جورج أبيض.. صانع المسرح العربي الحديث!

خلف أحمد محمود أبوزيد


يُعدّ جورج أبيض أعظم ممثل تراجيدي عرفه المسرح العربي؛ إذْ أُطلِق عليه صاحب "الصوت الذهبي"، الذي ظلّ لنصف قَرن أجْهر الأصوات التي رددت على مسامع المشاهد العربي روائع المسرح العالمي، كما أنه هو المؤسس الحقيقي للمسرح العربي في تطوره الحديث، ورائد التعريب المسرحي، حيث تعددت عطاءات إبداعه بين التأليف، والتمثيل، والإخراج، والإنتاج، فقدم نحو 130 مسرحيةً ما بين مؤلفة ومترجمة تُعدّ من روائع المسرح العربي. قال عنه الأديب والمسرحي الكبير توفيق الحكيم: "إننا نقرر حقيقة واقعة لا ينكرها أحد، أن تاريخنا المسرحي سيظل يذكر ويدين لجورج أبيض، بأنه أول من أدخل حب المسرح الراقي في الشرق العربي لذاته، بغير ظهير من الألحان، ووضع بذلك نهضتنا المسرحية على أساس سليم"1.

 


 عاشق المسرح

وُلد جورج أبيض في بيروت عام 1880م، وتلقى تعليمه بمدرسة الفرير، ثم التحق بمدرسة الحكمة الثانوية، شغف بصفة خاصة بدروس اللغة العربية وآدابها، فقد أتاحت له زيادة محفوظه من الشعر والنثر، وأصبحت هوايته الأثيرة جمع رفاقه والخروج بهم إلى الخلاء، لينشدهم الشعر أو يشركهم فيما يبتكره من ألعاب وتمثيل مرتجل. نال شهادة الدراسة الثانوية وهو في سن السادسة عشرة من عمره، وفي حفل التخرج يضطلع ببطولة مسرحية باللغة الفرنسية، وكان الممثل الفرنسي "جان فريج" بين الحضور فهنأه وشجعه على المضي في طريق التمثيل، ونصحه بدراسة فن التمثيل في فرنسا، وقرر جورج أبيض أن ينفذ النصيحة، ولكن كيف وهو لا يملك غير الموهبة والعزيمة، ولم تعد بيروت تتسع لطموحاته، فلم تقدم له سوى وظيفة عامل برق بمرتب هزيل. وإذا كانت فرنسا بعيدة فمصر أقرب، حيث فيها حركة مسرحية بدأت تزدهر، ومبنى للأوبرا، وفرق مسرحية عديدة، فتوجه إلى مصر، حيث عمل في الإسكندرية بوظيفة ناظر محطة، يقضي وقت فراغه في التمثيل بالفرنسية مع جمعية خريجي كلية "سان مارك"، وبالعربية مع بعض موظفي السكة الحديدية، وبعد أن أدى دور البطولة في مسرحية فرنسية، تلقى تهنئة من قنصل فرنسا، ختمها بقوله "إن مكانك الحقيقي في كونسرفتوار باريس، فيعود الأمل ليخفق في قلبه من جديد، فيكتب رسالة لخديوي مصر" عباس الثاني في عام 1904م، بدعوة لحضور مسرحية (برج نيل)، التي سيمثلها على مسرح "زيز ينيا"، ويستجيب الخديوي ويحضر الحفل، وبينما جورج يتهيأ للفصل الرابع؛ إذ بكبير الياوران في حجرة خلع الملابس يعلمه بموافقة الخديوي على سفره إلى باريس لدراسة التمثيل على نفقته.


 أول عربي يدرس فن المسرح في الخارج

سافر جورج أبيض إلى فرنسا، وهناك التحق بالكونسوفتوار، وأثناء دراسته به أعجب بمحاضرات الممثل الكبير "سيليفان"، فقرر أن يستزيد من خبرته في دروس خاصة، كان يعلم أنها ستكلفه الكثير، لكن الفنان الكبير أعجب بمواهبه، فضمه إلى دروسه الخاصة دون أجر. وألحقه بفرقته وأسند إليه العديد من الأدوار المهمة، بل سمح له بأن يؤدي بعض أدواره كلما أصابته وعكة صحية، وطوّف معه معظم مدن فرنسا والمغرب العربي، وكان باستطاعة جورج أبيض، أن يبقى في فرنسا ويبلغ أقصى درجات النجاح الفني، لكن كان عليه واجباً لا يحتمل التأجيل نحو المسرح العربي، الذي كان تواقاً لخبراته ومواهبه، فعاد إلى مصر عام 1910م، على رأس فرقة جمعت عدداً من كبار ممثلي وممثلات فرنسا، حيث استقبل استقبالاً حافلاً، وبعد يومين بدأت عملها على مسرح دار الأوبرا الخديوية، بمسرحية مأساة هوراس لكورتي، ثم تتابعت عروضها وسط ترحيب كبار المسؤولين والصحافة، بأول مسرحي عربي درس فن التمثيل في الخارج، ووصل إلى تلك المكانة الرفيعة، التي سجل من خلالها مقدرة العربي على أن ينازل الغربي فيما يحذقه من فنونه الأصيلة، وأن يقف وإياه على قدم المساواة.


 رائد تعريب المسرح العربي

لم تنل فرقة جورج أبيض الفرنسية النجاح المتوقع؛ لأن عروضها كانت باللغة الفرنسية، الأمر الذي مثل عائقاً أمام تواصل الجمهور المصري مع عروضها، إلا أن الفرصة جاءته عندما دعاه الزعيم سعد زغلول، الذي كان يشغل منصب وزير المعارف في ذلك الوقت، إلى زيارته في مكتبه، وطلب منه أن ينشئ فرقة تمثيل عربية، تسهم في تثقيف الجماهير، ووعده بتقديم كافة المساعدات التي يحتاجها، ولم يكن جورج أبيض يتمنى أكثر من ذلك، فحل فرقته الفرنسية، وعهد بثلاث من روائع المسرح العالمي إلى كبار أدباء العصر لترجمتها، وهي مسرحيات "أوديب ملكاً" لسوفوكليس، ترجمها فرح أنطون، و"عطيل" لشكسبير، ترجمها الشاعر خليل مطران، و"لويس الحادي عشر" لكازميردى لانينى، ترجمها إلياس فياض، وأعلن في الصحف عن حاجته لممثلين من المحترفين والهواة، وكون فرقته العربية من أفضل العناصر المحترفة، بالإضافة إلى عدد كبير من الهواة الموهوبين، وبدأ تدريباته على المسرحيات الثلاث معاً. ولم يشأ جورج أبيض أن يفتتح عمل فرقته بنص أجنبي مترجم إلى العربية، فعهد إلى الشاعر الكبير حافظ إبراهيم، بتأليف مسرحية شعرية عربية عن أحداث لبنان وقتذاك، فكانت مسرحية "جريح بيروت" هي المسرحية التي افتتحت بها الفرقة عروضها في مارس من عام 1912م، ثم تبعتها المسرحيات الثلاث المترجمة، والتي ظلت على كثرة ما قدم من مسرحيات، أثيرة إلى نفسه وإلى جمهوره لأكثر من نصف قرن.


 صناع المسرح العربي الحديث 


رسخ جورج أبيض قواعد العمل الفني للمسرح العربي الحديث، والتي تمثلت:
أولاً:  الاهتمام بالنص المسرحي المقدم للجمهور

كان التأليف المسرحي قبل جورج أبيض يتسم بالجهل بشرائط كتابة المسرحية، ولم تكن هناك إلا مسرحيات مقتبسة من أصل أوروبي، أكثرها مسخ مسخاً، إذا قورن بالأصل، حيث كان الحوار يجري تارة بالنثر المسجوع، وأخرى بالشعر المنظوم المستخرج من قوالب قديمة، ثم كانت المسرحية المترجمة هي بدورها تشكو نقصاً في نقل جميع مشاهدها وسقماً وجموداً في أسلوبها البياني، وأمام هذه الظاهرة التي كانت سائدة في المسرح العربي خلال تلك الفترة، لجأ جورج أبيض إلى أن يقدم مسرحيات واضحة المعالم كاملة السمات، كما اهتم بالمسرحية المترجمة، بعد أن عهد بها إلى من عرفوا بأسلوب عربي سهل رصين وبمعرفة واسعة باللغات الأجنبية، فجاءت هذه المترجمات المسرحية أحذق فناً في النقل، وأنصع أسلوباً، وأوفى عرضاً في الكشف عن المعاني في تفاريق ألوانها وظلالها، مما كان قائماً قبلها.

ثانياً:  الأداء التمثيلي الرائع

عُرف جورج أبيض بأدائه التمثيلي المسرحي الرائع، الذي قام على جهارة الصوت ورخامة النبرات، وإعطاء الحروف حقّها من التكوين استناداً إلى موهبة متميزة في التعبير بالصوت، ذلك الصوت الندي النبرات، الرخيم الجرس، الذي يعتلي السلم الموسيقي في جميع درجاته، ثم يهبط من غير أن يعتريه لهاث أو ضيق أو نشاز، ثم هذه الدقة في تمحيص الحروف وسهولة جريانها من غير تمشدق أو عنت، بحيث لا ينكر منها شيء مهما خفت الصوت أو همس، أضف إلى ذلك عمق الانفعال بمعاني الكلام مع الدقة في تخليص ألوانها وظلالها ثم يسر التعبير، كل هذا كان يؤلف قالباً جذاباً لما يقوله فوق خشبة المسرح، كما أن الجديد أيضاً في أدائه التمثيلي، أنه كان يعالج الدور كوحدة متماسكة، يجب أن يجمع التناسق بين أجزائها المختلفة، و"ألا يعلو جزء عن آخر، إلا بما يكون عليه من أهمية في إبراز معالم الدور، ولكن من غير أن ينخدش التناسق في روائه هذا، وإيقاع المعالجات التي تضمنها الحوار، يهديه إلى متى يسرع ومتى يبطئ في الأداء وتقلب في مدارج الشخصية التي بين يديه، يعلو ويهبط ويضئ ويظلم، فلا يأخذ المتفرج سأم أو ملال"2، هذا الأداء التمثيلي المسرحي المميز، دفع عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين إلى القول: "لم أذق جمال التمثيل إلا حين شاهدت جورج أبيض يمثل قصة أوديب ملكاً، وغيرها من التمثيليات"3، هذا الأداء التمثيلي الرائع جعل منه مدرسة في فن التمثيل المسرحي العربي؛ إذْ قلده كثير من الممثلين وهواة المسرح، فما من مثل ألا وتأثر بجورج أبيض وبأدائه المسرحي الرائع، الأمر الذي كان له أكبر الأثر في تطور الحركة المسرحية العربية.

 الإعداد الحاذق للعمل المسرحي

اهتم جورج أبيض بالمعايير الفنية والتقنية التي كانت متبعة في المسرح الأوروبي، "فعلى يد جورج أبيض، ظهرت لأول مرة وظيفة المخرج المسرحي بكل مسؤولياتها التي نعرفها اليوم، وعهد بها إلى العبقري عزيز عيد"، واهتم بإعداد المناظر والملابس المناسبة لكل مسرحية بسخاء ودقة، لم يعرفها المسرح العربي من قبل، "كما رسخ قواعد فن المسرح والملصقات الدعائية للعمل الفني، فطبع برنامجاً فنياً خالصاً بكل حفلة، وتقيد بموعد ثابت لرفع الستار، وظهر لأول مرة الممثل المدرب بأسلوب علمي، واهتم بالملابس المناسبة لطبيعة الزمان والمكان، ووضع ديكورات مناسبة للعرض المسرحي"4.

 جورج أبيض وعطاءات أخرى

لم يقتصر دور جورج أبيض الريادي في خدمة المسرح العربي عند هذه الحدود، بل نجد أن له إسهاماتٍ واسعةً في سبيل النهوض بفن التمثيل المسرحي، بفضل حرصه على الإسهام في إنشاء أول معهد للتمثيل والمشاركة بالتدريس فيه، في مختلف مراحله وحتى آخر سنوات حياته، كما امتدت أستاذيته، إلى عدة أجيال من كبار ممثلينا المعاصرين، عن طريق إخراجه للعديد من مسرحيات كليات الجامعات المصرية، وتضاعف عدد تلاميذه والمتأثرين بمدرسته في الأداء والتمثيل، كما يتصل بهذا الجانب رعايته لفرق الهواة العديدة، التي تكونت متأثرة بحبه، وكان أبرزها جمعية أنصار التمثيل، برئاسة الأديب والناقد "محمد تيمور"، والتي ظل جورج أبيض مستشاراً فنياً لها حتى آخر أيامه، كما خرج مسرحه في جولات عربية عديدة، حيث كان يقابل بترحيب حاد، ويلتف حوله هواة المسرح وعشاقه، وبصفة خاصة "في تونس التي قام بها عامين منذ عام 1921م، وأنشأ أول معهد للتمثيل وأول فرقة مسرحية منظمة، درب ممثليها وأخرج مسرحياتها بنفسه، فأصبح بذلك تجسيداً حياً لعروبة مسرحنا"5، هذا إلى جانب أنه رائد من رواد التمثيل في السينما العربية، "حيث قدم أول فيلم غنائي ناطق وهو فيلم "أنشودة الفؤاد" عام 1932م"6، واستمر عطاء جورج أبيض المتفرد في خدمة المسرح العربي، حتى رحيله في فبراير من عام 1957م، عن عمر ناهز 77 عاماً.

 


الهوامش: 1. جورج أبيض، رائد التيار الجاد في المسرح العربي، فؤاد دواره، مجلة العربي، عدد يوينه عام 1980م.  2. جورج أبيض، الرائد الفنان، زكي طليمات، مجلة الهلال، عدد يوليو عام 1959م.3. فؤاد دواره، مصدر سابق.┇4. جورج أبيض شيخ الممثلين العرب، فتوح نشاطي، مجلة المجلة، عدد يونيو عام 1959م.5. فؤاد دواره، مصدر سابق.┇6. فتوح نشاطي، مصدر سابق.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها