المنسوجات في بلاد الصين

وقفات مع كتابات الرحالة العرب

د. ربيع أحمد سيد أحمد


وصف الرحالة ابن بطوطة صناعة المنسوجات في بلاد الصين، وبراعتهم فيها بقوله "والحرير عندهم كثيرٌ جدًا؛ لأن الدودة تتعلّقُ بالثمارِ، وتأكل منها، فلا تحتاج إلى كثير مؤونة، ولذلك كَثُرَ، وهو لباس الفقراء والمساكين بها، ولولا التجار لما كانت له قيمة، ويُباع الثوب الواحد من القطن عندهم بالأثواب الكثيرة من الحرير. وترى التاجر الكبير منهم عليه جُبّة قُطن خشنة (الجُبّة ثوب سابغ واسع الكمين، مشقوق المقدم يلبس فوق الثياب، والجمع جبب، وجباب. والجُبّة ثوب للرجال مفتوح للأمام، يلبس عادة فوق القفطان، وفي الشتاء تبطن بالفرو، والجُبّة لفظ عربي ينطق في مصر بكسر الجيم مع تخفيفها، وهو أيضاً رداء شامي الأصل ضيق الأكمام يطبق أحياناً بالقطن، ويلبس تحت العباءة، ولكنه يلبس في مصر فوق القفطان)1.


ثمّ تحدّث ابن بطوطة عن مدينة الزيتون، وقارن بين الثياب التي تُصنع فيها، وبين غيرها من المُدن بقوله: "كانت أولّ مدينة وصلنا إليها مدينة الزيتون، وهذه المدينة ليس بها زيتون، ولا بجميع بلاد أهل الصين والهند، لكنه اسم وُضِع عليها، وهي مدينة عظيمةٌ كبيرةٌ، تُصنع بها ثياب الكمخاء (الكمخاء: بفتحٍ فسكونٍ، كلمة فارسية مُعرَّبة، وأصلها في الفارسية: كمخا، ومعناها في الفارسية ثوب حرير منقوش من لون واحد، وقد يكون من عدّة ألوان، وقد انتقلت الكلمة للعربية بصورتين الفارسية كمخا، وصورة عربية ممدودة "الكمخاء"، وتعني الثياب الحريرية المنقوشة المُزركشة)2. والأطلس (الأطلس: ثوبٌ من حريرٍ منسوجٍ، وهو لفظ ليس بعربي، والأطلس في الفارسية تعني الحرير)3، وتُعرف بالنسبة إليها، وتُفضل على الثياب الخنساوية والخنبالقية"4.

وذكرت المصادر الإسلامية الخاصة بالرحالة؛ أن أنواع النسيج المجلوبة من بلاد الصين والتي يتم تصديرها لمُختلف بلدان العالم الإسلامي، هي من أفضل الأنواع المضمونة في العالم؛ وأن للصينيين براعةً خاصة في مجال الثياب الملبوسة والمفروشة، لا ينافسهم فيها أحد. يقول المروزي: "وأمّا صنعة الثياب الملبوسة والمفروشة فلهم فيها نيقةً ومهارةً، ولا يبلغها أحدٌ من الأمم؛ وذكر في موضعٍ آخر "أنّ من أهل الأسواق قومٌ يطوفون في البلدِ يبيعون الأمتعة والفواكه، وغير ذلك، وقد اتخّذ كل واحد منهم عجلةً يجلس فيها، ويضع فيها أقمشة وأمتعة، وما يحتاج إليه في البيع والشراء، وهذه العجلة من غير دابة"5.

ومن النماذج المُتميزة لتطريز المنسوجات الحريرية من عصر أسرة تانغ (618- 907م)، ومُؤرخة بالقرن (2هـ/ 8م)، ومحفوظة بمتحف المتروبوليتان بنيويورك، وقوام زخارفها: طائران يتدلى من فمها فرع نباتي، والطائران مُتقابلان بالرأس، ويفصل بينهما فرع نباتي، والمنظر التصويري مُنفذّ بدقة عالية، وقد نوعّ الفنان وأبدع في توزيع الألوان على سطح المنسوج.

ومن نماذج المنسوجات الصينية التي يتجلّى فيها الإبداع، قطعة من نسيج الحرير، تُنسب إلى أسرة تانغ، ومُؤرخة بآواخر القرن (2هـ / 8م)، وقوام زخرفتها ميدالية في المنتصف لوردة مُتعددة البتلات، وفي الأركان الأربعة أرباع الميدالية، وهو نمط زُخرفي شاع على العديد من التحف التطبيقية الصينية (معادن وخزف).

وذكر السيرافي لباس أهل الصين من الحرير بقوله: "ولباس أهل الصين الصغار والكبار الحرير، وفي الشتاء والصيف، فأمّا المُلوك فالجيّد من الحرير، ومن دونِهم فعلى قدرهم، وإذا كان الشتاء لبس الرجل السروالين، والثلاثة، والأربعة، والخمسة، وأكثر من ذلك على قدرِ ما يُمكنهم؛ وإنما قصدهم أن يُدفوا أسافلهم لكثرة الندى، وخوفهم منه، فأما الصيف فيلبسون القميص الواحد من الحرير، ونحو ذلك، ولا يلبسون العمائم، ولملوكهم الديباج والحرير6.

وعند حديث ابن بطوطة عن العلاقات بين ملك الصين والهند، وتبادل الهدايا، ومنها النسيج، فيقول: "وكان ملك الصين قد بعث إلى السلطان مائة مملوك وجارية، وخمسمائة ثوب من الكمخا، منها مائة من التي تُصنع بمدينة الزيتون، ومائة من التي تُصنع بمدينة الخنسا، وخمسة أمنان من المسك، وخمسة أثواب مُرصعة بالجوهر، ومثلها من التراكش مُزركشة..."7.

وعن شُهرة مدينة الخنسا في صناعة الكمخاء، يقول ابن بطوطة: "ومدينة الخنسا مدينة كبيرة عظيمة تُصنع بها ثياب الكمخا، والأطلس"؛ ووردت الكمخا في نصوص عديدة من رحلة ابن بطوطة منها قوله: "وصنعت رسنًا مُصفحًا بصفائح الفضة، وجعلت له جُلّين مُبطنين بالكمخا، وأهداني ثيابًا من الملف والمرعز8 (المرعز أو المِرعزي: بكسر الميم، وسكون الراء تُطلق على الليّن من الصُوف، والمِرعزي يُخلص من بين شعر العنز، وذكره دوزي في معجم الألفاظ الفارسية بقوله: والمِرعزي نوع من النسيج المُتخّذ من الصوف. وقد ذكره ابن بطوطة عند حديثه عن بلدة ماردين: "وبها تُصنع الثياب المصنوعة من الصوف المعروفة بالمرعز، وفي موضع آخر وأعطاني خلعة من المرعز". والكمخا قُماش حريري دمقسي مُوشَّى بالذهب الكثير، ويُصنع منه ملابس للحفلات، وحليات كهنوتية، وطنافس للبيوت، وكانت تُصنع في الأصل في الصين، حيث كانت ترتديه الشخصيات الكبيرة، ويُنتسب اسمه إلى بلدٍ في الصين يُدعى بروكار كنشا Kincha أو كمشا Kimcha، وانتقل إلى فارس باسم الكمخا Kimkha، وكان يُصنع في هراة ونيسابور وتبريز؛ ثم دخلت الكمخا بلاد العرب بعد ذلك9.

وقد أشار ابن خرداذبه في المسالك والممالك إلى صادرات الصين إلى مُختلف الأقاليم بقوله: "والذي يجيء في هذا البحر الشرقي من الصين الحرير، والفرند، والكيمخاو، والمسك، والعود، والسروج، والسمور، والصيلبنج، والدارصيني، والخولنجان، والغضار الجيّد في لُوقين وهي أول مراقي الصين على بُعد مائة فرسخ في البرّ والبحر10.

وفي المصادر الصينية نص تاريخي يُشير إلى وجود فنانين صينيين في الكوفة مُنذ منتصف القرن الثاني الهجري/ الثامن الميلادي. وهناك إشارات إلى شخص يُدعى "توهوان" كان في الأسر عند العرب سنة 751م، ونجح في الهروب سنة 762م، ففرّ على متن سفينة تجارية إلى مدينة كانتون، ومنها إلى وطنه سينجان، وذكر أنّ صُناعًا من بني وطنه (صينيون) كانوا في الأسر في الكوفة، وقد علّموا الصُناع المُسلمين نسج الأقمشة الحريرية الخفيفة، وصناعة التُحف الذهبية والفضية. وقد يكون في حديثة بعض المُبالغة غير أنّه يدل على العلاقات العربية الصينية منذ فترة مُبكّرة11.

وعند ابن الفقيه في كتاب البُلدان: "وقد خصّ الله أهل الصين بإحكام الصناعات وأعطاهم منها ما لم يعط أحداً، فلهم الحرير الصيني والغضائر الصيني والسروج الصيني، وغير ذلك من الآلات المحكمة العجيبة الصنعة المتقنة العمل"12.

وكان الحرير الصيني واسع الانتشار في شرق العالم الإسلامي ولاسيما منذ عصر المغول؛ وقلّد الإيرانيون زخارفه، فأنتجوا أنواعًا جيدة من الديباج كانوا يصدرونها إلى البلاد الأجنبية. وقد عثر على نماذج منها في بعض المقابر بمدينة فيرونا الإيطالية، وكانت زخارفها من الحيوانات الخرافية، والزهور الصينية، والكتابات العربية13.

ويتحدّث الرحالة المُسلمون في القرنين الثالث والرابع الهجريين عن الحرير؛ وهناك إشارات إلى أنواع مُختلفة منه، وأنّ أفخر أنواع الثياب الحريرية "الشفّاف منه"، ولا يلبسه في الصين إلا المُلوك، والمُقربين منهم "كالخِصيان"؛ أي الخدم وموظفي الضرائب، وكبار القادة، وهذا النوع لا يحمل إلى البلاد العربية وذلك بسبب ثمنه المُبالغ فيه، وقد وصفه أحد التُجار المُسلمين بأنه الحرير الفاخر، فقال: إنّ خصي حاكم مدينة كانتون المُكلّف باختيار أحسن البضائع الواردة من البلاد العربية، كان يرتدي خمسة أردية شفافة فوق بعضها البعض14.

وأمّا أغطية رؤوسهم فتكون بشيء يُشبه القلانس، ولباس خدمهم، ووجوه قوادهم فاخر الحرير، وأهل الصين في لباسهم وزيهم ودوابّهم يتشبهون بالعرب، ويلبسون الأقبية، والمناطق؛ وهذه المناطق مصنوعة في الغالب من قرون حيوان الكركدن (وحيد القرن)؛ وهذه المناطق مُرتفعة الأثمان، ويلبسها الأباطرة، وكبار رجال الدولة، والأغنياء. وأمّا النساء فيتمنطقن بأحزمة من الحرير أو القطن أو الصوف، حسبَ وضع المرأة ومكانتها الاجتماعية في المُجتمع الصيني؛ فزوجة الإمبراطور وكبار رجال الدولة تتمنطق بحزام من الحرير؛ وزوجة الفلاح بمنطقة من القطن أو الكتان أو الصوف15.

وفي القرنين السابع والثامن بعد الهجرة، زاد تأثر المصانع الإيرانية بالأساليب الصينية في زخرفة المنسوجات؛ بسبب ازدياد الوارد من الأقمشة الصينية واتساع تجارة إيران مع الشرق، ثم بسبب غزوات المغول وقدوم كثيرين من النساجين الصينيين إلى إيران؛ وقد عرفنا أنّ جاليات إسلامية نمْت في الصين حينئذ واشتغلت بنسج الأقمشة الحريرية التي كانت تُصدّر إلى أنحاء الشرق الإسلامي، وأقبل النساجون الإيرانيون على استعمال الموضوعات الزخرفية الصينية الخُرافية كالتنين والعنقاء والسيمرغ16. وأصبح الحرير الصيني رمزًا لعلو المكانة الاجتماعية17.

وكذلك كان المصورون في المدرسة الصفوية الثانية مغرمين بتقليد الصور الصينية ورسم الصور بدون لون أو بلون قليل جدًّا، وكان على رأس هذه المدرسة رضا عباسي وولي جان التبريزي، وصادق، انصرفوا إلى تقليد الصور والرسوم الموجودة على الحرير الصيني الذي كان ذائع الانتشار في ذلك الوقت18.

ويتحدث الإدريسي في نُزهة المُشتاق عن حرير مدينة سوسة الصينية بقوله: "وبها طرز كثيرة مشهورة بعمل الحرير الصيني الرفيع القيمة، المُحكم الصنعة، الذي لا يُقرن به غيره، وسوسة الصين على شرقي نهر خمدان الكبير"19.

 


الهوامش: 1. المُعجم الوجيز، مجمع اللغة العربية، 1994م، ص: 91؛ رجب عبد الجواد إبراهيم، المعجم العربي لأسماء الملابس، ص: 105.2. رجب عبد الجواد إبراهيم، المُعجم العربي لأسماء الملابس، دار الآفاق العربية، الطبعة الأولى، 1423هـ/ 2003م، ص: 436.3. الأطلس: ثوبٌ من حريرٍ منسوجٍ، وهو لفظ ليس بعربي، والأطلس في الفارسية تعني الحرير.4. ابن بطوطة (محمد بن عبدالله بن محمد بن إبراهيم اللواتي الطنجي ت 779هـ)، رحلة ابن بطوطة المسماة تُحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار، الطبعة الأولى، دار إحياء العلوم، بيروت، لبنان، 1407هـ/ 1987م، ص: 641-645.5. المروزي (الطبيب شرف الزمان طاهر المروزي)، أبواب في الصين والترك والهند مُنتخبة من كتاب طبائع الحيوان (كتبه عام 514هـ)، ص: 4. شفيقة عيساني، شبه القارة الهندية وبلاد الصين من خلال الرحالة والجغرافيين المُسلمين في الفترة من ق 3-8هـ/ 9-14م، مخطوط رسالة ماجستير غير منشورة، قسم التاريخ، كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية، جامعة الجزائر، 2008-2009م ص: 84.6. السيرافي (أبوزيد الحسن)، رحلة السيرافي، تحقيق عبد الله الحبشي، المجمع الثقافي، أبو ظبي، 1999م ص: 31-38.7. ابن بطوطة، رحلة ابن بطوطة، ص: 541.8. ابن بطوطة، رحلة ابن بطوطة، أكاديمية المملكة المغربية، الرباط، ج3، 1417هـ/ 1996م، ص: 226. رجب عبد الجواد ابراهيم، المعجم العربي لأسماء الملابس، ص: 465.9. ابن بطوطة، رحلة ابن بطوطة، أكاديمية المملكة المغربية، الرباط، ج4، 1417هـ/ 1996م، ص: 7؛ رجب عبد الجواد ابراهيم، المعجم العربي لأسماء الملابس، ص: 436.10. ابن خرداذبة (أبو القاسم عُبيد الله بن عبد الله ت 280هـ) المسالك والممالك، دار صادر، بيروت، لبنان، 1989م، ص: 69.11. زكي حسن، الصين وفنون الإسلام، ص: 22.12. ابن الفقيه (أبو عبد الله أحمد بن محمد بن إسحاق الهمداني المعروف بابن الفقيه ت 365)، البلدان، الطبعة الأولى، عالم الكُتب، بيروت، لبنان، 1416هـ، 1996م، ص: 612.13. زكي حسن، الصين وفنون الإسلام، ص: 40.14. شفيقة عيساني، شبه القارة الهندية وبلاد الصين من خلال الرحالة والجغرافيين المُسلمين، ص: 85.15. طارق فتحي سلطان، الزواج في بلاد الصين من خلال كتب الجغرافية والرحلات العربية والإسلامية في القرون الوسطى، مجلة التربية والعلم، المجلد 18، العدد 2، 2018م، ص: 119.16. زكي حسن، فنون الإسلام، ص: 61.17. ول ديورانت، قصة الحضارة، ج 37، دار الجيل، بيروت، لبنان، 1408هـ/ 1988م، ص: 154.18. زكي حسن، فنون الإسلام، ص: 41. ويُعدّ المُصور رضا عباسي واحدًا من رُواد مدرسة التصوير الصفوية الثانية في إيران، وقد ذاع صيته في رسم الأشخاص فُرادى بالقلم الرصاص. د. ربيع أحمد سيد أحمد، محاضرات في التصوير الإسلامي، الفصل الدراسي السادس، كلية الآثار، جامعة الفيوم، 2019م.19. الإدريسي (محمد بن محمد بن عبد الله بن إدريس الحسني الطالبي، المعروف بالشريف الادريسي ت 560هـ)، نُزهة المُشتاق في اختراق الآفاق، عالم الكُتب، بيروت، لبنان، ج 1، ص: 210؛ الحِميري (أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن عبد المنعم الحِميرى ت 900هـ)، الروض المِعطار في خبر الأقطار، مؤسسة ناصر الثقافية، بيروت، لبنان، 1980م، ص: 331.

 

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها