السّرد الرّقمي المتعدِّد

منصّة "شاهِد" نموذجًا

د. سيدي مُحمَّد بن مالك

نقترح، في هذا المقال، على الباحثين والمهتمّين بالسّرد الميديائي، مناقشة مصطلح جديد وإثراء مفهومه، وهو مصطلح نزعم، فيما نعلم، أنّنا أوّل من يحاول صياغته وتحديده. إنّه "السّرد الرّقمي المتعدِّد" (Multiple digital storytelling) الذي يحيل إلى تعدُّد الأجهزة أو الدّعامات أو الوسائط الرّقمية التي تستقبل محتوى سردياً متنوّعاً مرسَلا من منصّة واحدة، مثل منصّة "شاهِد" التي يرفع القائمون على إنشائها شعار (اشتراك واحد، عدّة أجهزة)، وهو شعار يحمل، لا ريب، بعداً تجارياً ربحياً، باعتبار أنّ مثل هذه المنصّات يقدّم للمشاهدين خدمة "فيديو حسب الطّلب" (VOD). ولكنّه، في الآن نفسه، شعار يرتكز، ابتغاء تكريسه، إلى التكنولوجيا ممثلةً في الإنترنت (Web 2.0) الذي يتيح، من خلال المنصّات الإلكترونية، إمكانَ التّواصُل والتّفاعُل الافتراضييْن بين المرسِل (شاهِد) والمرسَل إليه (المشاهِد).

لذلك، فإنّه يمكِن، أيضاً، أن ننظر إلى ذلك الشّعار من وجهة تكنولوجية – مادية؛ تكنولوجية من حيث طبيعةُ المرسِل أو الباثّ (منصّة إلكترونية)، ومادية من حيث شكلُ الوسائط التي يستخدمها المرسَل إليه أثناء عملية الاستقبال (الحاسوب، والتّلفزيون الذّكي، والهاتف الذّكي، واللّوح الذّكي، ووسائط أخرى)؛ فيغدو الشّعار حينها (منصّة واحدة، عدّة أجهزة). وإذا رُمْنا عدم إغفال أيّ بعد من الأبعاد التي ينهض عليها مثل هذا السّرد، قلنا، تأسيساً على ما استنتجه ماري – لور رايان (Marie – Laure Ryan) ويان – نويل طون (Jan – Noël Thon) بخصوص السّرد الميديائي عمومًا(1)، إنّ "السّرد الرّقمي المتعدِّد" يتّخذ أربعة أبعاد رئيسة، هي: البعد السّردي – السّيميائي، والبعد التكنولوجي – المادي، والبعد التّداوُلي – التّفاعُلي، والبعد المؤسّساتي – الثّقافي.
 

1] السّرد الرّقمي المتعدِّد؛ التّصوُّر والحدود

 نحسَب أنّ تصوُّر مصطلح "السّرد الرّقمي المتعدِّد" ينتمي إلى ما يمكِن أن نتواضَع عليه، على سبيل الاقتراح، بـ "سرديات التّرابُط الرّقمي" (Transdigital narratology) التي تصف، باعتبارها علماً، تمظهُرات السّردية في أكثر من وسيط تواصُلي رقمي واحد. وهو تصوُّر يتميّز عن مفهوم مصطلح آخر ينتسب إلى "سرديات التّرابُط الميديائي" (Transmedial narratology)، كان قد اصطنعه هنري جنكينز (Henry Jenkins)، وهو "السّرد المترابِط مع الميديا" (Transmedia storytelling) الذي يريد به "عملية تُوزَّع فيها، منهجياً، عناصرُ تخييلٍ ما عبر منصّات ميديائية متعدِّدة، ابتغاء إنشاء تجربة ترفيهٍ منسّقة وموحّدة. على نحو مثالي، يقدِّم كلّ وسيط إسْهامَه الخاصّ في تطوير الحكاية"(2).

 إنّ الفرق بين التّصوُّريْن يكمن في أنّ المصطلح، الذي نقترحه، يشير إلى بثّ محتوى سردي متنوّع، من منصّة رقمية واحدة إلى أجهزة رقمية متعدِّدة آنيا، بينما يومئ مصطلح هنري جنكينز إلى بثّ محتوى سردي واحد من منصّات مختلفة، رقمية وغير رقمية، إلى أجهزة متعدِّدة، رقمية وغير رقمية هي الأخرى، بالتّناوُب؛ أيْ إنّه يمكِن لمستقبِلي "السّرد الرّقمي المتعدِّد"، ممثّلا بمنصّة "شاهِد"، أن يشاهدوا، فرادى، وعبر أجهزة رقمية تعمل بنظام (Android) أو (IOS) وباستخدام شبكة (Wi-Fi) أو (Airplay)، محكيات ميديائية مثل المسلسلات والأفلام والمسرحيات، وبرامج إخبارية وحوارية ووثائقية وترفيهية ورياضية، وبرامج تبثّ مباشَرة من القنوات التّلفزيونية. في حين، لا يمكِن لمستقبِلي "السّرد المترابِط مع الميديا" سوى أن يشاهدوا، مجتمعين، ومن خلال وسائط ميديائية تقليدية مثل شاشة العرض السّينمائي وشاشة التّلفزيون والمذياع وأخرى رقمية نظيرَ الحاسوب، محكياً واحداً فقط، غالباً ما يكون فيلماً سينمائياً أو مسلسلاً تلفزيونياً.

وعلى هذا الأساس، يُعدُّ "السّرد الرّقمي المتعدِّد" سرداً رقمياً خالصاً؛ فهو يرتهن، أثناء تداوُله بين المرسِل والمرسَل إليه(3)، بالإنترنت وبكلّ ما يدور في فلكه من منصّات ودعامات ذات طبيعة رقمية. أمّا "السّرد المترابِط مع الميديا" فهو سرد هجين، لا يتقيّد حصراً، خلال تعاوُره بين الباثّ والمتلقّي، بالإنترنت؛ إذ تُتداوَل حكايته، في البداية، عبر شاشة العرض السّينمائي أو شاشة التّلفزيون، ثمّ تُستكمَل عبر شاشة ألعاب الفيديو أو المذياع أو وثائق إلكترونية تُنشَر في الإنترنت؛ فالهجنة قد تكون توليفاً بين وسائط غير رقمية، مثلما هي الحال في فيلم "ماتريكس" (Matrix)، وقد تكون إقراناً بين وسائط غير رقمية وأخرى رقمية، كما هو الأمر في المسلسل الألماني ألفا 0.7 (Alpha 0.7))(4).

إنّ قصّ الحكاية المفرَدة لـ"السّرد المترابِط مع الميديا" يمرّ عبر أجهزة رئيسة وأخرى ثانوية، بحيث لا يستطيع المتلقّي أن يحيط بوقائع تلك الحكاية وأحداثها إلّا إذا اقتفى سيرورتها في الوسائط جميعها. وذلك على العكس، تماماً، من قصّ المحتوى السّردي المتنوّع لـ"السّرد الرّقمي المتعدِّد" الذي يمرّ عبر جهاز يصطفيه المشاهِد؛ فينتقي ما يرغب في مشاهَدته من محتوى. وحتّى في حال مراوَحة مشاهِد "السّرد الرّقمي المتعدِّد" بين جهاز وآخر في مشاهَدة محكي بعينه، فإنّ ذلك لا يعدو أن يكون فعلا تفضيلياً مثل فعلِ تفضيل المحتوى السّردي نفسِه، وليس فعلا إلزامياً مثلما يقتضيه استقبال "السّرد المترابِط مع الميديا".

وفضلا عن التّمايُز السّردي (محتوى سردي متنوّع / محكي واحد) والتكنولوجي (منصّة رقمية واحدة / منصّات مختلفة رقمية وغير رقمية)، والمادي (وسائط رقمية متعدِّدة / وسائط متعدِّدة رقمية وغير رقمية)، بين "السّرد الرّقمي المتعدِّد" و"السّرد المترابِط مع الميديا"، يوجد اختلاف آخر بين السّرديْن على مستوى تفاعُل المشاهِد أو المستقبِل(5) مع المحتوى السّردي الذي يشاهِده أو يتلقّاه؛ إذ يتّسم السّرد الأوّل بتفاعُل محدود لا يتجاوز فيه المشاهِد تخومَ المشاهَدة إلى الإسْهام في تطوير الحكايات من خلال الكتابة. في حين، يمكِن لمستقبِل السّرد الثّاني أن يشارِك في تطوير الحكاية، عن طريق ما يدعى بتخييل المعْجَبين (Fanfiction)، وهو ضرب من الكتابة ينشره المعْجَب عبر دعامة ورقية (مجلّة خاصّة بذلك التّخييل مثلا) أو رقمية (موقع إلكتروني، على سبيل المثال، يسعِف المعْجَب في تقديم اقتراحاته)، ويصبو، من خلاله، إلى إثراء المحتوى السّردي. ومن ثمّ، يتّخذ تطوير الحكاية، في "السّرد المترابِط مع الميديا"، بعديْن اثنيْن؛ بعد ميديائي جوّاني يرتبط بإسْهام المنصّات في بثّها، وآخر تفاعُلي برّاني يتّصل بمشارَكة المتلقّي في كتابتها.

ومثلُ هذه الممارَسة، التي يضطلع بها مستقبِل "السّرد المترابِط مع الميديا"، في تطوير الحكاية من خلال الكتابة، نلفيها، كذلك، في المحكي الأدبي الجماعي، وهو أحد صنوف المحكي الأدبي التّفاعُلي (Le récit littéraire interactif) الذي اهتمّ سارج بوشاردون (Serge Bouchardon) بمقارَبته، حيث يستطيع كلّ قارئ، يتصفّح المحكي في الإنترنت، أن يسهِم في كتابة جزء منه، أو إدراج معلومات فيه، بل إنّه يستطيع المشارَكة في الاشتغال على مظهره وشكله عبر الحاسوب، في سياق ما يسمّى المحكي الأدبي المتحرّك(6). ومثلُ هذا الاشتغال الأخير لا يتيسّر لا لمشاهِد "السّرد الرّقمي المتعدِّد" ولا لمتلقّي "السّرد المترابِط مع الميديا".
 

2] أبعاد السّرد الرّقمي المتعدِّد

أشرنا، آنفًا، إلى أنّ أبعاد "السّرد الرّقمي المتعدِّد" أبعاد مجرَّدة تشمل أنواع السّرد الميديائي جميعها، سواء أكانت محكيات ذات وسيط واحد، رقمي (المحكي الأدبي التّفاعُلي) أو غير رقمي (المحكي الفيلمي)، أم محكيات متعدِّدة الوسائط، رقمية (السّرد الرّقمي المتعدِّد) أو هجينة (السّرد المترابِط مع الميديا). وهو ما يعني أنّ سمات تلك الأبعاد ليست واحدة في المحكيات كلّها؛ إذ ينفرد كلّ محكي بخصائصه وميزاته السّردية –السّيميائية والتكنولوجية– المادية والتّداوُلية –التّفاعُلية والمؤسّساتية– الثّقافية. ذلك ما سنسعى إلى بيانه، من خلال وصْف أبعاد "السّرد الرّقمي المتعدِّد"، ممثّلا بمنصّة "شاهِد".

2 – 1 – البعد السّردي – السّيميائي:

تقدِّم منصّة "شاهِد" محتوى سردياً متنوّعاً، تخييلياً وغير تخييلي؛ فأمّا المحتوى التّخييلي فيتمثّل في تلك المحكيات الميديائية التي تجري مجرى المحكيات الأدبية، من حكاية وقصّة ورواية ونصّ مسرحي، من حيث قصُّ أحداث تحاكي الواقع (السّرد الطّبيعي) أو تخالفه (السّرد غير الطّبيعي)، نظيرَ مسلسل "الزّند؛ ذئب العاصي" وفيلم "من أجل زيكو" والمسرحية التّلفزيونية "العيال كبرت"، ومسلسل الأطفال "سرّ الكهف"، وسلسلة الرّسوم المتحرّكة (Anime) "Legend of the Galactic Heroes". وأمّا المحتوى غير التّخييلي فيتمثّل في تلك البرامج الميديائية التي تنقل تجارب أو أحداثاً حقيقية (السّرد الواقعي)، من قبيل البرنامج الحواري "سؤال مباشِر" والشّريط الوثائقي "Hitler’s Gold" وبودكاست (Podcast) مسلسل "عروس بيروت".

ولا غرْو، بعد ذلك، في أن يستمدّ المحتوى التّخييلي بعض حكاياته من التّاريخ وحياة النّاس، مثل فيلم "The founder" الذي يروي السّيرة الذّاتية لراي كروك (Ray Kroc) الذي طوّر مطاعم ماكدونالدز (McDonald’s)، وفي أن يتلبّس المحتوى غير التّخييلي نفسُه ببعض التّخييل الذي تبعث عليه تخمينات شخوص ذلك المحتوى (هم شخوص أو أشخاص، لأنّهم كائنات حقيقية، عاشت تلك التّجارب أو الأحداث، أو عايشتها، أو خبرتها على سبيل التّخصُّص أو الاهتمام) وتأويلاتهم وتأمُّلاتهم وخواطرهم وأهواؤهم وهواجسهم، مثل الشّريط الوثائقي "كاظمة والجابرية؛ أيّام الرّعب".

يشترك المحتويان، إذًا، في البعد السّردي الذي يتجلّى عبر الحكاية والخطاب والسّرد، وهي مركِّبات ثلاثة تشكِّل المحكي الأدبي، في منظور عالِم السّرد البنيوي جيرار جينيت (Gérard Genette)(7)، حيث يمكِن أن نعثر على مثل هذه المركِّبات في المحكي الميديائي التّخييلي وغير التّخييلي معًا؛ إذ تمثّل الحكاية نواة المحكي هنا وهناك، سواء أكانت متخيَّلة (تجارب أو أحداث مصطنَعة)، أم واقعية (تجارب أو أحداث حقيقية)، ويمثّل الخطابُ الدّالَ أو المظهرَ الذي تتّخذه الحكايتان ميديائيا، وقوامُه الصّوت والصّورة، بينما يمثّل السّرد أداء الحكاية المتخيَّلة أو الواقعية، وهو أداء يتبدّى في شكل سيرورةٍ من الوقائع والأخبار (والسّيرورة لا تعني، بالضّرورة، التّرتيب والتّعاقُب)، مثلما هي الحال في أغلب المحكيات الفيلمية، أو في شكل فعل يُنتِج تلك السّيرورة، يضطلع به الرّاوي، كما هي الحال في المحكيات الوثائقية، بل في البرامج الرّياضية نفسِها، التي تُفرِد لها منصّة "شاهِد" باقة خاصّة بها، حيث إنّ تلفُّظ شخص المعلِّق لملفوظ يتضمّن حدثاً رياضياً، مثل حدث مباراة في كرة القدم، يُصيِّره راوياً، ويجعل تلك البرامج محكيات لا تختلف عن المحكيات الأخرى على صعيد البنية والتّركيب.

ثمّ إنّ هذه المحكيات مجتمعة، تخييلية وغير تخييلية، خطابات ثقافية، إذا نظرنا إليها من وجهة سيميائية صِرف؛ فهي تحيل، حكايةً (التّجارب أو الأحداث)، وخطابًا (الصّوت الذي يتمثّل في اللّغة المنطوقة والموسيقى، والصّورة التي تتمثّل في الشّخصيات أو الشّخوص والمناظر والمشاهد والديكورات والأثاث والأشياء بوصفها أيقونات)، وسردًا (سيرورة الحكاية و/ أو التّلفُّظ)، إلى أنساق ثقافية مضمَرة تعبِّر عن رؤية الإنسان للعالَم، حيث تختلف تلك الأنساق، بوصفها جملة من العادات والأعراف والمعتقدات والممارسات والطّقوس والأخلاق والآداب وأنماط التّفكير وأشكال التّعبير، من محكي إلى آخر، وهو ما نلفيه، مثلا، في تنوُّع المحكيات الدرامية، على الرّغم ممّا قد يكون بين المسلسلات الدرامية العربية (المصرية، والسّورية، والخليجية، والمغاربية) من ناحية، وبينها وبين المسلسلات الدرامية الأجنبية (التّركية، والهندية، والكورية، واللاتينية، والفرنسية) من ناحية أخرى، من ائتلاف في الحبكات والأشكال والموضوعات، وكذلك في تمايُز محكيات فنّ الطّبخ (بين "ساهلة ماهلة" و"بكلّ بساطة" على سبيل الذّكر).

2 – 2 – البعد التكنولوجي – المادي:

تقدِّم منصّة "شاهِد" خدمة "فيديو حسب الطّلب"، وهي خدمة توفِّر بثّا مباشِراً ومتواصِلا لمحتوى سردي متنوّع، عن طريق الإنترنت، وهو ما يسمّى "Streaming". ومن ثمّ، يتميّز "السّرد الرّقمي المتعدِّد"، الذي تجسِّده هذه المنصّة، مرّة أخرى، عن "السّرد المترابِط مع الميديا" الذي يوفِّر بثّا غير مباشِر وغير متواصِل لمحكي واحد، عبر ميديا هجينة، وذلك بعد تحميل المحتوى (الفيلم السّينمائي أو المسلسل التّلفزيوني). إنّ التّحميل (Download)، في الواقع، قائم هنا وهناك، غير أنّه، في منصّة "شاهِد" (باستثناء البثّ المباشِر من القنوات التّلفزيونية)، يركَن إلى التكنولوجيا التي تُصيِّره سريعاً وآنياً ومستمرّاً، لتستقبله، بعد ذلك، الوسائط رقميا عبر الإنترنت.

من أجل ذلك، نميِّز، تمييزا إجرائيا، بين البعد التكنولوجي الذي تتّخذه المنصّة والبعد المادي الذي تتّخذه الأجهزة أو الدّعامات أو الوسائط؛ فالبعد الأوّل يحدِّد المرسِل بوصفه فضاءً إلكترونيًا يبثّ محتوى سرديا ما، والبعد الثّاني يعيِّن الوسيط الذي يسمح للمرسَل إليه بتلقّي ذلك المحتوى السّردي، وهو وسيط إمّا مباشِر ورئيس، مثل الهاتف الذّكي، أو غير مباشِر يساعد الوسائط غير الرّقمية كالتّلفزيون الذي لا يعمل بنظام (Android) أو (IOS) في استقبال المحتوى، مثل جهاز "Amazon fire tv". ومع ذلك، تُعَدُّ "شاهِد" منصّة ووسيطا (رقميا وليس ماديا) في الآن نفسه؛ فهي منصّة، لأنّها تقدِّم أعمالا أصلية، مثل المسلسل الكوميدي "موضوع عائلي"، ووسيطا، لأنّها تقدِّم محتوى سرديا تمتلك مجموعات إعلامية أخرى حقوق نشره، من بينها "مجموعة أم بي سي" (MBC group) التي أنشأت "شاهِد" نفسَها.

2 – 3 – البعد التّداوُلي – التّفاعُلي:

 يشير البعد التّداوُلي – التّفاعُلي إلى التّواصُل عبر الخطّ (On line) بين "شاهِد" والمشاهِدين الذين يرغَبون في مشاهَدة المحتوى السّردي الذي تقدِّمه المنصّة عبر خدمة "فيديو حسب الطّلب". وهو تواصُل يرتكز إلى مقام افتراضي، غير متناظر زمنيا ومكانيا، على العكس من التّواصُل اللّساني مثلًا، ويفترض تفاعلًا ذا طبيعة رقمية، يبدأ بإنشاء حساب إلكتروني خاصّ بالمنصّة، ومن ثمّ، إمكان ربط ذلك الحساب بأجهزة تسعِف المشاهِد في استقبال المحتوى الذي يروم مشاهَدته، يصل عددها إلى عشرين جهازا رقميا. ويُعَدُّ التّسجيل وربطه بأجهزة بعينها تفاعُلا مبدئيا لا يُمكِّن المشاهِد، في الواقع، سوى من مشاهَدة المحتوى السّردي المجاني، ذلك أنّ تلقّي المحتوى السّردي حسب الطّلب (باقات VIP) يقتضي مقابلا ماديا شهريا أو سنويا يُدفَع، في الغالب، عبر خدمة الدّفع الإلكتروني، وباستخدام تطبيقات الهاتف المحمول أو برامجه (تطبيق Google play، أو برنامج iTunes). ويأتي، بعد ذلك كلّه، تفاعُل المشاهِد مع المحكيات التّخييلية وغير التّخييلية؛ فيتخيّر المحكي الذي يشاهده، والوسيط الذي يتلقّاه عبره (قد يكون أكثر من دعامة واحدة)، والطّريقة التي يشاهِد بها (دون انقطاع أو من حين إلى حين بالنّظر إلى محكي واحد، أو بالتّناوُب بالنّظر إلى عدّة محكيات)، ليُسهِم، في الأخير، في ترتيب أفضل المحكيات حسب البلدان التي يستقبل فيها المشاهِدون محتوى "شاهد"، خاصّة المحكيات الدرامية، وهو ترتيب متغيّر يخضع لعامليْ الزّمن والمكان.

2 – 4 – البعد المؤسّساتي – الثّقافي:

نحسَب أنّ منصّة "شاهد" هي الواجهة الرّقمية لـ "مجموعة أم بي سي" (MBC group)، وهي مجموعة إعلامية سعودية، تتضمّن قنوات عديدة، بعضها متخصّص في محتوى بعينه (مثل قناة "العربية" الإخبارية)، وبعضها يقدِّم محتوى متنوّعاً (نظير MBC 4)؛ فلا عجب، والأمر كذلك، في أن يجد المشاهِد بعض الشّبه بين ما يتلقّاه رقميا عبر منصّة "شاهد" وما يستقبله عبر الوسائط التّقليدية من محتوى تبثّه قنوات تلك المجموعة الإعلامية، مع حصول المنصّة، في بعض الأحيان، على امتياز العرض الأوّل لبعض المحكيات. غير أنّ ذلك لا يعني أنّ المنصّة لا تسعى إلى تقديم محتوى خاصّ بها (أعمال شاهد الأصلية)، وعقد شراكات مع مؤسّسات في مجال الإعلام والاتّصالات والبرمجيات، وتعزيز حضورها في المشهد الرّقمي العالَمي، ولكنْ، دائما، في إطار استراتيجية "مجموعة أم بي سي" الرّامية إلى تحقيق نوع من الهيْمنة الثّقافية الرّقمية (نريد بالثّقافة، هنا، ذلك المزيج من المعرفة والتّرفيه والتّوجيه)، حذوا، ربّما، بمنصّة "Netflix" المتعدِّدة الجنسيات، وموازاة مع سعيها إلى تحقيق الهيْمنة الثّقافية على مستوى الميديا الكلاسيكية، فضلا عن تحقيق مكاسب مادية من وراء تقديم خدمة تندرج في سياق التّجارة الإلكترونية.
 

خلاصة:
ذلك هو مفهوم مصطلح "السّرد الرّقمي المتعدِّد"، وتلك هي حدوده وأبعاده، وهو مصطلح ينتسب إلى "سرديات التّرابُط الرّقمي"، وهي سرديات نعتقد أنّها تنتمي إلى علم عامّ، هو السّرديات الرّقمية "Digital narratology"، التي تصف، ليس تجليّات السّردية في المحكي الرّقمي (البعد السّردي – السّيميائي) فحسب، بل عملية تداوُله بين المنصّات الرّقمية التي تبثّه والأجهزة الرّقمية التي تتلقّاه (البعد التّداوُلي – التّفاعُلي) كذلك، وما يستتبع ذلك من مُقارَبة للبعديْن التكنولوجي – المادي والمؤسّساتي – الثّقافي. ثمّةَ، إذًا، تشابُه بين السّرديات الرّقمية (وسرديات التّرابُط الرّقمي تحديداً) والسّرديات الميديائية (وسرديات التّرابُط الميديائي على نحو خاصّ)، من حيث الأبعادُ التي ينبغي لكلّ علم أن يصفها، غير أنّ الاختلاف قائم في طبيعة المحكي الموصوف؛ فبين "السّرد الرّقمي المتعدِّد" ممثّلا بمنصّة "شاهِد" وأخواتها ("Netflix" و"Prime video"، و"Starzplay") و"السّرد المترابِط مع الميديا" اختلافات بنيوية وأخرى ثقافية.

 


الهوامش: 
1. Raphaël Baroni et Anaïs Goudmand, «Narratologie transmédiale / Transmedial Narratology», Glossaire du RéNaF, mis en ligne le 21 mars 2019, URL: https://wp.unil.ch/narratologie/2019/03/narratologie-transmediale-transmedial-narratology/
2. Henry Jenkins, « La licorne origami contre-attaque », Terminal [En ligne], 112 | 2013, mis en ligne le 07 avril 2015, consulté le 11 avril 2023. URL : http://journals.openedition.org/terminal/455 ; DOI : https://doi.org/10.4000/terminal.455 
3. نطلق مصطلح المرسَل إليه على مشاهِد "السّرد الرّقمي المتعدِّد" ومستقبِل "السّرد المترابِط مع الميديا" أو متلقّيه سواءً بسواءٍ.
4. Marie – Laure Ryan: «Le transmedia storytelling comme pratique narrative», Revue française des sciences de l’information et de la communication [En ligne], 10, 2017, mis en ligne le 01 janvier 2017, consulté le 18 avril 2023. URL: https://journals.openedition.org/rfsic/2548
5. نستخدم مصطلح مستقبِل أو متلقّي، فيما يخصّ "السّرد المترابِط مع الميديا"، لأنّ عملية الاستقبال أو التّلقّي قد تتمّ عن طريق السّماع في حال المذياع، أو القراءة إذا تعلّق الأمر بالوثائق الإلكترونية التي تُنشَر في الإنترنت، وإن كان المصطلحان يستعمَلان، كذلك، عند الحديث عن مشاهِد "السّرد الرّقمي المتعدِّد"، باعتبار أنّ فعل المشاهَدة يحمل معنى استقبال المحتوى المشاهَد وتلقّيه بالعين.
6. Serge Bouchardon : «Le récit littéraire interactif ; une valeur heuristique», in Communication et langages, N°155, 2008 p 83.
7. Gérard Genette : «Figures III», Seuil, Paris, 1972, p 72.

 

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها