التُّراث الحساني.. وعاء ثقافة البيضان

حوار مع الباحث المغربي الغلى بوزيد

حاوره: فيصل رشدي

◀ يرتبط التراث لدى الشعوب بماضيها وحاضرها وحتى مستقبلها؛ لذلك تراهن على صونه وحفظه من المخاطر التي تواجهه في ظل الطفرة التكنولوجية المعاصرة، والمغرب كسائر البلدان المتعددة الثقافات واللغات واللهجات، يمتلك تراثاً ضارباً في القدم، ارتبط بعادات شعبه من خلال الحكايات والأساطير والأمثال الشعبية والأحجيات، التي ظلت الألسن تتداولها إلى يومنا هذا.

 

◁ في جنوب المغرب تعد الحسانية لسان أهلها، فمن خلالها أبدعوا قصائدهم المجيدة وأمثالهم الحكيمة وأحجياتهم الثاقبة. وقد احتفظت الذاكرة المحلية في جنوب المغرب بذلك التراث الذي دونه أبناؤه أمثال: الباحث إبراهيم الحيسن ونجاح يوسف ولحبيب عيديد والغلى بوزيد، هذا الأخير اهتم بالتراث وكتب فيه وأنجز كتباً عديدةً ومتعددة عنه.

 

◀ الدكتور بوزيد الغلى، باحث مغربي، من مواليد مدينة آسا جنوب المغرب عام 1971، تحصل على الدكتوراه في الدراسات الإسلامية من جامعة محمد الخامس عام 2005.

 

◁ لم يمنعه التخصص من البحث في مجال الثقافة الحسانية، بل أبدع فيها، وبالموازاة مع ذلك كتب في الأدب والنقد، ونشر العديد من الدراسات في المجلات العربية الواسعة الانتشار.
 


 

◀ أصدر العديد من الكتب من بينها: زاوية آسا: جدل التاريخ والأسطورة (2010)، دراسات في المأثور الشعبي الحساني (2013)، عتبات صحراوية: قراءة في المنجز السردي والأكاديمي في الصحراء (نماذج مختارة) 2015، التراث الشعبي الحساني: ثراء وتنوع 2017. وفي الحوار التالي نستقرئ معالم التجربة البحثية للدكتور بوزيد الغلى في التراث الحساني.


 

الحسانية وعاء لثقافة البيضان، باعتبارك باحثاً في هذا الحقل، ما الذي يمكن أن تفيدنا به حول الثقافة الحسانية، من حيث الوعاء اللغوي، والامتداد الجغرافي؟

شكراً لكم في البدء والمنتهى، الحسانية تُنمى إلى بني حسان الذين تتفق الروايات التاريخية على مقدمهم ضمن الهجرات المعقلية، واستقرارهم بمجال البيضان الممتد حسب عبارة الشيخ محمد المامي أحد أهم أعلامهم وفقهاء باديتهم: "ما بين نهر شمامة إزاء السنغال جنوباً إلى الحمادة (جنوبي سجلماسة) والساقية الحمراء، إلى حدود بلاد سوس شمالاً"، ويجاريه في هذا الطرح أحمد بن الأمين الشنقيطي حينما يقول: "أرض مشهورة، وهي آخر شنقيط من جهة وادي نون، تبعد عن شنقيط عشرين يوماً"؛ إذن الامتداد الجغرافي جعل البيضان كياناً ثقافياً موزعاً بين جنوب المغرب والجزائر وموريتانيا، وصولاً إلى حدود نهر السنغال الذي كان يسمى نهر صنهاجة. الحسانية هي الوعاء اللغوي كما قلت، وهي مزيج من العربية الفصحى وكلام صنهاجة (الأمازيغ) فضلاً عن مواد معجمية تعود جذورها للغات الإفريقية. ولك أن تعلم مثلا أن "مارو/ الأرز (كلمة أولفية سنغالية)، كَرتَه/ الفول السوداني كلمة أولفية، امبورو/ الخبز (كلمة أولفية سنغالية).

هل يمكن للبحث أن يدلنا على البدايات الأولى المفترضة للشعر الحساني، وكيف كانت وأين؟

أعتقد أن البحث عن البدايات الأولى للشعر الحساني يكاد يكون من قبيل البحث عن أيهما أسبق: البيضة أم الدجاجة؟ صحيح أن هناك اجتهادات حريّة بالتأمل والاستئناس من قبيل ما ذهب إليه صاحب كتاب (الشعر والشعراء في موريتانيا)، من أن أقدم صنف من أصناف الشعر الحساني مبثوث في فن "التهيدين" دون أن يحدد بداية دقيقة لهذا الشعر، ولعل أحدث الاجتهادات يتضمنها كتاب يوسف نجاح الصادر منذ أيام تحت عنوان: المتدارك من أعلام أولاد مبارك (1712-1899م)، الذي يحفر في تاريخ الموسيقى الحسانية من داخل إمارة أولاد مبارك.

ماذا يمثل الشاعر سدوم ولد انجرتو في مسيرة تطور الشعر الحساني؟

يشبه بعض الباحثين سدوم ولد انجرتو بامرئ القيس لأنه كان يغرب في شعره. ديوان سدوم الذي اطلعت عليه مخطوطاً يضم ألفاظاً كثيرةً من معجم الحسانية المهجور، من هنا يتوارد إحساس المتلقي لشعره بظاهرة الإغراب في الشعر (غريب اللغة)، إذ إن سنة تطور اللغة الحسانية كغيرها من اللغات أحلت بعض الألفاظ محل بعضها المهجور، ومن المفيد القول: إن معجم شعر سدوم وغيره من كبار شعراء الحسانية الأوائل يحتاج إلى دراسات مصطلحية، تتبع تاريخ كثير من المفردات التي قد نعثر على أصولها العميقة في الفصحى أيضاً.

الأمثلة الحسانية التي جاءت في كتابك "دراسات في المأثور الشعبي الحساني"، في باب الاستعارة تبدو مواكبة للوقائع اليومية التي يعيشها الإنسان الحساني، إلا أن هناك بعض الأمثال التي قد يلتبس فهم القارئ العادي لقصدها مثال ذلك: "اللي ما نافق وافق" ما المقصود بهذا المثل؟

أنجزت دراستين في الأمثال الحسانية معتمداً على مدونات الأمثال الصادرة في موريتانيا، ومدونات الأمثال التي عملت مع باحثين على جمعها ضمن مشروع تشرف عليه وزارة الثقافة المغربية، وقد ذكرني سؤالك عن دلالة المثل القائل: "اللي ما نافق ما وافق"، بكتابي الأخير "نفاضة الذاكرة الشعبية الحسانية: أضواء على قيم المجتمع الصحراوي من خلال أمثاله الحسانية". فهل يحمل هذا المثل تسويغاً وقبولاً للنفاق كقيمة أخلاقية سلبية وسالبة للمروءة؛ لأن النفاق ليس من شيم أهل المروءة؟

أعتقد أن النفاق هنا تختلف دلالته بحسب سياقه التداولي، والغالب عند البيضان هو تغليب المداراة التي تحدث عنها الشيخ محمد المامي ووسع دلالتها في كتابه البادية، لقد درج الناس على القول: "ودارهم ما دمت في دارهم .. وأرضهم ما دمت في أرضهم". أما النفاق بمعناه الذي ينصرف إلى إضمار عكس ما يبطن المرء، فهذا مذموم. وأعتقد أن من نتائجه في مجتمع الزمن الراهن انتشار ما يسمى بالنفاق الاجتماعي.

ماذا عن مكانة المرأة في الثقافة الحسانية؟

ينبغي أن ننظر إلى مكانة المرأة البيضانية من خلال مقارنة المصادر التي تحدثت عنها؛ كي نفسر ظواهر يعتبرها الكثيرون من مظاهر تكريم المجتمع الحساني للمرأة، فالمرأة في ولاته مثلاً (وهي من بين حواضر البيضان العلمية) اختلفت وضعيتها بين وصف ابن بطوطة ووصف الحسن الوزان، إذ حلّ محل السفور واتخاذ الأخذان نمط محافظ، هو ما نعرفه تقريباً إلى اليوم، وإذا عزّ على بعض الناس تعليل عبارة شهيرة "كلما زاد عدد حالات طلاقها كلما زاد مهرها"، فالمطلقة عند البيضان لها وضع موروث من عادة صنهاجية يضرب لها مثلاً بزينب النفزاوية، التي راكمت من الأزواج مثلما راكمت من الجاه، والاحتفال بالطلاق عند المرأة البيضانية، وإن كان جوهره هو الإعلان بانفكاك عصمتها وإمكان تقدم الخاطبين إليها، فإنه يستبطن أيضاً جذوراً ثقافية عميقة.

ومع أن السمة الغالبة لصورة المرأة في المثل الحساني إيجابية للغاية تصلح للتدليل على مكانة المرأة في المخيال الاجتماعي للبيضان، كما أوضحت في كتابي "دراسات في الماثور الشعبي الحساني"، فإنها لا تخلو من محمولات سلبية يمكن الوقوف عليها بالرجوع إلى الكتاب وإلى غيره من الدراسات التي أنجزت في هذا الصدد.

لقد انتقلنا في الزمن الراهن من الخطاب حول المرأة، أيّا كان مصدره (كتب، فتاوى، مأثورات شعبية...) إلى خطاب المرأة حول المرأة ممثلاً في المنجز الشعري والنثري، وخاصة السردي منه، إذ برعت أقلام نسائية في الكتابة عن المرأة وشؤونها وشجونها، مثل الروائية البتول المحجوب لمديميغ في روايتها: "سيدات الكثيب"، سعاد ماء العينين في مجموعتها القصصية الصادرة بالفرنسية "Fleurs des sables"، بالإضافة إلى كتاب الدكتورة العالية ما العينين "نساء على أجنحة الشعر"، الذي درست فيه نماذج مهمة من شعر النساء البيضانيات المعروف بالتبراع.

تشكل الحكاية مادة خصبة للمستمعين، وأكيد أن هناك عدداً من الحكايات الحسانية ذات المغزى. لماذا انصب اهتمامك فقط على "حكاية سريسرذهبو" و"طولة" دون سواهما من الحكايات؟

هذا سؤال ينم عن الذكاء، أشكرك على إثارته، فقد بينت في كتابي "دراسات في المأثور الشعبي الحساني" أن حكاية سريسر ذهبو وطولة، ليس سوى نموذجين ارتضيتهما للدراسة من منطلقات شخصية ومنهجية، فمن حيث الدواعي الشخصية انطبعت في مخيلتي قصة البطولة التي تمثلت في أبهى صورها في مسارات "البطلة سريسر ذهبو"، وهي تعكس في الحقيقة انتصار الخير على الشر، وانتصار قيم العدل؛ لأن الأمة/ الخادم كمبة التي أذاقت البطلة صنوفاً من الأذى انكشفت حقيقتها في نهاية المطاف، ونالت جزاءها، كما نالته أيضاً زوجات إخوة سريسر ذهبو اللائي تآمرن عليها. الحقيقة تظهر، ولو بعد حين، والحين كما يقول بعض مفسري الآية الكريمة {هل أتى على الإنسان حين من الدهر}، إنه يمتد من لحظة إلى أربعين عاماً، وإذا ظهرت شمس الحقيقة انكشفت كل الغيوم.

لقد كانت دراسة الحكايتين اللتين ذكرنا حلقة ضمن سلسلة دراسات حول حكايات أخرى، وأتمنى أن تتاح الفرصة لاستكمال دراسة نماذج أخرى من المتن الحكائي الثري في الصحراء في مستقبل الأيام.

في كتابك "عتبات صحراوية قراءة في المنجز الشعبي والأكاديمي في الصحراء (نماذج مختارة)"، انتقيت بشكل موفق عدداً من الأعمال السردية، ما المعيار المعتمد في هذا الانتقاء؟

لم يكن المتن السردي بالصحراء خلال الفترة التي أنجزت فيها الدراسة قد بلغ ما بلغه اليوم على مستوى كمّ الروايات والمجموعات القصصية الصادرة، وقد كان همي الأول هو تعريف القارئ العربي بهذا المنجز السردي الذي يمثل انعطافة مهمةً من دائرة الشعر إلى رحاب السرد. وهذه سانحة مهمة لأقول بأنني فرغت من دراسة روايات أخرى، والكتاب النقدي الثاني الذي يحمل عنواناً عريضاً: الصحراء والسرد، قد يكون جاهزاً خلال مستهل العام القادم بحول الله، وأتمنى أن يرى النور بعد ذهاب ريح الوباء الكريه.



الغلى بوزيد
 

أنت كاتب تكتب الروايات، كيف استطعت أن توظف التراث في الإبداع؟

تجربتي مع الكتابة السردية بدأت بالقصة القصيرة، إذ نشرت نصوصاً قصيرةً في فترات متباعدة لعل من أهمها: "العائد" التي شغفت بها، فترجمتها إلى الفرنسية تحت عنوان: "Le survivant"، وراجع الترجمة المترجم القدير هيبتن الحيرش، وهي متوافرة على الشبكة العنكبوتية، ثم انتقلت لاحقاً إلى إعادة كتابة نص سير ذاتي نشرته على حلقات تحت عنوان: "أيام الجد والنشاط"، وهو يمثل في الحقيقة خامة نص روائي لا يشبهه، بل تحرر منه كما يتحرر الجنين بعد انقطاع حبله السري، واستوى عملاً أتطلع إلى نشره، وهو رواية الطلح لا يخطئ القِبلة".

ما العوائق التي تقف في وجه الباحث في مجال التراث الحساني؟

العوائق تلخصها عبارة: "كثر البحث وقلّ الباحثون"... هناك عوائق تتعلق بالكسل الذي يخيم على بعض الباحثين، الذين لا يعتمدون سوى على أذيال وهوامش بحوث جامعية تجمع بين الغث والسمين والصحيح والسقيم. البحث في التراث اللامادي ينبغي أن يرتكز على الميدان، على استقاء المادة من مصادرها، من أفواه الشيوخ والعجائز، وهذا أمر مرهق لمن يستسهل البحث الأكاديمي، وهذا في الحقيقة عائق يتعلق بذات الباحثين، والعائق الثاني هو انعدام مراكز البحث العلمي في عموم الصحراء، وقلة دعم المؤسسات. لا أدري ما هي وظيفة المعهد العالي للتراث، إن لم يكن النزول للميدان ومصاحبة الباحثين ودعم مشاريعهم البحثية. كل الأعمال التي ينجزها باحثون غيورون على تراث الصحراء لا تخرج عن مبادرات فردية، وما عدا مشروع جمع وتدوين الحكايات والشعر الحساني الذي تشرف عليه مديريات الثقافة، تبقى الصحراء إلى موعد غير معلوم قاعاً صفصفاً لا ترى فيها مؤسسة بحثية ولا مؤسسة جامعية معنية بتراث المنطقة المادي واللامادي.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها