد أراضيها الخصبة، وغزارة المياه التي فيها. إذ يمر نهر الفرات فيها، لذا اعتبرت مدينة تاريخية، والفرات يعدّ من الأنهار الكبيرة والمقدّسة؛ إذ ذكر في القرآن، والأساطير، وله شهرة واسعة في العصور القديمة، ويعدّ طريقاً مائياً هامّاً، سلكته السّفن باتجاه أصقاع شتى، لهذا بُنيت القلاع منذ القديم على ضفتيه، لحماية طرقه ومدنه وقراه، فهو لا يزال يفاخر بتلك الممالك القديمة والقلاع وآثار بقايا عناصر الحياة، التي كانت من حمامات وأبراج جنائزية وأديرة، وحصون وكهوف، ومدافن وقصور ورجوم، وزقورات ومنارات. وحتى عام 1962 كانت تسمى محافظة الرشيد إلى أن أصدر رئيس الجمهورية أنذاك ناظم القدسي مرسوم بتسميتها (محافظة الرّقة).

أباطرة وخلفاء
كانت الرّقة عبارة عن إمارة آرامية تدعى (بيت آدين)، وعاصمتها (تل برسيب)، ثم سُميت في العهد الإغريقي باسم (نيكفوريوم)، ويُقال إنّ سلوقس الأول، بناها، ثمّ جدّد بناءها قالينيقوس وهو أحد قواد الإسكندر المقدوني، وأطلق عليها اسم (قالينيقوس) باسمه، (ويقول البعض إنّ الاسم يعود إلى الفيلسوف اليوناني كالينيكوس الذي يعتقد أنه توفي في الرّقة)، وقد سُميت بعدئذٍ بأسماء عديدة، إلا أنّ اسمها الأخير والقديم غلب عليها جميعاً، فتحها العرب (حسب ياقوت الحموي) سنة 17 للهجرة، وقد قال سهيل بن عدي القائد الذي كان في جيش عياض بن غنم، الذي أرسله عمر بن الخطاب لفتحها:
وصادفنا الفراتَ غداة سرنا ... إلى أهل الجزيرة بالعوالي
أخذنا الرّقة البيضاء لمّا ... رأينا الشهر لوّح بالهلال
وبين عامي 796و808 استعمل الخليفة العباسي هارون الرشيد الرّقة عاصمة رديفة له أيضاً، وأصبحت المدينة مركزاً علمياً وثقافياً مُهماً.

آثار الرقة
الطراز البغدادي
يُذكر أنّ الخليفة المنصور، أمر ابنه المهدي لبني الرّافقة، على طراز بغداد، قريباً من الرّقة البيزنطية، فبنيت أسوارها على هيئة أسوار بغداد. كما جاءت بيوتها وأبوابها تشبه بيوت بغداد وأبوابها... فكان باب بغداد، والثاني باب الجنان، والثالث باب أورفة؛ إذ يصل آسيا الصغرى بالرّقة، وفي عهد الخليفة هارون الرشيد بنى قصراً له في الرّقة سمّاه (قصر السلام)، وقد أصبح مهوى قلوب الشعراء، ومحط أنظار العلماء والمفكرين، حيث نالت الرّقة منه اهتماماً وحظوة، وأورقت علماً وأدباً وعمراناً وتراثاً. وفي الضفة الغربية توجد رقة واسط، بناها الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك، وبنى فيها قصرين، كان ينزل فيهما أثناء ذهابه إلى مدينة الرّصافة الأثرية، فسميت باسم رصافة هشام. كما زارها الخليفة علي بن أبي طالب، وقد طلب من أهلها، أن يمدّوا له جسراً من السّفن على الفرات، ليعبر إلى طريق الشام.
ملوك وسلاطين وأماكن أثرية
ومنذ القديم عُرفت الرّقة بأماكنها الأثرية، وكشفت الحفريات فيها عن آثار تعود إلى العصر العباسي (1258م)، ومن أهم الآثار الباقية في المدينة قصر العذارى، والجامع الكبير الذي بني في القرن 8 الميلادي، وتحتوي المدينة أيضاً على آثار أخرى كالرّصافة، أشار إليه الشاعر أبو نواس في بشِعره، حين حلّ بالمكان، وكذلك اشتهرت بقلعة جعبر، التي تعود إلى ما قبل الإسلام، وفيها منارة عالية، مبنية من الآجر، وكان الفرات يمرّ من تحتها، وقد سُميت القلعة بهذا الاسم، نسبة إلى الأمير جعبر الملقب بـ"سابق الدين القشيري"، وقد كانت حاضرة قديمة، وما تزال تسهم في إبداع المارين بها، والمندهشين بموقعها وسط المياه، وفيها المسجد الجامع الذي بناه أبو جعفر المنصور سنة 155 هـ 771م، وأنشأه من الطوب اللبن، ويُظن أنَّ الرشيد كان قد هدم أجزاءً كبيرةً من الجامع، وأعاد بناءه بالآجر شأنه في ذلك، شأن جميع المنشآت العمرانية التي تعود إلى زمن المنصور في بغداد، والبصرة، والكوفة.

لوحة رسمها التاريخ ووهبها للمكان
كما اشتهرت الرّقة بأديرتها؛ إذ كانت مركز أسقفية، وبقربها ديرٌ عظيم هو دير (زكّى) يقع شرقي باب بغداد، على نحو ثلاثة كيلو مترات من الرّقة، على تل يُعرف بتل البيعة، وهذا الدير كان مُوحياً ومُلهماً لعدد كبير من الشعراء، ويُقال إنّ الملوك والسلاطين إذا مرّوا بدير زكّى نزلوا فيه، وبقوا فيه أياماً لما يتمتع به، من حسن العمارة وإيحاء المكان وطيبه، وقد وصفه الشابشتي في كتابه (الديّارات) قائلاً: (... ليس يخلو من المتطربين لطيبه، سيما أيام الرّبيع، فإنّ له في ذلك الوقت منظراً عجيباً)). وقال فيه الشاعر سعد الوراق قصيدة حزينة، يدمج المكان بعزيز له ترهّب في الدّير ولم يعد يراه، فذهب إلى هناك والتصق بباب الدّير، وبكى حتى انفطر قلبه، وقُتِلَ من قبل الرهبان.
ومن الشعراء الذين استلهموا المكان الرّقي وأثر بهم، الشاعر الأمويّ جرير، والشاعر الأخطل الذي دار في أسواقها، وأذهله كثرة العطّارين في السوق فقال:
إذا الرّقة البيضاء لاحت بروجها ... فدى كلّ عطارٍ بها أم مريم
وخلال العهد الأموي اهتم الخلفاء بالمدينة، وجعلوها محطة لتموين جنودهم في طريقهم لغزو حدود دولة الروم. وكانت الرقة عاصمة رديفة لبغداد لأغلب الخلفاء العباسيين، ومصيف وعاصمة صيفية للخلفاء العباسيين، وفي عام 1258م دمر المغول الرقة كما فعلوا ببغداد.
فلاسفة ومفكرون
نشأ في الرّقة عدد من الكتاب والمفكرين والعلماء، حيث زوّدهم المكان بما يفيد، ومنهم: عبد الحميد الكاتب، الذي يضرب به المثل بالبلاغة، وتعدّ رسائله من الأدب الفراتي، وأيضاً هناك عالم الفلك البتاني (929- 858)، إذ بدأ تجاربه في مرصد الرّقة، واستمرّ في عملهِ 43 سنة، وقد كان أشهر الفلكيين برصد الكواكب، ومن فلاسفتها الفيلسوف وهب بن يعيش الرّقي، وقد ذكره أبو حيان التوحيدي في كتابه (الإمتاع والمؤانسة)، ومن كبار الصّوفية فيها إبراهيم القصار، وعبد الله بن علي الرّقي ويعدّ إمام في اللغة العربية، وعيسى الرّقي المعروف بالتفليسي وهو طبيب مشهور.
ومن أعلام الرّقة الحديثة نجد، شيخ الأدباء ورائدهم الطبيب والأديب عبد السلام العجيلي، وكذلك نلمس تأثير المكان في شِعر فيصل البليبل ومصطفى الحسون، وكذلك الروائي إبراهيم الخليل، وغيرهم من الفنانين والشعراء والكتاب، الذين مدّهم المكان بالثقافة والإبداع.