القراءة على الورق والقراءة على الشاشة.. ما وجه الاختلاف؟

بقلم: فريدريك برنار

ترجمة: حافظ إدوخراز


تغزو شاشات الهواتف المحمولة والألواح الرقمية والحواسيب حياتنا اليومية، وصارت القواميس والمقرّرات الدراسية أو حتى كلاسيكيات الأدب مُتاحةً على بُعد نقرةٍ واحدة. هل يجب علينا تشجيع التلاميذ على الاستفادة كاملا من هذا الولوج الميسّر وغير المسبوق إلى المعرفة، وإعادة الورق إلى الماضي؟ ليس ذلك مؤكّداً إذا ما ألقينا نظرة على نتائج الأبحاث الحديثة.
 

أُجريت منذ بداية هذا القرن عشرات الدراسات التي عكفت على تقييم آثار وسيط القراءة على الأداء المتعلق باستيعاب النصوص، والتي يمكن أن تكون إما نصوصاً وثائقية (مقررات دراسية وكتب جامعية) أو أعمالاً سردية (خيال، روايات...).

لقد أُعيد تجميع ونشر نتائج هذه الدراسات في عملين تحليليّن كبيرين صدراً عام 2018. ويتعلّق الأمر بالدراسة التي قام بها كلٌّ من كونغ (Kong) وسيو (Seo) وشاي (Zhai)، والتي غطّت سبع عشر دراسة، ونُشرت في مجلة الحواسيب والتعليم (Computers & Education)، ثم الدراسة التي أجراها ديلغادو (Delgado) وزملاؤه، والتي غطّت أربعاً وخمسين دراسة شملت حوالي مائة وسبعين ألف قارئ، ونُشرت في مجلة البحوث التربوية (Educational Research Review). ويخلص كلا العملين إلى أن فهم النص يكون أفضل بكثير عند القراءة على الورق منه على الشاشة.

عادات القراءة

وإن كان كونغ وسيو وتشاي (2018) لم يأخذوا في الاعتبار طبيعة النصوص (وثائقية أو سردية) كمعيار في عملهم، فقد وجد ديلغادو وزملاؤه من جهتهم أن الفرق بين الورق والشاشة يبدو واضحاً في حالة النصوص الوثائقية، وفي حالة النصوص التي تكون وثائقية وسردية في آنٍ واحد، لكنهم لم يقفوا على فرق في حالة النصوص التي تكون سردية فقط. ويقدّم الباحثون عنصرين اثنين لتفسير هذه النتيجة:

- تتطلّب النصوص الوثائقية معالجةً معرفية أكثر تعقيدًا تتضمّن، على سبيل المثال، توظيف معجم أكاديمي خاص للغاية.

- تكون النصوص الوثائقية أقل ارتباطاً بالمعارف التي يمتلكها القراء عن العالم الحقيقي، وكل ذلك يجعل الفهم أكثر صعوبة بالنسبة إلى هذا النوع من النصوص، وفي الوقت نفسه أكثر حساسية لطبيعة الوسيط المستعمل في القراءة (ورق أو شاشة).

ولتفسير سهولة الفهم المرتبطة بالوسيط الورقي، فإن العامل الأول الذي يمكننا استحضاره يتمثل في عامل الخبرة. فبما أن التقنيات الرقمية جديدة نسبيًّا، فإن عادات القراءة على الشاشة أقل رسوخًا بالمقارنة مع القراءة على الورق. ولكي نختبر هذا العامل فإن إحدى الطرق التي يمكننا اللجوء إليها هي التحقّق ممّا إذا كانت الفروق الملحوظة على مستوى فهم النصوص تتضاءل بين الوسيطين في الدراسات الأحدث، التي يُظهر المشاركون فيها تعوّدًا أكبر على الشاشات.

غير أنه، وكما لاحظ ذلك ديلغادو وزملاؤه، فإن العكس تمامًا هو ما يحدث، فالفرق في الأداء المتعلق بالفهم بين الشاشة والورق يزداد في الدراسات الأحدث مقارنة بالدراسات التي سبقتها. وبالتالي فإن النقص النّسبي للخبرة المرتبطة بالتكنولوجيا لا يقدّم تفسيراً مقنعاً لمزايا الورق على مستوى القراءة.

تجربة حسيّة

فهل يكون إذن الطّابع المادي للكتاب المطبوع هو العامل الحاسم هنا؟ إن قراءة كتابٍ ما لا تتطلّب تحليل ومعالجة النص المكتوب فحسب، وإنما أيضًا الربط بين محتوًى وشيء مادي غني من الناحية الحسيّة. يساعد شكل الكتاب إلى جانب غلافه ورائحته وسُمك صفحاته دماغنا على دمج المعلومات التي ترد إليه والاحتفاظ بها بشكل أفضل مع مرور الوقت.

لا ريب أن تخزين آلاف الكتب قد مكّن الألواح الرقمية وأجهزة القراءة الإلكترونية من تخفيف الحقائب المدرسية، إلا أن قراءة الكتب المدرسية والروايات على الوسائط الرقمية تكون مقرونة بتجربة حسّية أقل إثارة، وبالتالي لن يتم معالجتها وتخزينها في الذاكرة على نحوٍ جيّد. وتسير نتائج الدراسة التي نُشرت مؤخرًا من طرف مانغن (Mangen) وأوليفييه (Olivier) وفولي (Velay) (2019) في نفس الاتّجاه.

لقد طلب مؤلفو هذه الدراسة من المشاركين قراءة نص سردي طويل باستخدام إما كتاب ورقي أو قارئ إلكتروني. وإذا كان الأداء المرتبط بالفهم كما تمّ قياسه متطابقاً بشكل عام، كيفما كان الوسيط المستعمل، فإن القراءة على الورق مكنّت المشاركين من أن يتذكّروا بشكل أفضل أين ظهرت الجُمل تحديداً في النص ووفقا لأي ترتيب وقعت الأحداث.

ومن ثم، فإن المؤلفين يرون أن التعامل مع كتاب حقيقي (ورقي) أثناء القراءة يزوّد القارئ بمعلومات حسيّة وحركية أكثر ثراء، مما يجعل من الممكن معالجة وتخزين النص في الذاكرة بشكل أفضل والتنظيم الزمني للأحداث الموصوفة.

تدفعنا البيانات العلمية المتاحة حالياً؛ إلى الاستمرار في تفضيل قراءة الكتب المطبوعة إن نحن أردنا تعزيز فهم ما نقرأ وحفظه في الذّاكرة.
 


انقر الشعار للولوج إلى المقال الأصلي

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها