عَلاَ نُباح الكلب بإلحاح، فهرول أبي مسرعاً لمعرفة من الزائر في هذا الهجير. وجد سيارتي "جيب" أمام كوخه. إحداهما تقل رجال الدرك الفرنسي، والأخرى يمتطيها قائد حراس الغابات.
سأله قائد الدرك بفضاضة: نريد الشخص الذي احتطب من الغابة؟ ارتعدت فرائس والدي وامتقع لونه، وخيل إليه ساعتها أنه أمام باب سجن "الكدية".
بعد أن سُلب من أرضه وطُرد من مسكنه، لم يجد جدي مأوى لعائلته. فاتجه صوب الغابة ونصب كوخاً من الطوب بمحاذاتها وسقّفه بأعشاب الديّس. وكان أبي وعمي يتسللان إلى الغابة ليحتطبا، ثم يسريان ليلاً ليبيعا ما جمعاه من حطب في القرى المجاورة ويعودان مع طلوع الشمس إلى كوخهما بالقليل من الزاد لسد رمق أسرتهما. وكانا كذلك يفعلان منذ مدة طويلة دون أن يثيرا شكوك حراس الغابة لولا الغصن الثقيل الذي خانهما هذه المرة. كانت آثار سحبه وما خلفه من أوراق واضحة على طول الممشى الترابي، فقادت رجال الدرك إلى كوخهما.
أنكر والدي أن يكون هو وأخوه الفاعلين. واعترف بأن ابنه الصغير تصرف عن جهل بالقوانين في غيابهما عن البيت. لقد قال ما قاله حتّى يتجنب هو وأخوه السجن والغرامة المالية.
وقفت بين "الزائرين" بجسمي النحيل وقامتي القصيرة، وأنا لم أتعد وقتها الاثني عشرة سنة. تفحصّني قائد الدرك وكأنه يتفحّص دابة في سوق المواشي. وقال: إنه قاصر. سأله زميله: ما العمل؟ فأجاب: نتركه لرئيس حراس الغابة يؤدبه.
كان هذا الرئيس "كورسيكيا"، واسمه "كوربيس" ذا وجه دائم الاحمرار وكأنه يغتسل بالنبيذ لا يحتسيه، ذا قامة قصيرة وكرش منتفخ كاد يبتلع رقبته. تظنه وهو يمشي كأنه برميل يتدحرج. خاطب والدي قائلاً: أريده غداً على الساعة الثامنة صباحاً أمام باب منزلي، لأكلفه بما يجب القيام به في الغابة عقاباً على ما اقترفه في حقها.
غادرت الكوخ على الساعة السادسة صباحاً وزادي ربع كسرة وحبيبات من التمر. كان عليّ قطع ست كيلومترات حتى أصل إلى منزل "كوربيس".
أزاح ستار نافذته، ووجدني في الانتظار أمام باب حديقته. ألقى نظرة على ساعته، وأمرني أن أنصرف لأعود غداً في التوقيت ذاته. فقفلت راجعاً.
تكرّر السيناريو ذاته ثلاثة أيام متتالية، وكاد يطول لولا رأفة راعي غنم بي. سألني قائلاً: ما أمرك، أراك في ذهاب وإياب على عجل لا تحمل شيئاً. حكيت له قصتي مع "كوربيس". فضحك حتى بان "ضرس العقل". وقال اللَّهُمَّ ارزقنا من سذاجة هذا الطفل وأهله بالقدر الذي يُمكّننا من التغلب على مصاعب الحياة بأعصاب باردة. وخاطبني متسائلاً: هل تعتقد أن كوربيس يعاقبك مجاناً وبسهولة دون "إكراميّة"؟
تأمل "كوربيس" جيداً ما أحمله من شرفة منزله: قفة يتدلّى منها رأس أسمن ديك في الخمّ يتوسّد عشرين بيضة مدفونة في التبن، استلفت والدتي نصفها من زوجة عمي. ورطل من العسل. لم يلق نظرة على ساعته كالعادة، وأمر خادمته بأن تفتح لي باب الحديقة. ناولتني المعول، واستلمت حمولتي. وعندما شرعت في تقليب الأرض بلغني صوته الخشن يأمرني بالانصراف وعدم الرجوع مرة أخرى.
تنحنح في جلسته وهو يسألني: بالله عليك يا أخي، أخبرني: أين ذهبت البركة التي كان يملكها الدجاج في خمسينيات وستينيات القرن الماضي؟ كان يحلّ أعقد القضايا وأخطرها حتّى في المحاكم، أما اليوم فإنّه يعجز حتّى عن التسريع في تسوية أبسط معاملة إداريّة قانونيّة؟ هل أضاع بركاته بعد أن هاجر الحياة الطبيعية في القرى والأرياف وراح يفرّخ في الحاضنات الكهربائية؟