رهبة!

عبدالكريم بن محمد النملة

خائفاً أترقَّبُ حضوره، لا يغيب لا يبعد، يتوارى قليلاً ثم يفضح نفسه باختناقي وقلَّةِ حيلتي. أمامه أبدو طفلا صغيراً، لا أتفوَّهُ بكلمة تحدٍّ واحدة، لا أنهره، لا أغضبه، أدعه يتغلغل داخلي بكل استسلام ووداعة! عندما قررت يوماً قتله، جمعت شجاعتي ورميت بها في وجهه، لكنه أيضاً لم يمت بل تمدَّدَ داخلي بعنف.

أخذتني سيارتي صباح هذا اليوم الشتوي لأتدفأ بكلمات الطبيب، بعد أن تكوَّمَ حول عيني رافعاً راية الموت السوداء، طبيبي يزعجني بابتسامته، ليته يكفُّ عن هذه الابتسامة عندما تلوح الراية السوداء أمام عينيّ، كم فكرت في الذهاب إلى طبيب آخر جديد، لكنني كنت أجبُن عندما أهم بذلك، وأكتفي بالذهاب إلى هذا الطبيب الذي يفهمني وأفهمه.

أجلسني أمام مكتبه إذْ لا حاجة لتمددي، فقد شرَّحني هذا الطبيب نفسه عشرات المرات، أثرثر، أعاود محاولة إضافة أمر جديد ربما جلب انتباهاً آخر للطبيب وأبعده عن رتابة الاستقبال الذي عوَّدَني عليه. زمَّ الطبيبُ كفَّيْهِ تحت ذقنه، ابتسم طويلاً وهو يرى يديّ المتشابكتين القلقتين دون أن يتكلَّم! أشعر بوجعٍ حادٍّ أسفل بطني، يمزِّقُني هذا الموضع، أمرِّرُ نفسي متسللا بين حركاته الصغيرة. أحاول إقحامَ نفسي داخله مُتجاوِزاً أسئلةَ البدايةِ الموجعة.

تتمدَّدُ الرايةُ السوداءُ منذرة بقرب سقوطي. أصدُّ وجهي.. أغمض عينيّ، يدق طبوله ويبرز في عتمة السواد ملوحاً براية الموت السوداء! أرفع رأسي بسرعة، أفتح عينيّ وأرى طبيبي يتحدَّثُ مع الممرضة وهي تعبث بأوراقها.

مِمَّ تشكو هذه المرة؟

ألم أقل له كلَّ ما عندي؟ ألم أضف له أمراً جديداً يجلب انتباهه؟

لماذا يسألني ثانية؟

يدق طبوله ويهرع الباقون في حمل راياتهم السوداء، يزداد وقع طبولهم، يعلو الصوت كثيراً، عينا الطبيب تتَّسِعان وهو يسمع صوتي يعلو ويعلو، لم أتمكَّن أنا نفسي من سماع صوتي؛ فقد كان لوقع طبولهم أثراً في إبعاد صوتي واختفائه. لذت بالصمت وتركت الطبيب ينصت لوقع طبولهم التي تتعالى داخلي. وكم تمنيت لو يرى تلك الرايات السوداء التي زرعوها أمام عيني.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها