الحاجز

علياء عبد العظيم


في الصباح أجلس في المقهى كعادتي منذ أكثر من ثلاثة أعوام، أضع 'اللابتوب' ودفتري أمامي على المنضدة الدائرية المرتفعة قليلاً، وأسند ظهري وأغوص في المقعد المريح جداً.. أنظر من خلف زجاج الواجهة على المشهد الأكثر جمالاً وبهجةً في يومي، حيث النهر ينساب في هدوء، الماء والهواء يتلامسان على سطحه في خفة، فيخلقان موجات صغيرة.. تنمو على ضفته الشجيرات الخضراء، تحوم الطيور في سمائه، تمر مراكب الصيد الملونة من خلاله؛ فيبدو الصباح كأنه قطعة من لوحة سحرية.

أشعر دائماً براحة كبيرة في هذا المقهى المثالي للعمل والعزلة.

أكسر صيامي الصباحي بقطعة من الخبز الصحي المحشو بالجبن، لعله يهيئ معدتي قليلاً قبل مفاجأتها بفنجان القهوة، والحقيقة أنه لا فائدة منه؛ فبمجرد أخذ رشفة من القهوة تبدأ آلام معدتي في مصاحبتي إلى بقية اليوم.

أبحث في حقيبتي بسرعة عن دواء المعدة فلا أجده، يضيع دائماً وسط كراكيب الحقيبة الكبيرة الممتلئة بالأوراق، النقود المبعثرة، أحمر الشفاه، المرآة الصغيرة وقطع الحلوى، أفرغ الحقيبة على المنضدة، وأبدأ بالبحث المنظم إلى أن أجده، أبلع القرص بكوب ماء وأجلس في انتظار مفعوله ليبدأ يومي الجديد.

في هذا اليوم وقفت أمامي امرأة جميلة، استأذنتني وسحبت كرسي ثم جلست، بدأت تتحدث عن رؤيتها الدائمة لي ومحاولتها أكثر من مرة التحدث معي، بدأنا نتعرف على بعضنا البعض؛ ولأنها كانت مريحة جداً شاركتها الحكي عن عملي وحياتي الاجتماعية المعقدة، عن الكتب والحب.. وهي أيضاً كانت تثرثر في كل شيء تسكب أسرارها ومشاعرها أمامي بكل تلقائية، تبادلنا الكثير من الضحك وأرقام الهواتف ثم رحلت.

أردت العودة إلى عملي لكنني لم أعد بكامل طاقتي، كنت أنظر إلى شاشة 'اللابتوب'، ولكن فكري مشغول بكل الأبواب التي فتحتها فجأة، بكل الأخبار التي حدثت بها غريبة عابرة مدَّت لي حبل الصداقة فحاولت أن أمسك به.

شعرت بالهواء الشديد يمر من خلالي، يُطَير شعري وأوراقي في أرجاء المقهى، ويحاول أن ينتزعني من مكاني. يفتح خزائني ويبعثر أسراري على الطاولات، قصص حبي القديمة وحكاياتي الأكثر حزناً.. كل المواقف المخزية، ومشاعري المغطاة بطبقات من البلاستيك كانت بجوار فناجين القهوة منثورة أمام الجميع.

حاولت أن ألملم نفسي أجمع حكاياتي وأغلق خزائني، لكنّ روحي كانت مُفتَّحة الأبواب ولا شيء يغلقها.

حاولتُ أن أهدأ نفسي لعل الأبواب تتوارب قليلاً، أفكر في أشياء مبهجة، أركز في كلمات الأغاني العشوائية التي تصدح في المقهى، أُغمض عيني وأستحضر حلماً قديماً، فأسمع صرير الأبواب بداخلي، وهي تغلق ببطء فتهدأ الرياح، وأسترد اتزاني المؤقت لبضع ثوان فسرعان ما يعود التوتر وتهب العاصفة.

في اليوم التالي عدت إلى مكاني وإلى هدوئي وبدأ يومي كالمعتاد، لكن عندما رأيتها ازدادت ضربات قلبي، كانت تجلس مع أخريات يتبادلن الثرثرة، وعندما رأتني اقتربت مني مبتسمة، ودعتني للانضمام لهم، ثم أشارت إليهم فنظرت فإذا هم يلوحون لي ويبتسمون.

اعتذرت منها بسبب انشغالي فعادت إلى طاولتها، وعدت إلى وحدتي أتأمل الأبواب من حولي، وهي تفتح على مصراعيها، الحواجز التي تحيطني وهي تنهار تماماً لتهب منها العواصف، فأصبحت في مهب الريح حتى كدت أن أسقط من على الكرسي، حاولت أن أتمالك نفسي أن أقاوم ولو قليلاً، طلبت مشروباً ساخناً، ووضعت ساقاً على ساق في محاولة لألتف حول نفسي.
لكنني لم أنجح لذا جمعت كل أغراضي ورحلتُ.

في الصباح التالي كنت أعرف وجهتي جيداً، مقهى جديد معزول على أطراف المدينة لامرأة بأبواب مغلقة تماماً.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها