رقمنة التراث الثقافي

الطائرات بدون طيّار ودورها في الحفظ والتوثيق

د. ربيع أحمد سيد أحمد


تُوفر التقنيات المُبتكرة طرقاً دقيقة وفعّالة وغير مُكلِّفة؛ وذلك لتوثيق ورقمنة التراث الثقافي؛ وعمل نماذج ثلاثية الأبعاد. ومن ثمَّ يُصبح من المُمكِن بل ومن الضروري حفظ هذه النماذج الرقمية ثلاثية الأبعاد Digital 3D Models، في قاعدة بيانات مركزية تُمكِّن المُستخدمين من الوصول إليها، والاستفادة منها؛ ونُعوِّل عليها نحن كآثاريين للحِفاظ على هذا الموروث الثقافي، والعمل على صونه. والاستفادة من قاعدة البيانات هذه في حالات صون وترميم الأثر. وقد تمَّ استخدام الأساليب التقليدية، والمسح التصويري، وذلك في مشروع "فكّ الحُجب الرقمي للجُزر المقدسة"؛ وتمَّ اقتراح تقديم خدمة رقمية لتطوير البنية التحتية الرقمية، وإثرائها بالأدلة الرقمية الثقافية، وبيانات التوثيق. وقد تمَّ تخصيص هذا المشروع لرقمنة التراث الثقافي بكنائس قبرص وكريت.


وتُعدّ رقمنة التراث الثقافي إجراء مُتعدد التخصصات لإدارة التراث الثقافي في بيئة تكنولوجية؛ حيث يتم تمثيل صورة أو وثيقة أو إشارة بمجموعة منفصلة من النقط أو العينات. وقد يتعذّر الوصول للعديد من مواقع التراث الثقافي بسبب موقعها، وتأثرها بالعوامل الطبيعية، والبشرية، لذا فرقمنة التراث الثقافي تُساعد في جهود استعادة وحفظ الأثر. وتزويد الجميع بالوصول الرقمي للموقع؛ ومشروعات رقمنة التراث الثقافي من المشروعات الضخمة؛ والتي تحتاج لتضافر جهود العديد من المنظمات والمؤسسات المعنية بحفظ التراث الثقافي وصونه. فما تمت رقمنته من المواقع التاريخية حتى الآن لا يتخطى نسبة 10%. وتُعدّ تقنيات المسح ثلاثي الأبعاد، والمسح التصويري مهمة، وذلك لإنجاز مهمة جمع البيانات المكانية من المباني القائمة.

◀ دور رقمنة مواقع التراث الثقافي في إعادة بناء الأثر

وقد تجلّت أهمية رقمنة مواقع التراث الثقافي في حريق كاتدرائية نوتردام، والذي حدث في أبريل 2019م. وكان للدكتور أندرو تالون Dr.Andrew Tallon دورٌ كبير في إجراء مسح رقمي للكنيسة قبل الحريق؛ وبفضل قياساته الدقيقة والتي تُعدّ السجل الحديث الوحيد للكاتدرائية والتي تعرّضت لتدمير جزئي، ويُعدّ توثيق أندرو تالون مهم للغاية في عملية إعادة البناء reconstruction، وقد أنشأ تالون ملايين النقاط للبيانات باستخدام ماسحات الليزر الخاصة به داخل نوتردام، وذلك عن طريق عمل مسح بانورامي بالليزر من 50 نقطة مختلفة، بالإضافة لصور بانورامية في كل نقطة مسح، وقد استخدمها في عمليات المسح لإنشاء صور ثلاثية الأبعاد كاملة.

◀ الخوارزميات ومنهجية معالجة البيانات

وفرّت تقنية الطائرات بدون طيّار جنبًا إلى جنب مع الخوارزميات المُناسبة ومنهجيات معالجة البيانات، إمكانية رصّد وتوثيق مواقع التراث الثقافي، كما وفّرت معلومات وصور عن الحالة الأصلية للأثر الذي تعرّض للتلف والتدمير، وذلك من أجل إعادة إنشائها كنماذج ثلاثية الأبعاد. وقد أنشأت عدة دول قاعدة بيانات لإدارة وحفظ التراث الثقافي منها إيطاليا؛ وآمل أن يتم تعميم الأمر على جميع الدول العربية. وذلك لما تمتلكه من مقومات آثارية وتراثية هامة.
 

◀ النمذجة ثلاثية الأبعاد باستخدام الطائرات بدون طيّار

إنّ مصطلح الطائرة بدون طيّار Unmanned Aerial Vehicle (UAV) هو اختصار للمركبة الجوية غير المأهولة، أو التي تعمل بدون طيّار على متنها؛ ويُشير أيضًا إلى المنصات المحمولة جوًا، والتي يتم التحكم فيها عن بُعدّ. وقد ذُكِرتْ مصطلحات أخرى للطائرة بدون طيّار تُستخدم في علم الجيوماتكس والمجتمع، ويُطلق عليها أيضًا المركبة المُوجهة عن بُعد، والطائرة المُشغلّة عن بُعد، والمركبة الجوية الصغيرة، والطائرة بدون طيّار الصغيرة، والنظام الجوي بدون طيّار.

وأصبح استخدام الطائرات بدون طيّار للمسوحات الجوية تطبيقًا موحدًا، وهامًا، وذلك للحصول على نماذج ثلاثية الأبعاد للمنشآت، ويُمكن استخدام الطائرات بدون طيّار كمنصة قياس دقيقة يتم التحكّم فيها بواسطة الكمبيوتر، وتُركِّز تطبيقات الطائرات بدون طيّار بشكل رئيس على التوثيق، والمُراقبة، والرصّد، ورسم الخرائط، والنمذجة ثلاثية الأبعاد، وإعادة الإعمار ثلاثي الأبعاد، بالإضافة للخرائط الرقمية، والصور الرقمية، ونماذج الارتفاع الرقمي، ونماذج السطح الرقمي. وتُعدّ الصور الجوية للطائرات بدون طيّار جنبًا إلى جنب مع القياس التصويري من التقنيات الناشئة التي تُوفّر نهجًا مُبتكرًا للتوثيق ثلاثي الأبعاد للتراث الثقافي.

تتوافر حاليًا الطائرات بدون طيّار وفق نمطين رئيسيين للهيكل؛ هما ذوات الأجنحة الثابتة، وذوات الأجنحة الدوّارة؛ وأمّا طريقة الإطلاق الأكثر شيوعًا هي الإطلاق المُباشر في الهواء، بالإضافة لوضع التشغيل الذاتي، والإطلاق المُباشر عن طريق اليد. ويُمكن أن تُكلف منصة UAV من (5 إلى 10 آلاف يورو) لذا فهي قليلة التكلفة. ويتوقف ذلك على طبيعة الحمولة، ونوع المنصة، ودرجة الأتمتة اللازمة لتطبيقاتها.
 

تخلق التقنيات الرقمية في مجال حماية التراث الثقافي وتعزيزه؛ فضلاً عن التهديدات التي تتعرض لها المُخلفات الأثرية والثقافية، متطلبات وتحدّيات مُهمة ومُبتكرة لحماية الثروة الثقافية للبلد. وتقترح هذه التطبيقات الرقمية تقديم خدمة رقمية تتطلب تطوير البنية التحتية الرقمية، وإثرائها بالأدلة الرقمية الثقافية وبيانات التوثيق. وأن تكون بمثابة مركز معلومات هام يضم التراث الثقافي للمنطقة التي يتم بها، ويهدف إلى الحصول على مجموعات بيانات رقمية ثلاثية الأبعاد للآثار الدينية والتحف التطبيقية الثابتة والمنقولة، كما تتضمن مثل هذه المشروعات إنشاء قاعدة بيانات جغرافية مُرتبطة بمنصة نظم المعلومات الجغرافية (GIS)، والتي سوف تُصبح بمثابة أطلس رقمي للمعالم التراثية.    

وسوف تعتمد منهجية الرقمنة على طرق متقدمة، تهدف لمعالجة سريعة، ودقيقة، ويتضمن سجلّ التوثيق الرقمي صورًا قريبة المدى، وصورًا مُجسمة، وصورًا للطائرات بدون طيّار، وغمامات (سُحب) نقطية للآثار من الداخل والخارج. ثم يتم تصدير البيانات إلى نموذج معلومات البناء (BIM) (Building Information Modeling)، من أجل تفسير كيفية البناء، وسيتمكن خبراء التراث الثقافي من فهم الهندسة المعمارية، وأساليب البناء من أجل إعادة بناء نموذج موقع التراث العالمي بأكبر دقة مُمكنة.

◀ منهجية التوثيق

يتم وضع نقاط التحكم الأرضية داخل الأثر وخارجه، ثم يتم تصوير الأثر من الداخل باستخدام كاميرا محمولة؛ ويتم تصوير الجزء الخارجي من الأثر باستخدام كاميرا مُثبتة على طائرة بدون طيّار؛ ويتم استخدام برنامج القياس التصويري لإنشاء نقطة سحابة للأثر، ثم تصدير هذه النقطة المُكتملة لبرنامج نمذجة معلومات البناء (BIM) للتوثيق.

وتُوفّر تقنية الطائرات بدون طيّار UV طرقاً ميسورة، ومُوثقة لمواقع التراث الثقافي؛ وذلك بسبب قدرتها على جودة القياسات الدقيقة، وتكاليفها البسيطة. وتقنية الاستشعار الجوي عن بُعدّ والتصوير يُمكن إجراؤهما باستخدام التصوير الواسع النطاق على ارتفاعات منخفضة. كما تُوفر الطائرات بدون طيّار مسوحات أكثر تفصيلاً للموقع الأثري؛ ومفيدة جدًا لمسح المناطق التي يتعذر الوصول إليها. وتُعدّ تقنيات الاستشعار عن بُعدّ الموجودة على منصة الطائرات بدون طيّار مُفيدة للغاية للكشف عن سمات التراث الثقافي ومراقبتها، ويُمكن أن تكون الطائرات بدون طيّار مصدرًا فعالاً لتوثيق مواقع التراث الثقافي.

ولقد تضاعفت مُؤخرًا إمكانيات منصات الطائرات بدون طيّار، وتمّ تطوير وحدات جديدة على متنها، وتمّ تزويدها بأنظمة اتصال أكثر موثوقية، وسرعة، وتحسين عُمر البطارية المُشغّلة لها. وقد أصبحت المساحة التصويرية باستخدام الطائرات بدون طيّار في الوقت الحاضر حلاً لوضع خرائط ثلاثية الأبعاد لمناطق التراث الثقافي الكبيرة والمُعقدّة.

كما أنّ تقنية القياس التصويري تُوفر طرقاً بسيطة وفعّالة من حيث التكلفة لإنشاء نماذج ثلاثية الأبعاد دقيقة من الصور؛ ويُمكن استخدام الصور الجوية المأخوذة من طائرة بدون طيّار لإنشاء صور أورتو وسحب كثيفة، ونموذج ثلاثي الأبعاد، ونماذج ارتفاع رقمية. ومن الضروري أن يتم تزويد الطائرات بدون طيّار بكاميرا RGB، بمُستشعر عالي الدقة؛ وذلك للحصول على صور دقيقة ومُركزة. كما يجب أنّ تحتوي المنطقة على نقاط تحكم أرضية ثابتة للإشارة الجغرافية، من أجل إنتاج صور مُتعامدة ونموذج ثلاثي الأبعاد لسحابة نقطية لمنطقة التركيز. كما أنّ القياس التصويري قادر على إنشاء نماذج ثلاثية الأبعاد بألوان كاملة. وتتوافر العديد من البرامج التي تُستخدم على نطاق واسع من أجل الحصول على إعادة بناء ثلاثية الأبعاد للمباني التراثية وذلك من الصور التي تمّ الحصول عليها بواسطة الطائرات بدون طيّار.

وبذلك تُعدّ تقنية الطائرات بدون طيّار من الأهمية بمكان لتكامل البيانات، والتقنيات المساحية المُتوفرّة من أجل الحفظ والتوثيق الرقمي لمعالم التراث الثقافي؛ وذلك عبر إنتاج نماذج ثلاثية الأبعاد مُماثلة للواقع؛ ووتُوفرّ عملية التوثيق هذه وسائل هامة للغاية من أجل أعمال الترميم وإعادة الإعمار والتأهيل لمواقع التراث الثقافي.   

 


◅ وسيم توفيق مرسي، التطورات الحالية في المساحة التصويرية باستخدام الطائرة بدون طيّار مع أمثلة تطبيقية، مجلة جامعة البعث، المجلد 42، العدد 10، ص: 39 – 41.

 

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها