إن البيئة الرقمية تغيّر بشكل عميق الطريقة التي نكتب بها. بقواعد أقل، وردود أفعال أكثر: أصبحت الكتابة سريعة، وعفوية، وغالبًا ما يتم إملاؤها بالصوت أو نسخها ولصقها. إنه فصل جديد من قصة بدأت منذ أكثر من 5000 عام.
ظهرت الكتابة لتلبية حاجيات الاقتصاد وتدوين المعاملات (المحاسبة الرعوية، وتسجيل الديون). حوالي عام 3200 قبل الميلاد، في سومر، اتخذت الرموز المكتوبة مظهرًا قريبًا من الاتفاقية المجردة (وهذا ما يسمى بالكتابة المسمارية)، ولكن المرحلة الحاسمة في تطوّر أنظمة الكتابة ظهرت عند الإغريق في نهاية الألفية الثانية قبل الميلاد. ونعني بذلك النظام الأبجدي.
تم خلط الرموز الساكنة من الأبجدية السامية مع اللغة اليونانية لإنشاء حروف العلّة. كان لهذا الابتكار تأثير هائل، حيث استعار الرومان بعد ذلك الأبجدية اليونانية لإنشاء الأبجدية التي نستخدمها هنا.
من الألواح الطينية إلى الألواح الحديثة
بفضل الكتابات أصبح حامل الذاكرة أمراً زائداً عن الحاجة، ثم تطوّرت الكتابات نحو التجريد أكثر لتمثّل الأفكار أيضاً. في العصور الوسطى، ساهم اختراع علامات الترقيم في تقسيم الفكر بشكل أكثر دقة، ولكن لا بد من قول كلمة واحدة أيضًا عن أهمية الوسيلة. عند النظر إلى الألواح الرافدينية، نلاحظ أنها كانت عبارة عن ألواح طينية تناسب اليد.
وكذلك اليوم نرى اهتماماً مماثلًا بالأجهزة اللوحية الرقمية الحديثة: نحن نفضّل قابلية الحمل والنقل التي تميّزها. مع ظهور ورق البردي ظهرت إمكانية صنع مخطوطات تكشف عن جزء فقط من النص في كل مرة، كما هو الحال اليوم على شاشة الكمبيوتر عندما يتعين علينا "تمرير" الشاشة. ثم أثبت الرق -وهو عبارة عن صفحة قوية من جلد الحيوان قابلة للطي- تفوّق المخطوطة (عدة صفحات من الرق مخيطة معًا)، وأصبحت المخطوطة النوع الأكثر انتشارًا من الكتب.
يستطيع قارئ المخطوطات أن ينتقل من صفحة إلى أخرى، فيحصل على انطباع عام فوري. وقد يتم إخفاء المخطوطة أيضًا تحت الملابس والمشاركة في نشر النصوص الممنوعة.
القراءة الصامتة والمحو:
كانت أشكال الكتب الأكثر شعبية دائمًا تلك التي يسهل حملها. وتحوّل الكتاب الذي يحمل في اليد إلى ملكية خاصة للقارئ. وبعد اختراع غوتنبرج، سمحت المطبعة بإنتاج الكتب بسرعة وبكميات ضخمة، مما شجّع القراءة الفردية.
وعلى نحو مماثل، أصبح النص المكتوب بحد ذاته، وليس مجرد موضوع الكتاب، ملكًا للقارئ بمعنى أنه أصبح من الشائع في ذلك الوقت قراءته بصمت.
في الصمت، يمكن إقامة علاقة غير محدودة مع الكلمات، التي لم تعد تشغل الوقت اللازم لنطقها؛ وإنما توجد في مساحة داخلية تسمح بالمقارنات، مما يزيد من قوّة العقل.
وفي كل هذا نلاحظ عملية إزالة المادية والابتعاد عن اللغة المنطوقة والتي استمرت حتى وقت لاحق. وفي وقت مبكر من نهاية القرن التاسع عشر، تم اكتشاف أن نصف الكرة المخية الأيسر يشكّل الجزء الذي يستخدمه الدماغ لوظائف الترميز وفكّ التشفير.
مضاعفة الذاكرة:
بالنسبة للغة؛ فإن الترميز يعني الكتابة وفكّ التشفير يعني القراءة. وبذلك نكون قادرين على القراءة قبل أن نعرف كيفية القراءة. يؤكد أفلاطون أن المعرفة موجودة فينا قبل إدراك الشيء: نكتشف الكلمة؛ لأن هناك شيئًا موجودًا مسبقًا لها في عالم الأفكار. إن هذا البيان يوضّح عدم الثقة في الكتابة. في محاورة فايدروس، يقول سقراط إن الكلمات المكتوبة تذكرنا فقط بما نعرفه بالفعل.
ومع ذلك، من خلال الكتابة، تظهر لغة موضوعية متحرّرة من لغة غير مرئية ومن الصوت. إن هذا الصمت، الذي يرتبط بزيادة الحكمة، أمر أساسي للجنس البشري. لقد عزّز البشر إمكانيات الذاكرة ضد الاختفاء والنسيان والموت. وعزّزت هذه الذاكرة معرفتنا بالعالم وبأنفسنا بقدر ما عزّزت الثروة المادية.
النيتوقراطية تضع القواعد:
والآن يمكننا أن نرى أن كمية المعلومات الموجودة على الإنترنت، والتي من المستحيل التحكّم فيها بشكل فردي، تجعل من الضروري كل يوم تحديد أولويات البيانات، وهو ما يعتمد على قدرتنا على تفسيرها وتصنيفها وفقًا لأهداف محددة. وهكذا نشأ ما يسمى بـ"حكم الشبكة" المعلوماتي، وهم فئة من الأشخاص يستمدون قوتهم من الميزة النسبية في المعرفة التكنولوجية وترابط مهاراتهم. إن حكم الشبكة هو جزء من توازن القوى الجديد.
وهذا يحيلنا، على سبيل المثال، إلى "الحقائق البديلة"، و"الأخبار المزيفة"، و"المتصيدين"، وأحيانًا محاولات الدولة للتأثير على الرأي العام رقميًا.
النسخ واللصق بدلاً من الإنشاء:
ظهرت من بين "طليعة المبدعين" أيضاً فكرة مفادها أنه لم يعد من الضروري إنشاء نصوص من العدم، بل يجب معرفة كيفية نقل النصوص المتاحة. وهذا هو جوهر النسخ واللصق. في كتابه "الكتابة بدون كتابة"، يزعم المنظّر الطليعي كينيث جولدسميث أن تجديد الكتابة الذي أصبح ضرورياً بفضل التكنولوجيا الرقمية لا بد وأن يتحقّق من خلال الاستيلاء على النصوص الموجودة، وإعادة ترتيبها أو حتى انتحالها، في نوع من التوسّع في الإيماءة الشائعة الآن وهي النسخ واللصق. ولم يكن لمفهومي المؤلّف والملكية أي أهمية تذكر.
لكن هذه الإشارة إلى التراجع اللانهائي في استخدام النصوص والمصادر تتعارض مع المبدأ الأرسطي الذي يقضي بأن كل شيء لا بد وأن يتوقف في مكان ما، وأن لكل شيء سبب أولي. وعلى العكس من ذلك؛ فإن الانحدار نحو الأصل يجب أن يكون بلا حدود.
والسؤال المطروح في نهاية المطاف هو تحديد أين يكمن أصل الفعل الإبداعي. ولن يكون هناك بالتالي أي قاع، بل هناك دائمًا سبب أبعد للبحث عنه، حتى لو كان ضمنيًا أو غير واعٍ، وهو ما تسهّل التكنولوجيا التحقّق منه كل يوم.
المزيد من النبضات:
لذلك فإن الكتابة ترتبط بعملية إنتاج المحتوى أكثر من ارتباطها بمصداقيته. إنها تتجه نحو ممارسات مرتبطة بشكل متزايد بتفريغ الدوافع - فنحن اليوم نقوم بعمليات الشراء من خلال التحدث فقط على هواتفنا، وبالتالي إلغاء الكتابة في المعاملات التجارية. إنها عودة إلى الشفهية وإلى تمرّد الجسد في الكتابة: تحوّل الرموز التعبيرية إلى تعبيرات صامتة عن درجة التأثير، وفي تكرار علامات التعجّب تأكيد على مدى تأثير المحتوى، كما أن ميزة "التعرّف على الصوت" أتاحت لنا الاستغناء عن الكتابة.
ومن ثم يمكن تقسيم الكتّاب المعاصرين إلى فئتين: الفئة الأولى تشبه طبقة البروليتاريا الاستهلاكية التي تخضع للطبقة الأخرى؛ أي طبقة النيتوقراطية، التي تقوم بتفكيك رغباتها أو خلقها أو إثارتها، وذلك باستخدام الإعلانات على سبيل المثال، في كل أشكالها الدقيقة التي يمكن أن تتخذها. ومن ثم يتراجع أفق المعجم والنحو والعلامات الترقيمية والقواعد لصالح الرضا الغريزي المرتبط بالاستمتاع بالدعم التكنولوجي.
لذلك، نجد أن الذين ينتمون إلى الطبقة الأولى لديهم فهم للعالم يقتصر على ما يرغب الآخرون في تقديمه لهم، وهم القادرون على ترتيب المعلومات (فك تشفيرها)، وإنتاج المعنى (الترميز) الذي يتوافق مع قيمهم.
المصدر: 
كـاتب المقال: بيير جاميت