الخط العربي.. جمالية الحرف وإعجاز القلم

رفاه هلال حبيب


للخط العربي جماله الخاص، الذي يجعله مميزاً عن باقي الخطوط، شكلاً ورسماً وزخرفة، فهو يجمع بين الليونة والصلابة في تناغم هائل، تتجلى فيه القوة وجودة المداد، المستمدة من النفحات الروحانية التي تهيمن على الخطاط المبدع، في لحظة إبداع خلقي لا تتكرر. وقد برزت أسماء لامعة متخصصة في هذا الفن الراقي، منذ القرون الأولى، وأُلِّف عنه أبحاث ودراسات ومناهج تبحث وتُدَرّس قواعده الخاصة، وكيفية تشكيله ورسمه.
 

تتميز الكتابة العربية بحروفها اللينة السهلة في التعامل مع الخطاط، فهي تكتب متصلة أكثر الأحيان وهو ما يعطيها إمكانية تشكيلية كبيرة، دون أن تخرج عن هيكلها الأساسي، وهذا ما زادها تفرداً وجمالاً بين الكتابات العالمية، فالخطاط قادر أن يتحكم في الأحرف كما يتحكم الموسيقي في أحاسيسه وهو يؤلف قطعة موسيقى.

كان الخط العربي وما يزال وسيبقى كالنور يضيء حياتنا، ويفتح الآفاق أمام الإنسان، والشاهد الحي على عصور النهضة الإسلامية.
 

أثر الخط العربي في الإسلام

لقد أثرى الخط العربي حياة المسلمين بشكل كبير، حيث عزز العلاقة بين العقيدة والتعبير الفني الملتزم، وذلك الارتباط الكبير بفنون الزخرفة، مما أعطاه القدرة على التأثير في باقي الفنون والحضارات، فقد كان الوسيلة التي حملت القرآن الكريم إلى كل أنحاء الأرض، وذلك من خلال آلاف الخطاطين، الذين أبدعوا في نسخ المصحف الشريف، بهدف التقرب إلى الله تعالى.

وقد برع الخطاط المسلم في هذا المجال وتفوق على غيره، بحسه المرهف الذي جعل الكلمة وكأنها ستنطق.

كان للخط العربي في الإسلام مكانة خاصة، فهو بالدرجة الأولى من جعل القرآن يُحفَظ على مدى العصور، فقد حرص الفنان المسلم على تحسين الخط العربي ووضع القواعد والأسس له، ليكون كالنظريات في كامل الدقة ولا يجوز التغيير فيها.

وهناك متعة حقيقية يجدها الخطاط عندما ينتقل بين الحروف بمزيج من الإبداع والأناقة.

يقول الدكتور إسماعيل فاروق وهو أحد أبرز المختصين بدراسة الإسلام في العالم:
لا يوجد بين شعوب ما بين النهرين وغيرهم من العبرانيين والهندوكيين والإغريق والرومان، بما في ذلك العرب أنفسهم من حاول اكتشاف القيمة الجمالية للكلمة، لكن الإسلام هو من فتح آفاقاً جديدة أمام الكلمة كوسيلة للتعبير الفني، فالعبقرية الإسلامية لا تُضارَع، فقد أصبح هذا الخط لوناً من ألوان الأرابيسك، وأصبح عملاً فنياً إسلامياً خالصاً.

ويقول الدكتور (راغب السرجاني) في دراسة له عن الخط العربي: إن المصادر العربية، كالعقد الفريد، وخلاصة الأثر، والبداية والنهاية، والكامل، والفهرست... قد أجمعت أن الخط العربي لم ينل عند أمة من الأمم ذوات الحضارة ما ناله عند المسلمين.

ويروى أن الخليفة العباسي الواثق بالله قد بعث ابن الترجمان إلى ملك الروم محملاً بالهدايا، فوجدهم قد علقوا على باب الكنيسة كتباً بالعربية، فسأل عنها، فعلم أنها كتب المأمون بخط أحمد بن أبي خالد.

ويقال إن سليمان بن وهب كتب إلى ملك الروم في أيام الخليفة المعتمد، فقال ملك الروم، ما رأيت للعرب شيئاً أحسن من هذا الشكل، وإني أحسدهم على جمال حروفهم، مع أنه لا يقرأ الخط العربي، لكنه أعجب بهندسته وجماله.

الخطاط الناجح هو من يملك عذوبة وشفافية تجعله قادراً على الخوض في هذا الميدان، فالموهبة والصبر والتدريب المستمر والعناية الدقيقة بشكل الحرف وطريقة أدائه تجعله خطاطاً مميزاً.
 

للخط العربي أنواع كثيرة تجاوزت مائة نوع

لكن المشهور منها: الخط الكوفي، والخط النسخي، والخط الأندلسي، وخط الثلث، وخط الرقعة، والديواني، والفارسي، وهذه الخطوط تفرعت إلى فروع أخرى أيضاً، ولم يتوقف الفنان المسلم عن تطوير فن الخط، بل جعل منه مادة زخرفية، فتحولت لوحات الخط إلى لوحات جمالية زخرفية، واستطاع الفنان أن يُحَمِّل الحرف مهمة التعبير والزخرفة في آن واحد. تطور الحرف جمالياً بسرعة حتى أضيف إليه الإعراب والرقش، وقد روى ابن النديم في كتابه الفهرست: أن أول من كتب بالعربية ثلاثة رجال من (بولان) هي قبيلة من طي، سكنو منطقة الأنبار، وأنهم اجتمعوا فوضعوا حروفاً مقطعة وموصولة وهم:
مرارة بن مرة، وأسلمة بن سدرة، وعامر بن جدرة، وقد ظهر الخط النسخي على يد الوزير ابن مقلة وأخيه الحسن، واهتم الإيرانيون بكتابة الخط العربي وتفننوا فيه.

ويعد خط الثلث هو سيد الخطوط لصعوبته، فهو يحتاج إلى وقت طويل لتعلم قواعده.

تتضح مهارة الخطاط في روعة تطبيق القواعد مع جمالية التركيب، وقد استعمل هذا الخط كثيراً في الكتابة على جدران المساجد، ويعود السبب إلى مرونته وإمكانية حفر حروفه في كل الاتجاهات، يجعلك ترى اللوحة وكأنها ستتكلم. ولكتابة هذا الخط يمكن اتباع عدة طرق، منها طريقة التركيب الخفيف، أو الطريقة المرسلة، أو التركيب الثقيل.

من أشهر الخطاطين العرب على سبيل المثال:
◅ ابن مقلة
◅ ياقوت المستعصمي
◅ ابن البواب
◅ مير علي التبريزي
◅ شاه محمود نيشابوري
◅ مصطفى راكيم
◅ عبد القادر أرناؤوط
وغيرهم الكثير.

انتشار الخط العربي

استطاع الخط العربي في رحلته الطويلة أن ينتشر في بقاع كثيرة، فقد تلألأ في الجزيرة العربية، وتألق في الشام، وفاح عبيره في العراق وفارس والسند وخرسان، وتغلغل في أرمينية والقوقاز، وآسيا الصغرى وإفريقيا والمغرب العربي والسودان والأندلس، وجنوب فرنسا وصقلية، واستطاع في رحلة طويلة أن يحل مكان خطوط كبيرة كانت موجودة في عدد من الأمصار، وأن يسيطر عليها، إما بالتغيير أو بإلغائها تماماً، كما سادت لغة العرب على لغات محلية سابقة لها، وكان الشكل الواحد في الخط العربي يأخذ أشكالاً مختلفة، دون أن تنفصل هذه الأشكال الجديدة عن الشكل الأساسي الأصلي.

من البلدان التي تكتب أحرف لغتها بالرسم العربي: ماليزيا وجاوا ومدغشقر، وإيران وأفغانستان والهند وباكستان، والمقاطعات الناطقة بالأردية في كشمير وجامو.

حتى إن تركيا بقيت تستعمل الأبجدية العربية، حتى جاء مصطفى كمال الذي أرغم الأتراك على استعمال الأبجدية اللاتينية. أيضاً روسيا استخدمت الأبجدية العربية طويلاً، ثم تحولت إلى اللاتينية، ثم عدلت عنها إلى السلافية.

ويبقى الخط العربي من أجمل وأروع الخطوط، فهو تراث متجدد يمنح للعين موسيقى من نوع خاص، تأخذ الناظر إلى عالم من الإبداع والخيال اللامتناهي.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها