سُروج الخَيلِ.. صِناعةٌ تتحدى الاندثار!

خلف أحمد محمود أبوزيد


تُعدُّ حِرفة صناعة سروج الخيل من أعرق الصناعات التقليدية العربية، التي ارتبطت ارتبطاً وثيقاً، بحيوان أحبَّه العرب منذ القدم، وحرصوا على تزيينه بأجمل السروج وأفخمها، فهي تشكل ذاكرة حية عربية، عكست من ناحية متطلبات اجتماعية، جعلت من هذه السروج شعاراً لمراتب اجتماعية، تدل على مدى أهمية هذه الشخصية، التي تمتطي هذا الجواد ومكانتها الاجتماعية، ومن ناحية أخرى عكست قيمة جمالية، من خلال المشغولات ذات القيمة الفنية العالية، المستمدة في أكثرها من روعة التراث العربي الأصيل.
 

العرب وصناعة السروج:

افتتن العرب منذ القدم بصناعة السروج، فجعلوا منها عنواناً للفروسية والجمال، حيث بلغت مكانة كبيرة بين المشغولات، ذات القيمة الفنية في ذلك الوقت، هذا الاهتمام العربي الكبير بها، دفع بالمؤرخ الغربي "هيرز" إلى القول "أن من الصناعات الجلدية المميزة، التي اكتسبت درجة فائقة من الكمال والحذق عند المسلمين صناعة السروج، وهذا يرجع إلى أن حضارتهم، كانت تقوم على الفتوحات، وكانت جيوشهم تعتمد على الفروسية"1. وإذا تتبعنا ازدهار هذه الحرفة عربياً، نجد أن صناعة السروج، بلغت حداً كبيراً من الفخامة في عهد الخليفة العباسي هارون الرشيد، ووصلت أوج ازدهارها خلال العصر الفاطمي، حيث برع "السراجة" من أرباب هذه الصناعة، في إبداع أنواع من سروج الخيل محلاة بالذهب والفضة، حتى "بلغت قيمة السرج الواحد، من ألف دينار إلى سبعة آلاف دينار، وكان الخليفة المنتصر يمتلك أربعة آلاف من هذا النوع من السروج"2. وعلى نفس النهج سار أمراء المماليك في مصر والشام، فرصعوا سروج الخيل بالذهب والفضة، وهو ما فتح الباب واسعاً أمام "السراجين" في إظهار فنونهم بإضافة النقوش العربية البديعة، على هذه السروج، لتكتسب جمالاً وبهاءً، خاصة أن التنافس بين الأمراء كان على أشده في الظهور بأبهى منظر، خلال الاحتفالات الشعبية، التي كانت تقام حينذاك في الأعياد وحفلات الأعراس، التي كانت تضمن مباريات ساخنة في فنون الفروسية، هذا الأمر الذي أدى إلى اهتمام أمراء المماليك بطائفة "السراجة"، التي كان يطلق عليها حينذاك "السروجية"، ويذكر ابن ياس في كتابه الشهير، بدائع الزهور "أن شيخ تلك الطائفة كان مقدماً على غيره من شيوخ طوائف الحرفيين، بل يأتي في الترتيب بعد شهبندر التجار"3، كما احتفظ العديد من أمراء المماليك بطائفة السروجية، لتكون بجانب الديوان السلطاني في القلعة، وربما ذلك يرجع إلى تسمية الحي القريب من القلعة، عند منطقة باب زويلة حتى اليوم، باسم "حي السروجية".

مراحل صناعة السروج:

بداية تتطلب صناعة السرج، تفاعل العديد من المهن الأخرى، كالنجارة والدباغة والحدادة والخياطة والتطريز، هذا إلى جانب أنها صناعة تتميز بأنها يدوية تقريباً في كل مكوناتها ومراحلها، حيث يستغرق عمل السرج الواحد عدة أشهر، ومن هنا تحتاج إلى كفاءة عالية وذوق ودقة في التصميم، لتحقيق المعادلة التالية، عدم إيذاء الحصان، تحقيق التوازن للفارس على ظهر الجواد، وهو أمر يتطلب مهارة كبيرة من الصانع، ذلك لأن جودة السرج، التي يحبذها الفرسان، هي مفتاح سلامتهم، وتسهيل عملهم وراحتهم، لأداء واجبهم أثناء الركوب، بالشكل الذي لا يعرقل تحركهم، فهناك من السروج عند صناعتها، ما يهتم فيها بخفة وزنها لتساعد على سرعة الحصان، وأخرى يركز على ليونتها لاستخداماتها في السباقات وغيرها، وتبدأ مراحل صناعة السرج، بتجهيز القالب، الذي عادة ما يصنع من القش حتى يسهل تشكيله، ثم يركب عليه الحديد والخشب، ويعبأ بالقطن أو الصوف، ثم خياطته بعد ذلك وتزيينه بالنقوش والحلى البسيطة، التي تتميز بألوانها الذهبية أو الفضية أو الخرز الطبيعي، حسب رغبة صاحب السرج.

إبداع وفن جمالي:

تعد صناعة السروج من الفنون الراقية، التي تلبي وتعزز حاجة الإنسان الجمالية والإبداعية، بداية من فنون الفروسية وما تقتضيه من تدريب وترويض للخيول، وتعليم الفرسان لاعتلاء الخيل، والتمكن من فنون الرقص، وتحية الجمهور، والثبات فوق صهوة الحصان، وإيتاء العديد من الحركات على ظهور الخيل، كان لذلك دور كبير في العمل على إكساب هذه الصنعة، أهمية جمالية وفنية كبيرة، جعلت من جمال السرج وروعته الفنية عاملاً كبيراً في مساعدة الفارس في الحصول على الألقاب والجوائز، ومن هنا انبرى صانع السروج في عمل سروج ذات تكوينات فنية وجمالية رائعة، دلت على سمو ذوقه ودقته ومهارته، في إكساب صنعته طابعاً جمالياً فريداً تسر له الأعين، ويظهر لنا ذلك جلياً في العديد من أنواع السروج، التي بذل فيها الصانع، أعلى درجات الإبداع والإتقان في الإخراج النهائي للسرج، من خلال جماليات الزخرفة والتطريز، باستخدام تقنيات مختلفة، ومن ذلك أنواع من السروج، أطلق عليها "سروج سبيكة الفضة وشرائح الفضة"، وتكون فيه مكونات السرج كلها عبارة عن صفائح من الفضة المنقوشة بواسطة الطرق، أو بطريقة التفريغ بالزخارف النباتية، حيث يطرز السرج بخيوط فضية، وتطعم بعض أجزائه بالذهب"4.

كما أبدع صانع السروج، في عمل سروج مطرزة بالحرير، استخدم في عملية التطريز خيوط الفضة والذهب والحرير الملون؛ لإظهار الزخارف في أبهى حلة، وفي صورة تزيد من قيمة السرج جمالياً ووظيفياً، بل الأمر الذي يدعو للدهشة، أنه قد عثر على "سروج مطعمة بالأحجار الكريمة والزمرد والروبين، ويعتبر من القطع النادرة والفريدة الغالية الثمن"5، هذا إلى جانب ما صاحب صناعة السروج من إبداعات وفنيات متنوعة، من خلال صناعة الّلجُم من الذهب الخالص والفضة الخالصة، والقلائد والأطواق لأعناق الخيل، الخاصة بالأمراء والملوك وأرباب الرتب، مما تزخر به متاحف الفن الإسلامي، من هذه التصميمات الفنية الرائعة، التي حملت إبداعات جمالية عالية القيمة.

السروجية صناعة تتحدى الاندثار:

تواجه حرفة السروجية اليوم عدداً من الصعوبات، التي تجعلها عرضة لخطر الاندثار، وفي مقدمة هذه الصعوبات، ارتفاع أسعار الجلود وقلة مربي الخيل، ووفاة العديد من رواد هذه الصناعة، مع عزوف الجيل الجديد على تعلمها، ألا أنها رغم هذه الصعوبات تشهد تزايداً ملحوظاً خاصة، في المناسبات الدينية والوطنية العربية، وحفلات الأعراس، وإقامة المهرجانات والمسابقات المختلفة، حيث إن فخامة السرج وروعته الفنية والجمالية على ظهر الحصان، يمثل عاملاً كبيراً في إضفاء جمالية كبرى، تساعده في الحصول على الألقاب والجوائز، لتبقى في النهاية السروجية صناعة عربية فريدة في نوعها، ذات منتوج يدوي خالص، ارتبطت بصفة عامة على مر التاريخ، بتاريخ الفروسية العربية وثقافتها الثرية، الأمر الذي يفرض علينا اليوم ضرورة توثيقها لحفظها في الذاكرة التاريخية العربية، باعتبارها نتاجاً مستمراً يساهم في الحفاظ على الهُوية العربية بخصوصياتها الثقافية المتنوعة.
 


الهوامش: 1. حرفة السروجية عبر العصور، زينب عبدالله صبري، مجلة الفنون الشعبية، مصر، عدد يناير عام 1987م.2. كنوز الفاطميين، د. زكي محمد حسن، القاهرة، مطبعة دار الكتب المصرية، عام 1967، ص: 61.3. ابن إياس المصري، تاريخ مصر، الجزء الأول، الناشر دار مطابع الشعب، عام 1961م، ص: 31.4. القيم الجمالية للألوان والزخارف في السرج، د. نجاه سليمان امحمد عبيد، مجلة الإعلام والفنون، العدد الخامس عشر، مارس عام: 2004م.5. المصدر السابق.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها