التّبُورِيدَة أو الفانتازيا.. تراث يستحضر بطولات وأمجاد الأجداد

د. سعيد عبيدي



يعد فن"التّبُورِيدَة" أو فن "الفانتازيا" أحد مقومات وركائز التراث الشعبي المغربي الأصيل، وهو يرمز في الغالب - كما أجمع الباحثون- إلى نوع من المقاومة والجهاد ضد الغزاة، لذلك جرت العادة عند المغاربة في بعض المناسبات الدينية أو الوطنية الاحتفال بهذا الفن الذي يشتق اسمه من البارود المستعمل لدى الفرسان المتبارين، ويطلق على هذه الألعاب أيضاً اسم "الخيالة" نسبة إلى راكبي الخيل، وتسمى كذلك بـ"الفروسية التقليدية" أو "الباردية"، أو "أصحاب البارود" أو "الحركة".


ويرتبط فن "التبوريدة" عند المغاربة ببعض المناسبات الخاصة كما ذكرت سابقاً؛ فهو يمارس في الأعراس وخاصة أعراس الوجهاء والأثرياء، كما يمارس في الاحتفال بالعقيقة والختان، وفي الاحتفال بالعيد المولد النبوي الشريف، ويمارس كذلك في تخليد ذكرى عيدي العرش والاستقلال، إلا أن هذا الفن يكون أكثر حضوراً في المهرجانات والمواسم السنوية التي تقيمها بعض القبائل احتفالا بنهاية الموسم الفلاحي كموسم الولي الصالح سيدي بوعبيد الشرقي الذي يقام في مدينة أبي الجعد (حوالي 200 كلم شرق الرباط)، وموسم "شراكة" ضواحي مدينة الرباط كذلك، وموسم سيدي الغليمي الذي يقام بمدينة سطات (160 كلم غرب الرباط)، وموسم مولاي عبد الله أمغار الذي يعقد بمدينة الجديدة (174 كلم جنوب الرباط)، ومواسم أخرى بمدن: مراكش، المحمدية، مكناس، فاس، الصويرة، وجدة وغيرها من المدن المغربية الكبيرة والصغيرة.

وفن التبوريدة يمارس بطريقة جماعية ولا يؤدى منفرداً، بحيث تتكون كل مجموعة من 10 إلى 25 فارساً، يشتركون في لباس موحد هو "قُفْطان" يعلوه جِلباب تقليدي من غير حزام، ويوضع فوق الجميع في بعض الأحيان بردة بيضاء، ويتزين الفارس كذلك بخنجر من صنع تقليدي عليه بعض النقوش والأحجار الكريمة، وبندقية تقليدية الصنع تعرف في الأوساط المغربية بـ"المُكَحْلّة" وهي التي سيستعملها في عملية إطلاق البارود عند نهاية العرض، كما يتزين الفارس بحذاء جلدي طويل ووشاح يضعه على رأسه.

أما فيما يخص الفرس فيشترط فيه أن يكون عزيز النفس، صغير السن، طويل القامة، وأن تكون خاصرته متسعة، وعضلاته قوية مفتولة، وأن يكون ذيله قصيراً نوعاً ما ينتهي بخصلة من الشعر الطويل، وأن يكون واسع الصدر، عريض الركبتين، مرفوع الرأس، والأهم من هذا كله أن يكون مجهزاً بسرج - وهو الرداء الخشبي/ الجلدي الذي يوضع فوق ظهره- مزكرش بالنواقيس، ومزين بالخيوط الذهبية وأنواع متعددة من النقوش والرسوم.

والمجموعة التي تؤدي فن "التبوريدة" أو ما يعرف بـ"السَّرْبَة" لكي تحظى بالاهتمام والمتابعة يجب أن تكون في غاية الانضباط، يسهر على تسيير شؤونها "مْقَدَّم" أو "عَلاَّم" الذي غالباً ما يكون أكبر الفرسان سناً وأكثرهم حكمة وتجربة، يكلف بمهمة تنظيم فرسانه وتحفيزهم وتشجيعهم، أما مهمة الفرسان فتتجلى في السيطرة على خيولهم وكبح جماحها، والظهور بمظهر لائق أثناء العرض وتنفيذ طلقة البارود بدقة كبيرة.

ومن المتعارف عليه بين من يمارسون هذا الفن أنه يتوجب على الفارس الوضوء قبل امتطاء صهوة جواده، ويستحسن له أن يصلي ركعتين لله يطلب من خلالهما السلامة والنجاة من كل مكروه، ثم يصافح كل من يشاركونه المجموعة والخيمة التي يقيم فيها أفراد القبيلة ويرجو منهم الدعاء له بالحفظ والسلامة بصوت مرتفع، ثم يمتطي فرسه من الجهة اليمنى، لتتوجه بعد ذلك الفرقة إلى ساحة الاستعراض حيث تنتظم "السربة" ويمر أمامها "المقدم" الذي يحمس أصحابه ويحثهم على الثبات، ثم يعود إلى مكانه ويرفع سلاحه نحو السماء في إشارة منه إلى بدء العملية، فتتحرك الخيول في الأمتار الأولى ببطء مؤدية رقصة معينة، ثم تعطى الإشارة مرة ثانية حيث يطلق الفارس العنان لفرسه ليعدو مسرعاً مسافة مائة متر تقريباً، يبرهن خلالها الفارس على ما لديه من مهارات، سواء في السيطرة على فرسه لإبقائه في الصف، أو في ما يخص حركات بندقيته. ويتعين على الفرسان أن يضغطوا على زناد بنادقهم ما أن يعطي "العلام" الإشارة بذلك؛ لأن نجاح "التبوريدة" يكمن في إطلاق طلقات البارود في لحظة واحدة، وتقضي التقاليد بأن يُلزَم الفارس الذي يرتكب خطأ في طلقة البارود المشي على قدميه وليس على صهوة جواده عقاباً له.

وفي هذا المقام من المفيد أن نشير إلى أن فن "التبوريدة" المغربي لم يعد في السنوات الأخيرة حكراً على الرجال فقط، وإنما تم اقتحام هذا المجال أيضاً من طرف النساء، وهذا الأمر ليس تطفلاً، لأن مجابهة الغزاة في القديم وركوب الخيل ليس غريباً عليهن، وهذا ما تثبته صفحات التاريخ المغربي التي أشارت إلى نساء مغربيات حاربن المستعمر، في مقدمتهن -كما هو شائع في التراث المغربي- "عائشة البحرية" الفارسة التي قاومت المستعمر الفرنسي وكبدته الخسائر الفادحة، فدخول المرأة غمار فن "التبوريدة" كسر سيطرة الرجال عليه، وبالتالي أصبحت الفرق النسائية تنافس بقوة نظيراتها الرجالية وتستقطب جمهوراً عريضاً يتزايد باستمرار، وعليه انتقلت المرأة من موقع المتفرجة حيث كانت في الماضي تكتفي بمشاهدة العرض وإطلاق الزغاريد، إلى صف الفرسان وأخذ مكانها المستحق في الميدان.
 

▴ أدرجت منظمة اليونسكو “التبوريدة” ضمن التراث الثقافي اللامادي للمغرب [عام 2021]


ختاما؛ يمكن أن نقول بأن فن "التبوريدة" في ما مضى كان شبيهاً بالاستعراضات العسكرية التي تنظمها الجيوش النظامية في الوقت المعاصر، وفيه أيضاً رفع الحماس لحثّ القبائل على الجهاد ومقاومة المستعمر والغزاة، وأيضًا لتخليد ذكرى الملاحم العسكرية المرتبطة بالذاكرة الجماعية للقبيلة؛ إن على المستوى القبلي المحلي، أو الوطني (مقاومة المستعمر)، أما في الوقت الحاضر فقد صار لفن "التبوريدة" أبعاد متعددة أخرى في مقدمتها البعد السياحي، بحيث أصبح يستقطب ويستهوي زائري المملكة المغربية من كل الجنسيات، لما يوفره من استعراض وفرجة، هذه الفرجة التي لم تعد تقتصر على مضمار السباق؛ وإنما تعدته إلى محيط المتفرجين الذي تزينه مجموعة من الفنون الشعبية والتراثية، مثل "الطقطوقة الجبلية"، و"العيطة" بكل ألوانها، والتي تتغنى بموضوعات البطولات التاريخية وبجمالية وأناقة الفرسان والجياد.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها