القيّم في الأدب الأندلسي

من جماليات تُعيد الرّوح للأجسام

د. رشا غانم


صدر عن دائرة الثقافة حكومة الشارقة 2023م فرع الدراسات النقدية "كتاب القيم الجمالية في الأدب الأندلسي" للدكتورة ساندرا عفش، ويقع الكتاب في (435) صفحة من القطع المتوسط، ليأتي الكتاب في أربعة فصول مُعَبراً عن سمات جمالية خاصة بهذا الأدب الرائق الجميل، حيث ناقشت الكاتبة في الفصل الأول عدة مقولات نظرية مثل: المفهوم، والقيمة، والفكر الجمالي، وعلم الجمال، والتجربة الجمالية، وعدة قيم جمالية ممثلة في: الجميل، القُبْح، الجليل، التافه، التراجيدي، الكوميدي؛ لتدلل على أن القيم الجمالية حاضرة في مجمل الحياة الإنسانية؛ لأنها تعكس أهم صفات الطبيعة البشرية. ثم في الثلاثة فصول الأخرى للكتاب تبرز قيمة الطبيعة، والإنسان، والفنون كقيم جمالية انتعشت على أرض الأندلس، وكان لكل منها ملامح جمالية تناولتها الكاتبة من خلال النماذج التطبيقية من الشعر الأندلسي وتحليلها فنياً وجمالياً.

 

الطبيعة هي المثل الأعلى الجمالي؛ لندرك أن النشاط الجمالي في تعامله مع الطبيعة يؤنسها ويُزينها، ويستعيد ذكرها ويثريها ويكملها، ويدمج ذاته بها، استهل الشاعر الأندلسي قصيدته بالطبيعة، فهي الفاتنة، الجميلة، وهي الجمال المطلق، وهي الفرح والزهو، والبسمة والبهجة. لقد عاش في الخصب دلالة خاصة ميزته عن المشرقي، مما دفعه إلى التمسك به بوصفه محور الجمال، فالشاعر الأندلسي من خلال الطبيعة يعيش تجربة حب حية يعيشها بكل جوارحه، هي تجربة حب الوطن أرضًا وقومًا وحضارة، فالأرض كساها الله أبهى حلل الجمال، فغدت الطبيعة جزءًا من كيانهم لا يقدرون على الابتعاد عنه، وهذا ما دفع الشاعر ابن خفاجة أن يرى في موطنه الجنة -أي المثل الأعلى الجمالي للمكان- يقول:
يا أهل أندلس لله دركم
ماءٌ وظلٌ وأنهارٌ وأشجار
ما جنة الخُلدِ إلا في دياركم
ولو تخيَّرت هذا كنت أختارُ

ابن خفاجة جنَّان الأندلس وابن الطبيعة البار بها ومن الذين ربتهم بجمالها، وهذب إدراكه جمال الوجود، فاتجه بجميع قواه العقلية والخيالية إلى معالجة التعبير عن هذا الجمال.

ويمثل فن الموشحات الأندلسية المثل الأعلى للوعي الجمالي في الأندلس، يقول ابن الزقاق:
خُذ حديثَ الشوقِ عن نفسي
وعن الدمعِ الذي همعا
ما ترى شوقي قد اتّقدا
وهمي بالدمع واطّردا

ويعد فصل الربيع من شهور السنة المحببة، لدى معظم الشعراء لما له من فضل على الطبيعة، التي يكسوها رداءً من الورود المزركشة الجميلة؛ لأن الربيع يُسهم في تكثيف الخصب، وقد وعى الأندلسيون ما للربيع من آثار جمالية، ولذلك اتسمت صورة الربيع بالسمو والجلال واللطف والأناقة. يتناول الشاعر ابن خاتمة الأنصاري فصل الربيع بوصفه أحد تجليات القدرة الإلهية، حيث يرى جمال الطبيعة آية على جمال الله، وينفي القدرة على التلقي الحسي الجمالي من غير النظر إلى البعد الإلهي يقول:
حشد الرياضُ له جنود جماله
وأتى بحافلِ جنده في جحفل
من لم يشاهد موقع الحُسن الخفي
من منظرٍ لم يدرْ ما الحسن الجلي

وتستدل الكاتبة على أن النصوص الشعرية التي تناولت الطبيعة الجامدة أكثر تنوعاً من تلك التي تناولت الطبيعة المتحركة (الحمَام- الخيل- الحيَّة- الذئب- كلب الصيد والأرانب)، فكانت الأولى من وصف مجالس الأنس والربيع والنجوم والكواكب، والنهر والبحر والمطر، والنار والجبل تستوعب المشاعر الجمالية الدقيقة، ويأتي الأخير؛ ليشكل تمثيلًا من تمثيلات المثل الأعلى بتساميه وضخامته أي بجلاله الشكلي، وبمقاومته للزمن يصف الرصافي جبل الفتح بقوله:
أخلق به وجبال الأرض راجفة
أن يطمئن غداً من كل محذور
كفاه فضلًا أن انتابت مواطنه
نَعلا مليك كريم السعي مشكور

الجبل عند الرصافي أحد عناصر الطبيعة يستمد جلاله من مكانته وشموخه ورفعته، حيث جعل وصف الجبل "الجليل الطبيعي" وسيلة لمدح ملك يمثل في رفعته المثل الأعلى الجمالي للإنسان؛ أي إن الشاعر يستمد من جليل الطبيعة الجبل سمته ويضفيها على الجليل الإنساني الملك.

 الإنسان. عبر سلسلة طويلة من التجارب الجمالية يتشكل وعيه وذوقه الجمالي مرتبطاً ببيئته المحيطة، ومن هنا فإن جمالية الفرد في الأدب الأندلسي احتلت فيها المرأة مكانة رصينة، فهي رمز الجمال، وقد خرجت من كونها أحد تمثيلات المثل الأعلى الجمالي إلى كونها مثلا أعلى بحد ذاته، قوامه الأنوثة والخصوبة والرشاقة واللطافة والحيوية وسواها.

يتمسك الشاعر ابن حمديس الصقلي بالصفات العربية للأنثى بقوله:
تديرُ الهوى من مقلةٍ بابليةٍ
لها نجلٌ يُغني الجفونَ عن الكُحْلِ

ونأتي للجمالية من نوع آخر، وهي السمو والبطولية للحاكم، حيث اهتم الأندلسيون بقيم البطولة والسمو وما يلوذ بها من صفات، بحثوا عنها في حكامهم حيث يرسم الشاعر صورة لمثل إنساني عال تمليه عليه ظروفه الاجتماعية والطبقية، ومرحلته التاريخية، ثم يعطي هذه الصورة، بعد ذلك اسم الممدوح أو يربطها بحوادث وقعت في حياته.

ويعد وصف القوى العسكرية لهؤلاء الحكام حاجة ملحة لإخافة أعدائهم، سواء على المستوى الداخلي أو الخارجي، فتعد قوتهم الموصوفة في الشعر -عن حق، أو عن تخيل- أداة ردع لأعدائهم، ومنافسيهم، في جو امتلأ بالتآمر، والرغبة في السلطة، والجاه من ناحية أخرى.

يقول الأعمى التطيلي مادحًا المرابطي علي بن يوسف بن تاشفين بقوله:
فتى يزنُ البلادَ وما عليها
وإن كانت خلائقه تزينُ

الفنون، توازنت الفنون البصرية في الأدب الأندلسي التي تتمثل في جمالية العمارة الكلية (المدن)، وجمالية العمارة الجزئية (الأبنية) وجمالية النحت، وجمالية الأرابيسك (النقش والزخرفة) مع الفنون السمعية التي شملت جمالية الموسيقا، والغناء، والرقص؛ ليشكلا الوعي والذوق الجماليين لدى الأندلسي والشعور الجمالي لدى مجتمعه، وحضارته.

من الفنون البصرية يصف لسان الدين بن الخطيب مدينة غرناطة بقوله:
بلدٌ يحفُ به الرياضُ كأنه
وجهٌ جميلٌ، والرياضُ عِذَاره

وحمل فن الأرابيسك الزخرفة العربية الإسلامية قيمة الاستمرارية بالمتعة والخصب، وتتعاظم القدرة الإبداعية في العمارة مع قصر الحمراء في غرناطة يقول ابن زمرك:
فكم صيغَ من تلك الجواهرِ مِعْصمٌ
وكم صيغ من ذاك اللُّجينِ سِوارٌ
ويصف قبة الحمراء بقوله:
به القُبَّة الغرَّاءُ قلَّ نظيرها
ترى الحُسنَ فيها مستكناً وباديا

تعتمد القبة على الكساء التجميلي وباقي قصر الحمراء على كثرة التنوع والتعقيد الهندسي يبدو في طبيعته جمالياً.

أما عن جمالية الموسيقا والغناء والرقص، فقد أبانت عنه مجالس الأندلس بوصفها مكوناً يضفي مزيداً من المتع الجمالية وامتزاجها بمشاعر الأنس والراحة والتطهير الانفعالي، وإيضاح المكنون من الفكر أو الشعور.

يقول المعتمد بن عبَّاد يصف مجلساً للغناء:
فابعث نشاط سؤومها وحسيرها
بغناءِ حاديها أخي الإفصاحِ
ليقيمَ ذاك العود من رسم السُّرى
ويعودَ في الأجسامِ بالأرواحِ

يدرك الشاعر الجانب العلاجي التطهيري للفن -الموسيقا- تحديداً وهو الترويح عن النفس، وإزالة الهموم التي تتكاثف في الروح؛ فتأتي الموسيقا لتحررها، وتحرر المعاني التي يعجز الإنسان عن التعبير عنها.

تجلت القيم الجمالية في الأدب الأندلسي وفق رؤى ثقافية، فمثلا صورة المرأة عند الأندلسيين بدءاً باتباع النموذج الجمالي المشرقي بتفاصيله، وانتهاء بإضفاء خصوصية أندلسية أولت الشخصية الفكرية في الأنثى بُعداً مهماً، وأولت الطبيعة الأندلسية مكانة محورية بوصفها الموضوع الأقرب لقيمة الخصوبة، والجمال الظاهر الذي تتمتع به الأنثى.
 

القيم الجمالية في الأدب الأندلسي عبرت جسراً من المعاني، والمضامين الشعرية أبانت عن خصوصية منظومته الجمالية، ووعيه الجمالي مع إدراك، وفهم لمجموعة من القيم الأصيلة في هذا الكتاب.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها