تصنيفُ العلوم عند ابن خلدون

قراءات مُعاصرة

د. عبد الصمد زهور


شكل فكر ابن خلدون أساساً معرفياً للكثير من المشاريع الفكرية، اغتنى بها واغتنت به في نفس الوقت، ولا يخرج حديثه عن العلوم وأصنافها على هذه القاعدة، بحيث يمكن الانفتاح على العديد من القراءات التي توضح خبايا هذا التصنيف، ومن أبرزها قراءة محمد عابد الجابري الذي يظهر في مشروعه أثر ابن خلدون بالتصريح والتضمين، سواء تعلق الأمر بكتب المنهج والرؤية الابستيمولوجية، أو بدراسة التراث العربي الإسلامي، ثم قراءة محمد وقيدي التي قدمها في كتابه "العلوم الإنسانية والإيديولوجيا"، بحيث يظهر ابن خلدون معه مؤسساً للعلوم الإنسانية.

 

قراءة الجابري: ابن خلدون وتكامل العلوم العقلية والنقلية

أكد الدكتور الجابري في بداية حديثه عن تصنيف العلوم عند ابن خلدون؛ أن الرجل كان يستعمل جهازاً معرفياً ذو بعدين: بعد عقلي يقوم على التجربة والحواس، وبعد نفسي يؤمن بأن النفس الإنسانية تشكل جوهراً روحانياً مهيأً بطبعه لكي ينسلخ عن البشر ويصير من جنس الملائكة، فـالإنسان "في مركز الكون، وهو متصل بالعالم المادي بجسمه وحواسه، ومتصل بالعالم الروحاني بروحه ونفسه"1. وتتخذ النفوس البشرية في اتصالها هذا ثلاثة أصناف: صنف يتجه إلى الجهة السفلى، وصنف ينسلخ عن البشرية ويتجه نحو الملائكة، وهؤلاء هم الأنبياء، ثم صنف وسط. هذه الأصناف تجعلنا حسب ابن خلدون أمام ثلاثة أنواع ممكنة من المعارف: المعرفة العقلية القائمة على الحس والتجربة، معرفة نفسانية مصدرها الوحي يختص بها الأنبياء، ثم معرفة نفسانية مصدرها الرياضة والاكتساب، وهي التي للمتصوفة والكهان وأصحاب الرؤى الصادقة2.

استدعى هذا التقسيم حسب الجابري تصنيف العلوم ثلاثة أصناف، غير أننا نجد أن ابن خلدون قد شكك في إمكانية صحة المعارف النفسانية التي مصدرها الرياضة والاكتساب، واكتفى بتبني التصنيف الإسلامي المشهور، الذي يميز بين نوعين من العلوم، علوم نقلية وأخرى عقلية "وفي ذات الوقت يوسع من دائرة العلوم العقلية لتشمل الفلسفة والتنجيم والكيمياء وعلوم السحر جملة... كما يوسع من دائرة العلوم النقلية ليجعلها تشمل التصوف وعلم تعبير الرؤيا، على الرغم من أنهما لا يعتمدان على الوحي، بل يدرجهما في صنف العلوم النقلية، فقط لكون الوحي يعترف بهما نوعاً من الاعتراف"3.

أما فيما يخص العلوم اللسانية، فنجد الجابري يؤكد في سياق تحليله للتصنيف الخلدوني يؤكد أن هناك علوماً في عالم الثقافة والفكر لا تندرج تحت الصنفين المذكورين مثل، اللغة والأدب والبلاغة وغيرها، ويضيف أنه لكي يجد لها ابن خلدون مكاناً في مقدمته تبنى تصنيفاً آخراً للعلوم يقوم لا على أساس مصدرها المعرفي، بل على أساس الوظيفة التي تؤديها، ومن ثمة تكون العلوم صنفين: علوم مقصودة بالذات، وعلوم آلية وهي وسيلة للعلوم الأولى كاللغة العربية والحساب للشرعيات، والمنطق للفلسفة. ولهذا نجد ابن خلدون خصص حيزاً كبيراً للحديث عن اللغة والنحو وعلوم اللسان العربي التي يعتبرها آلة للعلوم النقلية4.

لا يتوقف حديث الجابري عند هذا الحد؛ بل يمتد إلى تفسير موقف ابن خلدون من بعض العلوم كالتصوف، وعلم تعبير الرؤيا بالنسبة للعلوم النقلية، بحيث لن تكون هذه الأخيرة قائمة على المنقول عن القرآن الكريم والنبي، بل تشمل أيضاً العلوم التي بنيت على تقليد السلوك الديني أيضا5. كما يفسر إضافة علوم التنجيم والطلسمات والكيمياء والسحر، قائلاً: إنه يشكك في إمكانية قيامها، رغم أنه أوردها ضمن العلوم العقلية6.

 

قراءة محمد وقيدي: ابن خلدون مؤسساً للعلوم الإنسانية

علق محمد وقيدي في الفصل الأول من كتابه "العلوم الإنسانية والإيديولوجيا" على التصنيف الخلدوني للعلوم قائلاً: إن الرجل "يبدي عزمه على التجديد المنهجي في علم عريق هو التاريخ، في الوقت الذي يعلن فيه عن وعيه بأن هذا التجديد المنهجي... قاده إلى اكتشاف علم جديد لم يسبقه إليه غيره وهو علم العمران البشري"7. هذه ملاحظة ذكية جداً حيث إننا لا نجد ذكراً لهذين العلمين في التصنيف الذي أورده ابن خلدون عند تقسيمه العلوم إلى نقلية وعقلية. لقد كان واعياً بتأسيسه لإطار علمي جديد "وهو ما ندعوه اليوم بالعلوم الإنسانية، وإن كان ابن خلدون لم يتحدث عن العلمين بهذه الصفة"8، فقد احتفظ بنفس المبدأ العام الذي اعتمده المفكرون الإسلاميون السابقين عليه، حيث قسم العلوم إلى نقلية وعقلية، لكنه لا يذكر ضمنهما التاريخ وعلم العمران.

وجه ابن خلدون نقداً جذرياً للموقع الذي كان يحتله علم التاريخ ضمن التصانيف القديمة للعلوم "فهناك تصانيف لا تذكره على الإطلاق مثلما هو الشأن بالنسبة للفارابي في كتابه "إحصاء العلوم"، ولا يختلف موقف هذه التصنيفات عن موقف أرسطو الذي لا يذكر قبلها هذا العلم، سوى أنها تضيف جملة من العلوم الشرعية التي لم يكن بإمكان أرسطو ذكرها"9. أما ابن النديم والخوارزمي وإخوان الصفا، فهم يذكرون التاريخ بوصفه علماً ثانوياً ملحقاً بالعلوم الشرعية، يسمون هذا العلم بـ "علم الروايات والأخبار"10، ويُوضحون ذلك بالقول "فعلماء الروايات هم أصحاب الحديث"11، ونجد الغزالي في كتابه "إحياء علوم الدين" يعين موضوع علم التاريخ بقوله: هو "العلم بالرجال وأسمائهم وأنسابهم، وأسماء الصحابة وصفاتهم، والعلم بالعدالة في الرواة، والعلم بأحوالهم ليُميز الضعيف عن القوي، والعلم بأعمارهم ليميز المرسل من المسند"12.

إن عدم ذكر التاريخ من طرف ابن خلدون ليس إغفالا له، بل هو محاولة لتبيين المكانة الحقيقية له التي هي ضمن العلوم العقلية، وذلك لا يمكن أن يتم إلا من خلال "تثوير منهجي لعلم التاريخ؛ إذ لا يمكن أن ينتقل علم التاريخ من كونه من العلوم الشرعية وملحقاً بها إلى كونه علماً عقلياً، دون أن يتخلى عن منهجه السابق"13. لذلك انتقد ابن خلدون المنهج الذي كان سائداً فيه، والقائم على الإخبار والرواية، محاولا إخراجه من ماضيه الإيديولوجي ليصبح علماً مستقلاً، فمن أسباب الخطأ في التاريخ حسبه هناك "خضوع المؤرخين لمطلب الأهداف الإيديولوجية"14، حيث إن التقليد التاريخي نشأ مرتبطاً بعاملين، عامل ديني المتمثل في الحفاظ على العقيدة، وعامل سياسي المرتبط بتطور السلطة السياسية والصراعات التي قامت حولها، مما جعل العودة إلى الماضي والبحث في الأنساب وبيان مكانة الخليفة ضمن مجموع الأمة تتم في ارتباط بحماية السلطة.

حاول ابن خلدون إحداث قطيعة إبيستيمولوجية مع الماضي الإيديولوجي لعلم التاريخ، من خلال تبديل منهج الإتباع والتقليد الذي كان ساداً فيه، بمنهج التعليل الذي يأخذ بعين الاعتبار مدى مطابقة ما يروى لأحوال العمران، وهنا لا بد من علم جديد، فهناك ضرورة معرفية تقتضي "أن يضاف إلى مجموع العلوم القائمة علم جديد لم ينتبه العلماء حينئذ إلى موضوعه"15، وهو علم العمران البشري أو علم الاجتماع، فحديثه عن التاريخ أدى به إلى اكتشاف هذه الضرورة؛ لأن من أسباب فساد التاريخ حسبه الجهل بطبائع الأحوال في العمران، ومن ثم ضرورة علم يقوم بهذه المهمة. لقد أراد ابن خلدون أن يقيم "علمين أساسيين يكون موضوعهما الظواهر الإنسانية"16، وهنا يظهر تأسيسه لمجال معرفي جديد هو الذي سيعرف لاحقاً بالعلوم الإنسانية.

هذه إذن؛ بعض الملامح الإشكالية والمعرفية العامة التي يثيرها تصنيف العلوم عند ابن خلدون، وهي ملامح تكشف عن حيوية الحركة العلمية في العصر الإسلامي الوسيط وشموليتها لمختلف مناحي الحياة الروحية والمادية والاشراطات المنهجية لكل ناحية منهما.

 


الهوامش: 1. محمد عابد الجابري، نحن والتراث: قراءات معاصرة في تراثنا الفلسفي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 1985، ص: 267.┇2. المرجع نفسه، ص: 267- 269.┇3. المرجع نفسه، ص: 270.┇4. المرجع نفسه، ص: 270- 271.┇5. المرجع نفسه، ص: 272.┇6. المرجع نفسه، ص: 280.┇7. محمد وقيدي، العلوم الإنسانية والإيديولوجيا، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الثالثة، 2011، ص: 6- 7.┇8. المرجع نفسه، ص: 7.┇9. المرجع نفسه، ص: 9.┇10. المرجع نفسه، ص: 10.┇11. إخوان الصفا، رسائل إخوان الصفا وخلان الوفا، المجلد الأول، دار بيروت للطباعة والنشر، بيروت، 1957، ص: 267.┇12. أبو حامد الغزالي، إحياء علوم الدين، المجلد الأول: الجزء الأول، دار الفكر، بيروت، 1975، ص: 3.┇13. محمد وقيدي، العلوم الإنسانية والإيديولوجيا، مرجع سابق، ص: 11.┇14. المرجع نفسه، ص: 12.┇15. المرجع نفسه، ص: 15.┇16. المرجع نفسه، ص: 17.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها