سِنُوحِي.. رَائعةُ الأَدبِ المصريِّ القديم

سامي أبوبدر


"كانَ مَقرُّ العرشِ صامتًا، وكانتِ القلوبُ منكوبةً، والأبوابُ مغلَّقةً، ورجالُ الحاشيةِ جاثمين على رُكَبِهم، ورُؤوسُهم في رثاءٍ، والأَعيانُ في اكتئاب".


بهذه الكلمات التي تَفوح أَسىً يبدأ (سِنُوحِي) سَرد وقائع مؤلمة، حاصره الخوف من تداعياتها؛ ليفر من الوطن حاملاً عشقه بين حناياه، مهاجرًا إلى المجهول الذي ما لبث أن مسح على رأسه، فطمأنه وأَعزَّه، إلا أنه لم يرَ في ذلك إنجازًا أو سعادةً ما دام قلبه يخفق بالحنين إلى وطنه، وخاطرُه مشغولاً بتفاصيله، وأمنياتُه محصورةً في العودة إليه، والموت فيه.

قصة سنوحي هي إحدى روائع الأدب المصري على مرِّ التاريخ، وأشهر قصص المصريين القدماء، وأقربها إلى قلوبهم، توفرت فيها العناصر الفنية للقصة، إضافة إلى لُغتها الجزلة، وأسلوبها السردي الرائع، وصلَتنا مدونةً في نُسخ عديدة كاملة أو مجزأة على ورق البردي، وعلى شَقفات الفَخَّار، وأقدم مخطوطة تحكيها تعود إلى عصر الأسرة الثانية عشرة (الدولة الوسطى)، وتحديدًا في فترة حكم الملك أَمِنِمْحات الثالث، حوالي 1800ق.م، وقد تناولتها في عصرنا الحديث أعمال روائية وفينة عديدة، إذ حوَّلها نجيب محفوظ عام 1941م إلى رواية قصيرة بعنوان (عودة سنوحي)، وترجمها عنه إلى الإنجليزية ريمون ستوك عام 2003م، وصاغها في رواية بعنوان (سنوحي المصري) الأديب الفنلندي ميكا فالتري عام 1945م، وذاعت الرواية وطُبعت مَرَّات عديدة، كما أشارت الأديبة وعالمة المصريات الأمريكية إليزابيث بيترز إلى قصته في روايتها (الصقر عند البوابة)، وتضمن الألبوم الغنائي للمغني الكوبي سيلفيو رودريغيز عام 2003م أغنية بعنوان (سنوحي)، وحوَّلها آخرون إلى أعمال فنية وكرتونية مُبسَّطة للأطفال واليافعين.

اختلف المؤرخون حول ما إذا كانت أحداث القصة حقيقية أم خيالية، ولكل فريق ما يؤيد وجهة نظره من أحداث القصة وملابساتها، لكنهم أجمعوا على أن القصة تستند إلى الواقعية، وأنها أعظم عمل روائي قديم، يعكس لنا بوضوح العديد من المشاعر الإنسانية التي لازمت بطله ووجَّهتْ سلوكه، كالخوف، وقسوة الاغتراب، والحنين إلى الوطن وتقديس ترابه، والرغبة في الدفن فيه، ثم الفرحة بالعودة إليه، وبحسب الرأي الراجح القائل بأن أحداثها حقيقية؛ فإن سنوحي هو من سجَّل القصة بنفسه على جدران مقبرته قبل موته، ثم تداولها الناس ودَوّنوها على البرديات وشَقفات الفخار، ثم نُسخت كثيرًا بعد ذلك لشعبيتها وتعلُّق الناس بها، ومن النُّسخ التي ذكرت القصة كاملة بردية حملت اسمه محفوظة في متحف برلين، قام عالم المصريات الإنجليزي ألان جاردنز بترجمتها مرتين، وأصبحت مادة للدراسات والترجمات، والحكي الشيق، ورأى الأديب البريطاني روديارد كبلنج أنها جديرة بأن توضع بين روائع الأدب العالمي.

(سِنوحي/ سانهت)، اسم مصري قديم يعني: ابن الجميزة، نسبة إلى شجرة الجميز التي قدَّسها المصريون القدماء، وتحكي قصته على لسانه أحداثًا وقعت عقب وفاة الملك أَمِنِمْحات الأول، مؤسس الأسرة المصرية الثانية عشرة، وامتدت خلال فترة حكم ابنه سِنُوسِرت الأول (1971-1926ق.م)، وملخصُّها: أن شابًا مصريًّا اسمه سِنُوحِي من مدينة (إثيت تاوي) جنوب (مَنْف)، وموقعها الحالي جنوب مدينة العياط بالجيزة، كان أبوه طبيبًا مُقربًا من الملك أمنمحات الأول، فنشأَ مُنعَّمًا ومقربًا من الملك كأبيه، حتى أصبح أحد رجالات البلاط.

استدعت الأحداثُ أن يرسل الملك حملة عسكرية بقيادة ولي عهده ابنه سِنوسرت الأول إلى قبائل التحنو الليبية، لردع تهديدها للحدود الغربية للبلاد، فكان سِنوحي من بين جنودها، ثم عادت الحملة منتصرة، وبينما هي في طريقها استقبلها أمناء القصر ليخبروا سنوسرت بوفاة أبيه، فأخفى الخبر عن الجيش، وأسرع قاصدًا القصر، إلا أن رسولاً آخر أخبر أحد إخوته من الأمراء الذين رافقوه في حملته، فتهامس الأَخَوانِ -في حذر- حول مؤامرة! سمع سنوحي طرفًا من حديثهما، واعتقد أن أحدهما رآه، فدَبَّ الرُّعب في قلبه، واعتقد أن مصر مقبلة على مرحلة من النزاع الدموي على الحكم، ودون سبب آخر قرر الهروب ليربأ بنفسه عن أن يكون منحازًا لأي من أبناء الملك ضد أخيه، وفي طريقه إلى المجهول عانى كثيرًا حتى أوشك على الهلاك، إلا أن العناية الإلهية أدركته، فعثر عليه جماعة من البدو، فسقوه وأحسنوا معاملته، ثم تقاذفته البلدان حتى بلغ رتنو العليا (الاسم المصري القديم لبلاد الشام)، فاستقبله أمير كنعان عاموننشي، ودارت بينهما أحاديث حول الأحداث الأخيرة في مصر، وعلم سنوحي أن سنوسرت الأول أمسك بزمام الأمور وجلس على عرش مصر، فأكثر من مدحه، وذكره بكل فخر واعتزاز، فأعجب به عاموننشي واطمأن له وطمأنه وجعله من المقربين، وبمرور الوقت زوَّجَه ابنته الكبرى وخصَّه بأرض خصبة وفيرة الإيراد، وقطعان من الماشية، وأَحبَّ الناس سنوحي وقدَّروه حتى أصبح حاكمًا لإحدى القبائل، ولمعاونته عاموننشي في القضاء على تمرد بعض القبائل؛ قدَّمه الأمير على أولاده ورأَّسَه عليهم، وجعله قائدًا لجنوده، وحين كبر أبناء سنوحي منح عاموننشي كلًّا منهم حُكم قبيلة، ومع كل هذه النجاحات التي حققها لم ينس وطنه، وظل يراوده الحنين إلى مصر، ورغب في العودة إليها، والموت بها، وأن يدفن بترابها، وفي ذلك قال مخاطبا الإله:
"يا من قدَّرتَ عليَّ الفرار؛ أَعِدني إلى الوطن، لعلك تسمحُ لي أن أرى المكان الذي يُقيم فيه قلبي، وأيُّ شيء أعظم من أن تُدفَن جثتي في الأرض التي وُلدتُّ فيها؟! ساعدني على ما أنا فيه، وارحمني".

ثم أرسَل إلى الملك سنوسرت الأول وزوجتِه مُستعطفًا ومستأذنًا في العودة، فلم يخذله، وأرسل إليه مرسومًا ملكيًّا يتضمن عفوًا عنه، ويسمح له بالعودة إلى مصر، بل ويعاتبه على مغادرتها، وأنه نَفَى نفسه دون ذنب أو سبب، وطلب منه أن يُقبِّل الأرض عند البوابة العظمى على حدود البلاد، ومما جاء في ردِّ الملك: "عُد إلى مصر؛ حتى ترى الأرض التي نشأتَ فيها، وقَبِّل الأرض عند البوابة الثنائية العظمى، والتحِق بالبلاط... لا يليقُ بك أن تموت غريبًا في أرض غريبة... ليس هذا أوانُ الطواف في الأرض، فعُد"، ومما دوَّنه سنوحي متأثرًا برَدِّ الملك: "حينما قرأتُ ذلك؛ ارتميتُ على بطني، وأمسكتُ التراب وعفَّرت به شعري، وأخذت أجري بين المساكن فرحًا وأنا أقول: كيف تحدث هذه الأحداث لإنسان أضلَّه فؤادُه، فأتى به إلى بلادٍ موحشة"؟! لم يمكث بعدها إلا يومًا واحدًا سلَّم فيه ثروته لأبنائه، وزعامة القبيلة إلى أكبرِهم، وشدَّ رَحله مسرعًا إلى مصر، ومن الحدود الشرقية رافقه الحرسُ إلى القصر، وهنا يقول سنوحي عن الملك: "وجدت جلالته فوق عرشه العظيم، فانحَنيتُ، وذهبَ عني ذكائي في حضرته، بالرغم من أن الملك خاطبني برفق، كنت كرجل خطفوه في الظلام، فرَّتْ روحي وارتعش جسدي، ولم يعُد لقلبي وجود في جسدي، ولم أُدرك أكنتُ ميتًا أو حيًّا"، وراح يصف استقبال الملك وزوجته له، فقد فَرِحَا بعودته، وعاملاه برفق ولين، رغم ما بدا على مظهره من تَغيُّرٍ، حتى إن الملك قال لها: "لقد عاد إلينا آسيويًّا كأبناء البدو"، والملكة مندهشة مستغربة، فيؤكد لها ملكها هويته قائلاً: "حقًّا إنه هو"، ولم تُنسِ سنوحي فرحتُه بالعودة إلى وطنه أن يوصي الملك خيرًا بأهل رتنو العليا ممن أحسنوا إليه، وطلب منه أن يدعوهم إلى قصره، ثم طمأنه الملك، وأقامه بين أمناء القصر، وأسبغ عليه النعم، وبنى له مقبرة فخمة، فعاش في رخاء حتى مات، وفي القصة كثير من الأحداث تغذي حدثها الرئيس، مرتبة ترتيبًا سببيًّا، في بنية فنية سَردية مُحكمة.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها