معالجة الإعاقة اللغوية في ضوء اللسانيات العصبية

د. إبراهيم سند إبراهيم أحمد


إنَّ الكلام يشمل الأبنية والتراكيب الصحيحة نحويًّا التي تؤدي وظيفتها الاجتماعية في التواصل والتفاعل، تلك الوظيفة التي أشار إليها أبو الفتح عثمان بن جني (ت392هـ) في تعريفه اللغة قائلًا: "أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم"1، فاللغة يتواصل من خلالها أبناء المجتمع اللغوي ويتفاعلون بها فيما بينهم.


ومن المعلوم أن اللغة تتكون في الدماغ، فهي آلة إنتاج الكلام، وهو ما يمكن أن يُطْلَق عليه (المعالجات الدماغية للغة)، حيث إن اللغة تمثل مجموع العمليات العقلية التي يقوم بها الدماغ، وقد تمكن العلماء بواسطة المسح التكنولوجي من دراسة الفروق والاختلافات في عمل الخلايا الحيوية التي تظهر الاستجابات أثناء عمل المخ، مثل: تحليل الأصوات وفهمها، وتعلم كلمات جديدة، والاستجابة للتخيلات الذهنية، والخلايا المسؤولة عن نشاط ما تنشط أثناء ما يقوم به الشخص في تلك اللحظة، وبناءً عليه حاول العلماء بناء نماذج توضيحية لتفسير السلوكيات اللغوية التي تحدث في الدماغ، التي هي أهم مكونات الجهاز العصبي المركزي، لاسيما في عمليات الفهم والكلام والقراءة والكتابة وغيرها من العمليات اللغوية2.

ويعبر الإنسان عما يدور في مخيلته الذهنية باللغة عن طريق أعضاء الجهاز النطقي، حيث تأتي الإشارات الكلامية من المخ لتبدأ أعضاء الجهاز النطقي بترجمة هذه الإشارات في صورة المنطوق (الأبنية والتراكيب) التي تعبر عن قصدية المتكلم ويفهمها المتلقي؛ ومن ثم فإن عملية إنتاج الكلام [بأبنيتها الصرفية وتراكيبها النحوية] مشتركة بين الدماغ وأعضاء الجهاز النطقي.

والدماغ "مصدر السلوك اللغوي إرسالًا واستقبالًا... وتزداد سرعة المعرفة بعلوم التواصل واضطراباته وبآليات الدماغ المتخصصة التي تكمن وراء النطق واللغة واضطراباتهما بفضل عمل المختصين في كل من اللغة، وعلم النفس الإدراكي، وعلم الأعصاب، وما أسهم به المختصون في علاج أمراض النطق واللغة"3.

وهذا الجزء البيولوجي (الدماغ، المخ، الجهاز النطقي) يكون عُرْضَةً للمرض كأي عضو في جسم الإنسان؛ فيحدث الخلل في الوظيفة التعبيرية أو الكلامية، ويبدأ الاضطراب في عملية إنتاج الكلام الـمُشَوَّش؛ فتظهر بعض الأمراض الكلامية (الإعاقة اللغوية)، وهي مشكلة يعاني منها كثير من أبناء المجتمعات.

هذه الأمراض الكلامية أو الإعاقات اللغوية لا شك أنها تؤثر على لغة الإنسان بنطق الكلمات والجمل بطريقة غير صحيحة، وإسقاط أجزاء من أبنية الكلام، سواءً على مستوى الكلمة الواحدة كالسوابق واللواحق، أو تقديم بعض حروف الكلمة على بعضها، كقولهم: (الصوانعية) في (الصنايعية)، وقولهم: (شمش) في (شمس)، وقولهم: (ريشبشن) في (ريسبشن)، أو على مستوى الجمل والتراكيب، مثل: إسقاط لام التعريف، أو إسقاط أدوات الربط بين أجزاء الكلام، أو عدم التمييز بين الأزمنة، أو عدم التفريق بين التذكير والتأنيث في فصيلة الجنس، فيذكِّر المتكلم ما حقه التأنيث، أو يُؤنِّث ما حقه التذكير، وتقع الأخطاء الكلامية على جميع المستويات اللغوية (الصوتية والصرفية والنحوية).

ويعتمد السامع أو المتلقي حينئذ على فهم مضمون الكلام من السياق العام؛ ليقوم ببناء الجملة الصحيحة مرة أخرى من خلال الكلمات المنطوقة بطريقة غير صحيحة.

وهذه العيوب أو الاضطرابات اللغوية ناتجة عن مرض أو خلل في آلة إنتاج الكلام، سواءً في الدماغ البشري (المخ)، أو في أعضاء الجهاز النطقي؛ ومن ثم تتضح العلاقة الوثيقة بين اللغة والدماغ والجهاز النطقي، هذه العلاقة تطرح قضية الإعاقة اللغوية أو الاضطرابات التي تحدث في إنتاج اللغة من منظور اللسانيات العصبية؛ لبيان أهمية توظيف معطيات علم الأعصاب في علاج أمراض الكلام الخاصة بالأبنية الصرفية والتراكيب النحوية؛ وذلك لفتح المجال أمام الباحثين لدراسة مشكلات لغوية اجتماعية، يعاني منها قطاع كبير من أبناء العربية؛ مما يؤثر سلبًا على تواصلهم وتفاعلهم مع أبناء المجتمع من حولهم، فوظيفة "النطق والتواصل من أشد وظائف الدماغ البشري تعقيدًا؛ لأنها تشمل طائفةً واسعةً من التفاعلات بين الشخصية وعمليات الإدراك، والتخيل واللغة والعاطفة، والنظم الحسية والحركية الضرورية لنطق اللغة واستيعابها، وتشمل هذه الوظائف مسالك الدماغ وآلياته"4.

ونتيجة التطور العلمي في مجال علم الأعصاب واللسانيات العصبية تَمَكَّن الباحثون من تحديد مكان تكوين الكلام (إنتاج الأبنية والتراكيب)، ومكان إنتاج الدلالة اللغوية، ومن هنا وجب إدخال نتائج بحوث علم الأعصاب وتوظيفه في معالجة أمراض الكلام؛ لتقويم الأخطاء اللغوية وأمراض التخاطب وربطها بأبنية العربية الفصحى وتراكيبها اللغوية.

ويأتي دور اللسانيات العصبية لمعالجة هذه الحالات المرضية بإعداد برامج تعليمية لهؤلاء المرضى، وتتمثل أولى خطوات العلاج في دراسة التاريخ المرضي لصاحب الإعاقة اللغوية؛ وذلك للوقوف على أسباب المرض، وكيفية علاجه بطريقة صحيحة؛ لوضع البرامج العلاجية الملائمة لكل حالة مرضية.

ثم يأتي دور علماء اللغة بالتقاط الكلمات والجمل التي ينطقها أصحاب الإعاقة اللغوية بطريقة غير صحيحة، ويعرضونها على أحكام العربية وقواعدها النحوية؛ لتحديد الخلل أو الخطأ في بنية الكلمات وتراكيب الجمل التي يستعملها أصحاب الإعاقة، ثم يقومون بوضع برنامج تعليمي تقويمي بتحديد الجمل غير الصحيحة نحويًّا، وتدريب هؤلاء المرضى على نطقها بطريقة سليمة، مع إبراز أهم العناصر اللغوية التي أسقطها المريض من كلامه؛ حتى يستطيع أن يلتقط هذه العناصر مرةً أخرى بالتكرار والتدريب؛ فينطقها نطقًا لغويًّا صحيحًا؛ وذلك بالتدريب على البناء الصحيح للجمل، وتكرارها أمامه عدة مرات لمعاونته في نطقها بطريقة صحيحة، ولفت انتباهه إلى الأجزاء التي يُسْقِطُها من الجملة.

وفي هذا الصدد لا بُد من تكوين فريق عمل بحثي متكامل لعلاج مثل هذه الحالات المرضية التي تُعاني من الإعاقات اللغوية؛ وذلك في ضوء تكامل العلوم المعرفية، فيما يُعرَف بـ(الدراسات البينية)، التي تجمع بين عدد من التخصصات الإنسانية، مثل:
1. علم الأعصاب الذي يوضح لنا كثيرًا من الأمراض العقلية التي قد تُصيب مستعملي اللغة.
2. علم اللغة (الصرف والنحو)، وما يقدمه لنا من أحكام صرفية تضبط أبنية الكلمات العربية، وقواعد نحوية تسهم في ضبط التراكيب اللغوية لإنتاج الأبنية والتراكيب التي تسهم في التواصل اللغوي بين المبدع والمتلقي.
3. علم اللغة النفسي، وقد استفادت اللسانيات النفسية في دراسة الأساس العصبي للغة من اتصاله بعلم النفس العصبي الذي يدرس العلاقة بين المخ والسلوك، وكذلك علم اللغة العصبي الذي يهتم بوظيفة المخ وعمله، بالإضافة إلى علاقة اللغة بالقدرات المعرفية5.

إضافة إلى إجراء بحوث مستقبلية لعلاج الإعاقة اللغوية، يتآزر فيها التخصصات المختلفة لتشخيص الاضطرابات اللغوية ووضع البرنامج العلاجي الملائم.

 


الهوامش: 1. الخصائص لابن جني (1/33).2. ينظر: علم اللغة النفسي، د. عبد العزيز العصيلي، ص: 148، وفسيولوجية اللغة، آمال كعواش، ص: 91.3. علم الأعصاب للمختصين في علاج أمراض اللغة والنطق، تأليف: رسل لوف وواندا ويب، ترجمة: د. محمد زياد يحيى كبة، ص: 1.4. علم الأعصاب للمختصين في علاج أمراض اللغة والنطق، التوطئة صفحة (ط).5. ينظر: سيكولوجية اللغة والمرض العقلي، د. جمعة سيد يوسف، ص: 162.

المراجع:
◅ الخصائص، تأليف: أبي الفتح عثمان بن جني (ت392هـ)، تحقيق: محمد علي النجار، سلسلة الذخائر (146)، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، 2006م.
◅ سيكولوجية اللغة والمرض العقلي، د. جمعة سيد يوسف، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، يناير 1990م
◅ علم الأعصاب للمختصين في علاج أمراض اللغة والنطق، تأليف: رسل لوف وواندا ويب، ترجمة: د. محمد زياد يحيى كبة، النشر العلمي والمطابع، جامعة الملك سعود، المملكة العربية السعودية، 1431ه/ 2010م.
◅ علم اللغة النفسي، د. عبد العزيز بن إبراهيم العصيلي، الطبعة الأولى، جامعة الإمام محمد بن سعود، عمادة البحث العلمي، الرياض، المملكة العربية السعودية، 1427هـ/ 2006م.
◅ فسيولوجية اللغة وآلياتها العملية من منظور اللسانيات العصبية، آمال كعواش، مجلة الآداب والحضارة الإسلامية، المجلد (12)، العدد (25)، كلية الآداب والحضارة الإسلامية، جامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية، قسنطينة، الجزائر، 2020م.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها